داخل القصر الجمهوري في بغداد، بدا وكأننا نشاهد مقطعا مماثلا لما جرى في سريلانكا، حين فر الرئيس واقتحم المتظاهرون القصر الرئاسي لتطالعنا الصور والفيديوهات لمتظاهرين يستمتعون بالرفاهة الرئاسية من مقرات ومكاتب وحمامات سباحة.. ولكن شيئا آخر كان يحدث في تلك الأثناء إذ بدت البلاد وكأنها على مشارف حرب أهلية جديدة.

وفي المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية -حيث مقرات صنع القرار والسفارات الأجنبية- دارت اشتباكات قوية بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، بين أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من جهة وقوات الأمن من جهة أخرى، في التاسع والعشرين من أغسطس/أب 2022.

بينما شهدت أماكن أخرى متفرقة اشتباكات بين “الصدريين” وفصائل مسلحة تابعة لأحزاب الإطار التنسيقي -القريب من إيران- ما أسفر في النهاية عن أكثر من 30 قتيلا ومئات الإصابات، في ليلة فُرض فيها حظر التجول، وتكالب زعماء العالم على الدعوة للتهدئة.

هذه الأحداث الدامية كانت نتاجا لأشهر عشرة من الانسداد والتصارع السياسي بين مكونات البيت الشيعي.ولكنها تفجرت سريعا وبشكل مفاجئ إثر بيان صادر عن المرجع الديني كاظم الحائري والذي بدا فيه وكأن إيران تُلاعب مقتدى الصدر.

بيان فجر غضب الصدر ليعلن اعتزاله العمل السياسي ويمنح أنصاره ضوءا أخضر بالنزول إلى الشارع بلا ضوابط أو كوابح. وهو ما تحقق بعد وقت قصير من بيانه ليقتحم الآلاف القصر الجمهوري والعديد من المباني الحكومية، قبل أن تهدأ الأمور في اليوم التالي بعد أن دعا “سماحته” أنصاره للهدوء والانسحاب. وقدم اعتذاره للشعب العراقي، معبرا عن حزنه لما جرى، ومؤكدا أن اعتزاله العمل السياسي “نهائي”.

أنصار الصدر داخل القصر الجمهوري في العراق
أنصار الصدر داخل القصر الجمهوري في العراق

ما هي جذور الأزمة؟

ترجع جذور الأزمة إلى المواجهة المستمرة منذ 10 أشهر، والتي بدأت عندما خرج الصدر منتصرا في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول البرلمانية، وسعى بعدها لتشكيل حكومة وفقا لشروطه، بيد أن خصومه عرقلوا مساعيه.

إذ أراد تشكيل “حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية”، أي لا تخضع لنفوذ إيران ولا الولايات المتحدة. وسعى جنبا إلى جنب مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني والكتل السنية بقيادة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان، إلى كسر القاعدة التي اتُّبعت بعد عام 2003 المتمثلة في تشكيل “حكومات توافقية”، بحسب موقع “أمواج ميديا“.

لكن الصدر فشل في الحصول على الأغلبية الكافية، فأوعز إلى نواب البرلمان من كتلته لتقديم استقالتهم في في يونيو/حزيران، ما فتح الباب أمام الإطار التنسيقي لاختيار رئيس الحكومة، لكن الصدر اعترض ليقتحم أنصاره مبنى البرلمان ويمنعوا انعقاد جلساته مع نهاية يوليو/تموز الماضي.

ودعا الزعيم الشيعي حينها إلى انتخابات مبكرة وحل مجلس النواب، كما طالب بإصلاحات دستورية. وفي الوقت نفسه، رفض أي “حوار مع الفاسدين”، في حين قوبلت دعوته لعقد “مناظرة علنية ببث مباشر” بالرفض من قبل منافسيه في الإطار التنسيقي.

أنصار الصدر يرفعون صورة مقتدى إلى جوار لافتة الرئيس
أنصار الصدر يرفعون صورة مقتدى إلى جوار لافتة الرئيس

والإطار التنسيقي هو المصطلح الذي يشير إلى الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ويضم كتل “دولة القانون” برئاسة المالكي، مع تحالف “الفتح والبناء”برئاسة هادي العامري، و”قوى الدولة الوطنية” برئاسة عمار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وأحزاب شيعية أخرى.

ويري أستاذ العلوم السياسية، قاسم الربيعي، أن قوى الإطار التنسيقي وعلى رغم تحشيد جماهيرها لغرض التظاهر والاعتصام أمام “الخضراء”، إلا أنّ حراكها بدا محدودا إذا ما قيس بتحشيد أتباع الصدر، وهو ما يدلّ على أن قوى الإطار لا يمتلكون قاعدة شعبية واسعة، وأطرافها لا يصنفون كأحزاب جماهيرية، بل عبارة عن تشكيلات بعضها تتبع لسياسيين هم في الأصل رجال أعمال طائفيين أو رجال ميليشيات، وأغلب قواعدهم الشعبية مصدرها مقاتلو “الحشد الشعبي” وعائلاتهم.

