هل يمكنني أن أقول إن هذا ليس مقالًا عن كرة القدم، رغم أنه في الظاهر يتحدث عنها. فحديث الكرة هو حديث ألغام، بشكل ربما صار أصعب من حديث الدين أو السياسة. ومستوى ثقافتك أو تعليمك، لن يحميك من إلغاء المنطق والصياح بمنطق القبيلة.
أفهم أن الكرة صارت أو ربما كانت منذ بدايتها منفذًا لمشاعرنا البدائية، كالعصبية والغضب والرغبة في إقامة حرب. بل أنها صارت وطنًا بديلًا يمكن للناس فيه أن يتغنوا بالموت من أجله. وهو ما لم أفهمه، وإن فهمته فلن يكون معناه إلا غصة في الحلق.
هذا إذًا ليس مقالًا عن كرة القدم، بل عن اللاشيء الذي يكمن تحت كل هذا الصراخ الذي يوحي من الخارج أن بركانًا يغلي داخله.. خلية نحل دؤوب.. وشيء شديد الخطورة يجري فيه، لكن لا شيء سوى العفونة والهشاشة. وهو الأمر الذي يعمل الجميع على إخفائه بادعاء الحركة، بالشراسة والعنف، التشبث بأمل تحويل أكثر المعارك تفاهة، ورخصًا إلى ملاحم قد تطول لسنوات. وهو ما ينتهي بالفشل. لا تنجح المعارك في إخفاء رائحة التفاهة والخراب. وهي تسعى يائسة كي تجعل لتلك التفاهة معنى، عبر مجازات الحرب والقبيلة وادعاء الرغبة في العدل وادعاء الانتماء للشرف ضد فساد الطرف الآخر.
ليتركني المشجعون العقائديون الذين يشهرون هويتهم كمشجعين كهوية أولى، أو هؤلاء اللذين يخفونها تحت أقنعة أخرى للتحضر. لكنهم على استعداد لإشهار همجية الرجل البدائي أو قذفك في جدال لا ينتهي. ورغم أن اللعبة هي أكثر ما ترصده الكاميرات ويوثقه التاريخ لحظة بلحظة، ستغرق في “كنيف خراء” ضربة الجزاء والتسلل والظلم. وهو أمر يمكن إثباته من كل الأطراف. فهي تتسم أول ما تتسم بغياب الذاكرة، لأن الحقيقة ليست مقصودها بل تلفيق الوقائع.
ليتركني هؤلاء خارج صياحهم، وليدعوني أتحدث عن الخراب، لا عن كرة القدم.
ما الذي يعنيه تبني قطاعات واسعة من جماهير ناد عرف بهزائمه طيلة عقدين على الأقل لنظريات المظلومية، وأن الفريق المنافس هو نادي الدولة والفساد، ثم يتبدل ذلك في أقل من عامين ليتبنى الفريق المنافس، نفس الأطروحة بالحرف. بل يجعل من نفسه الطرف المقاوم للفساد، ثم يخرج مسئول في النادي ليستنكر فكرة المؤامرة لكن على جماهير النادي المنافس فقط.
ما الذي يعنيه ذلك سوى أن لا أحد يصدق اللعبة، وأن في الجوهر لا أحد يريد العدل، لا رئيس النادي “الخلوق” ولا الرئيس ” السباب”؛ فعلى غياب العدل تأسست الأمور، أما الخراب فهو الشيء الوحيد اللائق بلعبة لم تعد كذلك، لم تكن ذلك، لأن العدل والتنافس الشريف إذا ما تحققا بالفعل، فلن يؤذن ذلك إلا بخراب الجميع، انكشاف الحقيقة، لا أحد حقا يريد محاربة الفساد، بل معايرة الآخر بفساده ومواصلة المكايدة، وإن انتهى ذلك الفساد حقا، فماذا سيتبقى من اللعبة سوى خسارة الجميع، سوى انكشاف أن تلك الحناجر التي يشقها على الصراخ، تصرخ على شيء غير تافه غير موجود، بل وتجعل منه رمزا لا يمس.
يحدث كل ذلك وقد تحول إعلام تلك الرياضة إلى ما يشبه إعلام الحرب، الانتماء أولا قبل الحقيقة، لا يوجد فارق بين إعلاميي الفريقين، سوى أن المكسب يقلل التون نسبيا، بينما الخسارة تفضحه، المنتصر سيؤكد أن “الفساد لم يكن فسادا، بل جزء من متعة كرة القدم”، المهزوم سيدعي أن الفساد هو سبب هزائمه، وأنه يرغب في محاربته، بينما رغبته الحقيقية أن تميل كفة الفساد إلى صالحه لا أن تختفي.
عندما يصحو إعلام الحرب الذي يشترك في تأجيجه الإعلاميون والجماهير على دماء مشجعين سيكون ذلك في رقبة الجميع.
إذا كان رئيس النادي “السباب” تتأسس انتصاراته على خبرته وتماهيه بالجانب المظلم من الدولة، الذي يؤمن أن القانون وجد ليخترق، وإن القوانين عبارة عن ألعاب وثغرات، الذي لا يتوقف عن تهديد الجميع بالفضيحة أو اختلاق واحدة، لأن مجتمعاً قائماً على الزيف، يعلم أن الجميع مذنب، وأن كل أطرافه يخبئون عورة.
نسيان جرائم “السباب” أمر سهل ليس لأنها ليست بينة، لكن لأنها تدعم قصص المتعصب عن نفسه.
أما الآخر، ذلك “الخلوق” فتصويره على أنه محارب للفساد، المتصدي لمحاولات الدولة لبيع ناديه، كما تشيع الصفحات الرياضية والمفوه الساذج علاء صادق، الذي يبتلع البعض هراءه، نعلم أن مثله لن يقف ضد الدولة إذا ما أرادت شيئا، بل سيكون أول من يسهل لها الأمر، لكن يمكن له أن يوحي بما شاء من أشياء دون أن يملك القدرة على ممارستها فعلا، الحقيقة أن في خطاباته وبياناته التي تنشد القانون، يخاطب الدولة بطريقة عكسية، الدولة التي تعرف أن القانون ليس هو الأهم ولا المؤسسة بل المظهر الذي يخفي كل عورة، أما النتيجة أو كيف تحقق المراد فعلا فلا يهم أحدا. نسيان ذلك أيضا سهل، ليس لأنه ليس بينا، بل لأنه يدعم قصص المتعصب عن نفسه.
الصراع نفسه يدور على من مجموعة قيم مفرغة من المعنى، صراع على من هو نادي “المبادئ ” بينما لا مبادئ بل برجماتية تستحل لنفسها ما لا تستحله لغيرها، ومن هو نادي “الكرامة” بينما تصريحات رئيس ناديه وتصرفاته لا تتسم بالكرامة بل تنتقص من كرامة مشجعيه.
عند الانتصار يكون المنتصر هو نادي الدولة والمهزوم مقاومًا، وعند الهزيمة تتبدل الأدوار بسهولة، لأنها من الأساس أدوار فوق خشبة مسرح، استعراض تافه للضلالات والأوهام، الكل يتبنى اللعبة، لكن في الجوهر لا أحد يصدقها، وإذا لم يصدقها أحد فلا لعبة من الأصل.
أما الدولة فلم تكن يوما إلا في صف نفسها، كل ذلك الصياح حول الخراب التافه يسعدها.