الساعة تقترب من الخامسة عصرا، والميكروباصات في ميدان المحطة فى أسيوط أشبه بخلية نحل، تحاول اقتناص أكبر عدد من الركاب، صيحات “عدرا عدرا ..نفر عدرا… عدرا فوق” تصدح فى الميدان معلنة عن جحافل من الزوار الذين يعتزمون زيارة دير العذراء بجبل درنكة طوال فترة الصيام او الموسم كما يطلق عليها، والتي تمتد لأسبوعين فقط فى العام منذ السابع وحتى الحادي والعشرين من شهر أغسطس من كل عام.

في قرية درنكة على بعد أكثر من عشرة كيلومترات من مدينة أسيوط، وعلى ارتفاع نحو مائة متر فوق سطح البحر في قلب الجبل الغربي يقع دير العذراء في صعيد مصر شامخاً يتحدى الزمن.

أكتسب دير العذراء شهرته من كونه المحطة الاخيرة في رحلة هروب العائلة المقدسة، بحسب الاعتقاد المسيحي، حتى بالرغم من وجود بعض المصادر التي شككت في صحة هذا الاعتقاد، حيث تروي القصة المتواترة أن الدير المحرق كان المحطة الأخيرة في رحلة الهروب قبل أن تعود العائلة المقدسة من جبل قسقام مباشرة إلى أورشليم.

تأسس دير درنكة حول مغارة ضخمة، طول واجهتها مائة وستون مترا وعمقها ستون متراً، منحوتة بدقة شديدة في بطن الجبل، تتوارد المصادر أن تاريخ حفرها يرجع لعصور قدماء المصريين نحو 4500 عام قبل الميلاد واستخدم كملجأ من الفيضان، أما التراث الشعبي المتوارث فيروي أن تلك المغارة كانت إحدى مخازن الغلال التي استخدمها يوسف النبي لمواجهة السنين العجاف السبع بحسب القصة التوراتية.

لا يوجد تاريخ محدد لنشأة الدير بشكله الحديث، الذي أقيم على أنقاض دير قديم أسسه القديس يوحنا الأسيوطي في القرن الرابع الميلادي، حيث أن أول شهادة موثقة عن تاريخ الدير الحديث أرخها عالم القبطيات الألماني الشهير أوتو فريدريش أوجست ميناردوس (1925-2005) فيقول “عبر مجهود المطران أنبا ميخائيل على أسيوط، تم إعادة بناء الدير ليستوعب الأعداد الكبيرة من الزوار، الكنيسة الجديدة للعذراء القديسة بُنيَت سنة 1955، الكنيسة السابقة والأبنية المُؤسَسَة في المغائر والمُستَعمَلة من الرهبان لا تزال مرئيّة”.

وعبر ستون عاماً وحتى نياحته “وفاته” عام 2014 كان تعمير دير العذراء الشهير بدير درنكة هو الشغل الشاغل للأنبا ميخائيل مطران أسيوط، ومر الدير عبر مراحل متعددة من التعمير بداية من تمهيد الطريق الجبلي الوعر من بوابة الدير على جانب الطريق الزراعي، وحتى كنيسة المغارة، ليصبح صالحاً لسير الأفراد ومن ثم السيارات، ثم إنارة الدير بالكهرباء عن طريق دينامو كهربي في البداية وحتى تم توصيل الكهرباء بشكل دائم لاحقاً.

وبمرور الوقت بدأ الدير يكتسب شعبية باطراد ثابت بعد أن كان في البداية مقصداً للطبقة المهمشة والمتوسطة، ومع مرور السنوات تحول الدير لما يشبه مدينة صغيرة في حضن الجبل، تزدحم بالزوار خلال شهر أغسطس من كل عام، وتحول الدير من مكان روحي إلى مقصد سياحي ومسرحاً لاستعراض القدرة المالية والاجتماعية فيما يمكن تسميته بالنسخة المسيحية من الساحل الشمالي.

البداية كانت مع نظام استضافة الأسر والعائلات الذي أسسه أنبا ميخائيل المطران الراحل منذ عقود، وهو نظام يسمح للعائلات بتأجير غرفة سكنية بسيطة متواضعة “على المحارة” في قلب الدير خلال فترة الموسم، يتراوح ثمن إيجارها ما بين بضع آلاف إلى عشرات الآلاف من الجنيهات طبقاً لمكان ومستوى الغرفة نفسها، أغلاهم سعراً غرف منطقة “الصخرة” وهي أعلى نقطة في الجبل، وتتميز بهواها العليل وبإطلالتها الفريدة على سفح الجبل من ارتفاع يتجاوز المائة متر عن سطح البحر، وتعتبر منطقة الصخرة هي الحي الأرستقراطي في الدير.