فيما يلفت الباحث العراقي، صلاح الموسوي، إلى أن غياب قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني (قُتل بغارة أميركية على مطار بغداد في مطلع عام 2020) أثّر بشكل واضح في القرار السياسي الداخلي لـ”الإطار”، وفي القدرة على توحيد القوى الشيعية وإرضاء مقتدى الصدر واحتوائه والتعامل معه بما يتلاءم مع شخصيته ومصالحه. ولم يستطع إسماعيل قآني، خليفة سليماني، تأدية هذا الدور بعد غيابه.

مقتدى الصدر وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني
مقتدى الصدر وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني

كيف ظهرت الأصابع الإيرانية؟

في 27 آب/ أغسطس، نشر صالح محمد العراقي، المعروف بوزير الصدر، تغريدة دعا فيها الأحزاب والشخصيات التي شاركت في العملية السياسية منذ عام 2003، إلى توقيع اتفاقية خلال مدة 72 ساعة، تتعهد فيها بعدم الاشتراك في العملية السياسية.

قبيل انتهاء المهلة الزمنية، أعلن المرجع الديني كاظم الحائري-أحد أبرز المراجع الشيعية، وعُرف بقربه من محمد صادق الصدر، والد مقتدى- اعتزاله العمل الديني، وعلّل ذلك بتراجع صحته، داعيا أتباعه إلى طاعة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي.

وفي بيانه وجّه الحائري بعض الكلمات القاسية إلى مقتدى حين قال إن “من يسعى إلى تفريق الشعب والمذهب.. أو التصدي للقيادة، فهو فاقد للاجتهاد وليس صدريا مهما ادعى أو انتسب”. وتنبع خطورة موقف حائري في كونه يعد المرجعية الدينية للتيار الصدري (بعض أفراد التيار لا يتبعون مرجعيته) في ظل أن مقتدى لم يرتق لمكانة المرجع ولا يتمتع بالزعامة الدينية أو الروحية.

تفجر غضب الصدر من هذا التصريح، ورد عليه نافيا قيادة الحائري للحوزة الصدرية. وقال: “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري، أن القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم. كلا، إن ذلك بفضل ربي وفيوضات الوالد الذي لم يتخل عن العراق وشعبه”، في إشارة إلى استقرار الحائري في مدينة قُم الإيرانية.

وأضاف: “على الرغم من تصوري أن اعتزال المرجع لم يكن من محض إرادته… وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضا… إلا أنني كنت قد قررت عدم التدخل في الشؤون السياسية فإنني الآن أُعلن الاعتزال النهائي وغلق كافة المؤسسات إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام… والكل في حل مني… وإن مت أو قُتلت فأسألكم الفاتحة والدعاء”.

“لأن الحائري يحظى بأتباع كثر داخل معظم القوى السياسية الشيعية، بما فيها المسلحة، فإن صلة الصدر به تبدو أكثر إلحاحا، للحصول على مشروعية دينية، تمتد بطبيعة الحال إلى تيارات وأقطاب قد تكون على خصومة مع الصدر نفسه. صحيح أن هذه الصلة، لم تمنح الصدر غطاء فقهيا يتناسب مع مشروعه الكبير للتحول إلى الزعيم الأول في العراق وداخل البيئة الشيعية، لكنها كانت تعويضا عن مرجعية مفقودة بأخرى يمكن الاندراج فيها، وهذا تحديدا ما انتبهت له إيران وحاربت الصدر به، حيث جردته من آخر سند فقهي”، يعلق موقع “درج“.

وتوقيت الضربة الإيرانية للصدر “ليس بريئا”، إذ جاءت قبل يوم على قرار المحكمة الاتحادية بشأن مطلب الصدر بحل البرلمان (أجلّت إصدار قرارها على إثر الاشتباكات)، ما دفع الزعيم الشيعي إلى التصعيد.

يضيف الموقع اللبناني أن إيران لم تتمكن من مواجهة الصدر بأدواتها التقليدية، من اغتيالات ومليشيات وتخوين، فهذا الزعيم هو “ابن هذه الأدوات، إن لم يكن مخترعها، وصاحب التجربة الطويلة بها”. وفوزه الكاسح بالانتخابات وعدم قبوله إشراك حلفائها في الحكومة التي يريدها، أحرج الجمهورية الإسلامية، خصوصا وأنها لا تريد حربا شيعية – شيعية، تربك استراتيجيتها في السيطرة على العراق وإخضاع قراره بما يناسبها.

ومن هنا، لم يكن أمام طهران سوى توجيه هذه الضربة إلى الصدر، ضربة “هدفها تجريد الزعيم الواسع الشعبية، من أي مشروعية دينية داخل البيئة الشيعية، أي بمعنى آخر محاولة عزله داخل الطائفة، وجعل سلوكه السياسي بدون سند فقهي”.

