عجزت القاهرة في أغلب مراحل أزمة سد النهضة عن إقناع القوى الدولية بأهمية تعزيز ضغوطها على أديس أبابا ودَفْعها نحو القبول بتوقيع اتفاق قانوني لعملية ملء وتشغيل السد. وجاءت آخر حلقات هذا في الشهرين الأخيرين. إذ انحازت القوى الدولية مُجددًا (الولايات المتحدة والصين روسيا) إلى التوجهات الإثيوبية الداعية إلى إجراء المفاوضات الخاصة بتشغيل السد تحت مظلة الاتحاد الأفريقي. ولم يُبد أعضاء مجلس الأمن أي استجابة مُعلنة لخطاب جديد أرسلته القاهرة للمجلس في يوليو 2022. أعادت فيه الدعوة إلى “تحمُّل مجلس الأمن لمسئوليته” حيال النزاع. وأكد الخطاب أن جسم السد به شقوق خطيرة. مُعتبرًا أن إثيوبيا قد خالفت بنود إعلان المبادئ الموقّع بين مصر والسودان وإثيوبيا. بعد قيامها بتنفيذ عمليتي بناء وملء السد بشكل متزامن في خطوة يُمكن اعتبارها تلويحا مصريا بالانسحاب من الإعلان.

ورغم الدعوات المصرية تجنبت الأطراف الدولية إصدار أي إدانة لإثيوبيا في أعقاب قيام الأخيرة بإتمام الملء الثالث للسد بسعة 22 مليار متر مكعب في أغسطس/آب الماضي. واكتفت بالدعوة لاستئناف العملية التفاوضية تحت مظلة الاتحاد الأفريقي. تزامنا مع دعوة إثيوبية تحوي نفس المضمون.

ويبحث هذا في المقال في كيفية جذب القوى الدولية لأجندة القاهرة الداعية لتدويل الأزمة. وذلك عبر تحليل رؤية هذه القوى لمشروع السد. وتحديد الدوافع المصرية لدعوة القوى الدولية للانخراط في العملية التفاوضية.

سد النهضة في عيون القوى الدولية

لأسباب مختلفة لا ترى القوى الدولية أن ثمة داعيا للانخراط الفعَّال في أزمة بناء وتشغيل سد النهضة. وعلى رأس هذه الأطراف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. والتي رغم خلافها المُعلن مع التوجهات الداخلية للحكومة الإثيوبية، لم تحاول استخدام ورقة سد النهضة للضغط على أديس أبابا. واكتفت بتأكيد استعدادها لدعم المباحثات فنياً تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.

ولم تُبد واشنطن أي استجابة مُعلنة لمقال صحفي نشره السفير المصري في واشنطن معتز زهران بمجلة Foreign policy الأمريكية خلال العام الماضي، وعنونه بأن واشنطن هي الجهة الوحيدة القادرة على إنقاذ مفاوضات سد النهضة.

الحسابات الأمريكية حيال سد النهضة

يُمكن إعادة الموقف الأمريكي الرافض للانخراط العميق في مباحثات السد إلى عدد من الاعتبارات. أولها أن واشنطن بالفعل تتعاطى مع السد كمشروع تنموي مُتفق عليه بين مختلف القوى الإثيوبية. بما في ذلك قوات التيجراي المُتنازعة مع الحكومة. ومن شأن اتخاذ موقف أمريكي مناوئ للسد تخفيض شعبية واشنطن بالداخل الإثيوبي.

وتخشى إدارة بايدن من أن يقود هذا إلى فتح الباب أمام حكومة آبي أحمد لتعزيز التعاون الاستراتيجي مع بكين وموسكو. في وقت تُحافظ الأخيرتان فيه على علاقات جيدة مع أديس أبابا.

وكان هذا التخوف الأمريكي هو ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أيضا إلى عدم ممارسة ضغوط كبيرة على الحكومة الإثيوبية. رغم رفضها توقيع وثيقة أعدتها إدارته بالاشتراك مع البنك الدولي حول الأزمة، بعد مباحثات شاركت بها الحكومات الإثيوبية والمصرية والسودانية. كما أن لواشنطن مصالح اقتصادية في إثيوبيا. وقد تستفيد من نجاح السد في توليد الطاقة. إذ تبلغ الاستثمارات الأمريكية هناك بأكثر من 13 مليار دولار.

وفي عالم يعاني من أزمة عامة في الغذاء، من الصعب الدفع بأن الإدارة الأمريكية ستقف عائقاً أمام تنفيذ مشروع يُروِج لقدرته على تحقيق التنمية وأمن الطاقة والغذاء، في منطقة جغرافية تعاني بالفعل من أزمة إنسانية عميقة، ولذلك ترى الإدارة الأمريكية أنه ربما يكون السد في صالح تحقيق الاستقرار في إقليم مضطرب.