ثم يتدرج مستوى الغرفة مادياً نزولاً بحسب موقعها، مروراً بالغرف متوسطة المستوى والموقع ومن ثم السعر والتي تطل على الطريق الصاعد للأعلى، وصولاً للغرف الأدنى والتي بنيت في قلب الجبل حرفياً حيث لا يدخلها لا هواء ولا ضوء الشمس.

أكثرية الأسر أصبحت تتحايل بخصم تكلفة إيجار الغرف السنوي من عشورهم، وتخصص لهم نفس الغرفة ذاتها بدون تغيير كل عام شريطة الاستمرار في دفع المبلغ المقرر سنوياً، والذى يزداد سنوياً ايضاً.

فإن تقاعست الأسرة سنة واحدة عن دفع قيمة الإيجار لأي سبب حتى لو خارج عن إرادتها، فقدت أحقيتها في استئجار غرفتها، ومن ثم عليها الانتظار في طابور لا ينتهي من قوائم الانتظار للحصول على أحقية تأجير غرفة أخرى، حتى أصبح فقدان  الأسرة لغرفتها المعتادة في الدير أمراً مشيناً.

وبمرور الوقت أصبح مشروع الاستضافة يدر على إدارة الدير دخلاً فلكياً، خاصة مع الطلب المتزايد عاماً بعد عام، والذي يقابله إنشاء بنايات جديدة في داخل حدود الدير بشكل مطرد.

وبالرغم من الذكاء الاقتصادي الذي أسس ورسخ لمشروع استضافة العائلات، إلا أن العبقرية الاقتصادية الحقيقية تجلت في تأسيس نظام الخدمة.

ادفع لتقُبل خادمًا

في الستينات والسبعينات ومع ازدياد شعبية الدير وارتفاع عدد الزوار السنوي، كان الدير يستقبل عدداً من المتطوعين من أبناء الكنيسة يطلق عليهم لقب “خدام”، للمشاركة في الأعمال التنظيمية والتي تستدعي جهداً عضلياً، بداية من نظافة الدير والإشراف على الأمن وإعداد المأكولات والوجبات والمشروبات التي تباع للزوار، والعمل في منافذ البيع المختلفة.

وفي المقابل كان الدير يستضيف الخدام المتطوعين استضافة كاملة ويوفر لهم أماكن متواضعة للمبيت مع ثلاث وجبات يومية، وبمرور الوقت ومع ازدياد الطلب على المشاركة في العمل التطوعي (الخدمة)، بدأ الدير منذ عقود في تحصيل مبالغ نقدية من المتطوعين لقبولهم كخدام في الدير في الموسم، يدفعوها عن طيب خاطر للحصول على شرف المشاركة في خدمة الدير، والحصول على لقب “خادم” وهو شرف لا يساويه شرف.

يبدأ الدير في استقبال طلبات التطوع قبل بداية الموسم الفعلي بوقت كاف، مع تزكية من الأب الكاهن الذي يتبع له المتطوع، وفرزها واختيار العدد المطلوب من الخدام الذين يقدر عددهم بالآلاف، وتوزيعهم على الخدمات المطلوبة، بحيث يصبح لكل خادم عمل معين يقوم بأداءه في أوقات محددة وتحت إشراف أمين خدمة.

ومع مرور السنوات أصبح بريق المشاركة في الخدمة لا يقاوم، حتى أن معظم أبناء الأسر والعائلات المستأجرين للغرف السكنية، لا يتوانون عن المشاركة في العمل التطوعي، وإن كانوا يحصلون على الخدمات الأقل إرهاقاً ومجهوداً عضلياً، وفي نهاية اليوم يعودون للإقامة مع أسرهم في غرف الاستضافة المكيفة.

وبحسب تصريح الأنبا يؤانس أسقف أسيوط الحالي، فإن عدد إجمالي زوار الدير خلال فترة صيام العذراء التي تبدأ من 7 أغسطس وحتى 22 أغسطس من كل عام، قد بلغ ثلاثة ملايين زائر خلال العام الماضي.