مقتدى الصدر
مقتدى الصدر

ما الذي يحمله المستقبل؟

هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الصدر اعتزاله السياسة ففي عام 2014، انسحب من العملية السياسية وجمد أنشطة التيار الصدري وعمل نوابه، وسبقها واقعة مماثلة في 2013 ولم تدم سوى شهر واحد.

وفي حين أن “الاعتزال النهائي” قد حشد أنصاره بالفعل، يُنظر إلى رجل الدين والسياسي الشيعي على نطاق واسع على أنه يُصعّد بغرض التهدئة، وفقا لتفسير “أمواج ميديا”، الذي يضيف: “في الواقع، لا ينبغي التقليل من جهوزية الصدر واستعداده للتوجه إلى سياسات الشارع لتحقيق ما لا يستطيع تحقيقه في العملية السياسية الرسمية”.

بينما على الجانب الآخر “من المتوقع أن يستثمر الإطار التنسيقي الشيعي في الدعوات الدولية للحوار لحل الخلافات وأن يكررها. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كان الإطار التنسيقي سيتراجع عن مساعيه لعقد جلسة البرلمان وسط اعتراضات الصدر”.

حمزة حداد، الباحث الضيف في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية (ECFR)، قال إن إعلان الصدر اعتزاله العمل السياسي “ليس واضحاً تماما”، مضيفا لوكالة “فرانس برس”: “بناء على مواقفه السابقة، يمكننا أن نتوقع منه التراجع (لكن) وهذا أكثر ما يخيف، قد يدعو هذا للاعتقاد بأنه يعطي أتباعه الضوء الأخضر لفعل ما يشاؤون، بقوله إنه لم يعد مسؤولا عن أفعالهم”.

من جانبه، قال الخبير الأمني والاستراتيجي، فاضل أبو رغيف، للوكالة الفرنسية، ردا على سؤال عن هدف التيار الصدري، إن “الهدف هو إرغام الزعامات السياسية التي تمسك سلطة البرلمان والحكومة على حل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة”. ورأى أبو رغيف أن “العراق ذاهب إلى مزيد من الانسداد والاحتقان”. مع ذلك، استبعد وقوع نزاع مسلح بين الأحزاب الشيعية.

أرشيفية
أرشيفية

يعتقد الباحث السياسي حمزة الحردان، أن من الصعوبة التنبؤ بمستقبل هذه الأزمة، وخطوتها التالية، نظرا إلى عدم وضوح موقف المرجعية الدينية التي تمتلك تأثيرا كبيرا على حراك الشارع بشقّيه، باستثناء بعض مقلّدي مرجعيات خارج العراق.

ويقول إن “هذه الأحداث تؤكد أن الحكومة المقبلة لن تكون على غرار الحكومات السابقة، وأن التغيير الجذري سيكون حتميا فيها”، ولا يستبعد أن يتم عزل الكثير من الوجوه السياسية والقيادية الفاعلة حاليا، من أجل إبعاد نفسها عن صفة “الوقوف في وجه مشروع التيار وحلفائه، خاصة أن مثل هذه الصفة قد تشكل فجوة يصعب ردمها، وتمنع استمرار العملية السياسية بسبب قرب الصدر الكبير من الشارع وموقفه منهم ومن العملية السياسية بشكل عام”.

والسيناريو الأسوأ هو أن يعقد الإطار التنسيقي جلسة برلمانية ضمن مساعي تعيين رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة، وهو ما قد يؤدي لتفجير الأوضاع -بحسب ما يظن المحلل السياسي، نبيل العزاوي.

ورغم أن هذا هو المسار القانوني الطبيعي، بعد استقالة التيار الصدري من البرلمان وضمان الإطار للأغلبية قبل اعتزال الصدر نهائيا، فإن العزاوي يقول “على الإطار أن يقرأ رسائل التيار الصدري وألا يذهب بعيدا .. ويشكل الحكومة. عليهم أن يقدموا رسائل اطمئنان بحل البرلمان والذهاب لانتخابات مبكرة لتهدئة الجماهير الغاضبة”.

وفيما يعتبر أغلب المحللين العراقيين، أن حل البرلمان “ضرورة ملحة” لتجنب التصعيد في البلاد، إلا أن تحليلا نشره “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” أشار إلى عدم جدوى إقامة انتخابات مبكرة جديدة في العراق لمجرد أن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يريد ذلك. وأشار التحليل إلى أن المضي بهذه الخطوة سيؤدي إلى “تآكل ما تبقى من ديمقراطية في البلاد وإلى ترسيخ الأحزاب الفاسدة”.

في النهاية، يبدو مستقبل العراق وكأنها بئر نفط مشتعل يبحث عمّن يُطفئه. والآن فإن بغداد على مفترق الطرق، فإما أن تتجه إلى طريق التصعيد وصراع يُلهب آبارها وإما أن تدرك كل الأطراف خطورة المآل وتسعى للملمة الأزمة.