المشكلة الحقيقية في توغل ثقافة الربح المادي والبيزنس داخل مؤسسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تكمن في عدم وجود أي رقابة من أي نوع على أموال الكنيسة وأنشطتها الاقتصادية وعلى قرارات قادتها، ورفض الاكليروس* التام لمراقبة العلمانيين* واعتبارهم فئة أدنى لا يحق لهم مراقبة الاكليروس

*الاكليروس هم كل المنتمين للسلك الكهنوتي داخل مؤسسة الكنيسة بداية من الكاهن مروراً بالأسقف وحتى البطريرك.

* مصطلح العلمانيين داخل الكنيسة يقصد به كل المسيحيين الغير منتمين للسلك الكهنوتي، وهو يختلف تماماً عن المعنى العام المتداول خارج أسوار الكنيسة لكلمة علمانيين أي المؤمنين بالعلمانية.

عداء تاريخي

عداء رجال الاكليروس للرقابة على تصرفاتهم وقراراتهم من قبل الشعب المسيحي ليس وليد اللحظة، بل يمتد لقرون ماضية، فلم تفلح محاولات العلمانيين المسيحيين للرقابة على رجال الكنيسة إلا عام 1874 عندما استصدر بطرس غالي باشا قراراً من الخديوي إسماعيل بتأسيس المجلس الملي العام، وهو مجلس مشابه لمجلس الشعب أو البرلمان، ويقوم بنفس دوره الرقابي، وينوب أعضاء المجلس الملي عن شعب الكنيسة في الرقابة على أداء البطريرك والأساقفة إدارياً ومادياً، ويتفرع منه مجالس ملية فرعية في مختلف المحافظات.

استمر المجلس في القيام بدوره الرقابي حتى عهد البابا كيرلس السادس الذي اتخذ موقفا عدائيا صريحا ضد المجلس الملي، ورفض مراقبة العلمانيين، باعتبارهم في رتبة أدنى ولا يليق بهم أن يراقبوا أداء رجال الأكليروس وميزانية الكنيسة ومصادر دخلها المادي وأوجه الإنفاق، وطلب من الرئيس جمال عبد الناصر صراحة ودون مواربة تجميد عمل المجلس، وانتشرت القصص والأساطير والخرافات داخل الكنائس، عن المصائب والكوارث التي حلت على أعضاء المجلس الملي لمجرد أنهم يقومون بدورهم الرقابي على أداء البطريرك والأساقفة، الإداري والمادي.

أما الأنبا شنودة فكان أكثر حنكة وذكاء، وقرر أن يحتوي المجلس الملي بدل من الصدام معه، ويقصقص ريشه وأجنحته، وبفضله أصبح المجلس الملي مجرد ديكور شكلي عديم النفع والفائدة، يدين أعضاؤه بالولاء التام والأعمى ناحية شخص الأنبا شنودة، و يأتمرون بأوامره، لدرجة أنه كان يختار أعضاء المجلس بنفسه ويوزع قوائم على الكنائس بمن يرغب في اختيارهم ليكونوا أعضاء المجالس الملية الفرعية، ولدرجة أن من بين عدد أعضاء المجلس الملي العام الأخير الأربعة والعشرين، كان القس بطرس بطرس جيد ابن شقيق الأنبا شنودة، ود.ثروت باسيلي هو صديق الأنبا شنودة المقرب.

*عدد أعضاء المجلس الملي العام حسب اللوائح الكنيسة هو 24 عضواً.

أما الأنبا تواضروس بطريرك الأقباط الأرثوذوكس الحالي، فهو رجل أكثر واقعية، يدرك جيداً أن المجلس الملي مجرد ديكور عديم الفائدة، فلم يهتم أصلاً لوجوده حتى لو مجرد وجود شكلي لا يمارس أي سلطات فعلية في الرقابة على الكنيسة وأموالها وحساباتها وبطريركها، وبالتالي فبعد انتهاء دورة المجلس الملي العام الأخير الذي انتهت في إبريل 2011  أي منذ حوالي 11 سنة تقريباً، لم تهتم الكنيسة بإعادة تشكيل المجلس الملي، ولا توجد أي  نية أو إشارة لإعادة تشكيله في القريب العاجل، بحجة واهية مثل أن الظروف السياسية الحالية لا تسمح بإجراء انتخاباته.