السد كمصلحة مباشرة للصين

يعد الموقف الصيني أكثر قُرباً من أديس أبابا مقارنة بنظيره الأمريكي، ولا مبالغة في القول إن سد النهضة يمثل مصلحة صينية مباشرة، نظراً لأن إثيوبيا تُمثِّل نقطة تمركز هامة للاستثمارات الصينية في أفريقيا، وتملك بكين 60% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إثيوبيا، ما يعني أن إنتاج السد للطاقة يعد فُرصة هامة للصين لتعزيز استثماراتها في أفريقيا بصفة عامة.

ويُفسِّر هذا قيام الصين بإقراض الحكومة الإثيوبية مليار دولار أمريكيا للمساعدة في بناء خطوط نقل من وإلى أديس أبابا لتقديم الخدمات اللازمة لبناء السد. كما تُنفِّذ بعض الشركات الصينية مشاريع تخدم السد بشكل مباشر، ومنها شركتا Voith Hydro Shanghai العاملة في مجال صناعة التوربينات وChinese Gezhouba Group للإنشاءات والمقاولات.

وفي نفس السياق، يسهم تحقيق التنمية بإثيوبيا في فرص وفائها بسداد ديونها لبكين، والتي تصل إلى نحو 16 مليار دولار أمريكي. كما تعد إثيوبيا من أكبر الأطراف المستوردة من الصين بين الدول الأفريقية، ويُشار إلى أن الصين تملك استثمارات في قطاع الكهرباء الإثيوبي بقيمة 1.8 مليار دولار.

ومن الناحية الجيوبوليتكية، تعززت أهمية حكومة آبي أحمد لدى بكين في سياق تنافُسها مع واشنطن، بعد تراجُع النفوذ الصيني في الخرطوم نتيجة للإطاحة بعُمر البشير من رئاسة السودان.

واستخدمت الحكومة الصينية حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي لمنع أي أدانة أمريكية لممارسات الحكومة الإثيوبية بحق قوات إقليم التيجراي، وأكدت تقارير غربية أن بكين قد زودت أديس أبابا بطائرات مُسيرة.

وقادت مجمل هذه العوامل ممثل الصين لدى مجلس الأمن الدولي إلى تأكيد قناعة بلاده بأن السد يُمكن أن يصبح مشروعًا تنمويًا ثلاثيًا بين مصر والسودان وإثيوبيا حال تعاونوا معا. وجاء هذا خلال الجلسة التي عقدها المجلس في يوليو/تموز 2021 للنظر في ملف السد.

دعم دبلوماسي روسي للسد نكاية في أمريكا

لم يختلف الموقف الصيني في جلسة مجلس الأمن سابقة الإشارة عن نظيره الروسي، إذ رفض المندوب الروسي تلويح مصر باستخدام القوة ضد إثيوبيا على خلفية الخلاف حول سد النهضة. ودعا لتجنب مثل هذه الأمور. وتزامَن هذا مع تصريحات أطلقها السفير الروسي لدي إثيوبيا، اعتبر فيها أن القوى الغربية تتآمر على سد النهضة الإثيوبي من خلال الأمم المتحدة.

وتعززت إلى حد كبير أهمية العلاقات مع أديس أبابا بالنسبة لموسكو بعد العزلة الغربية التي فُرضِت على الأخيرة بعد حرب أوكرانيا. إذ تحرص موسكو على الحفاظ على علاقتها بمختلف الدول الأفريقية، ومنها إثيوبيا التي تغيَّبت عن جلسة تصويت عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الحرب الروسية على أوكرانيا.

تُفسِّر العوامل السابقة أسباب عدم استجابة القوى الدولية المختلفة لرؤية القاهرة حول الأزمة. إذ نجحت أديس أبابا في إقناعها بأن السد يعد فرصة تنموية جيدة، ويجلب منافع عدة لأطراف مختلفة.

ورغم هذا، يظهر أن ثمة تخوَّفا دوليا من أن تقود أزمة السد إلى اندلاع اضطرابات عسكرية وأمنية في المنطقة، وهو ما دفعها إلى اتخاذ موقف قريب من التوجهات الإثيوبية حيال أزمة السد، لقطع طريق عسكرة النزاع أمام القاهرة والخرطوم، وشددت جميع الدول على ضرورة التوصل لاتفاق حول ملء وتشغيل السد.

ولم يتطور هذا الموقف إلى الانخراط الفعال في حلحلة الأزمة، بقدر ما أتاح لأديس أبابا الوقت اللازم لبناء السد، حتى أصبح أمرا واقعا، وبات ضربه عسكرياً درباً من المغامرات غير مأمونة العواقب.

أسباب السعي المصري لتدويل الأزمة

تدل تطورات أزمة سد النهضة بأن جوهر الخلاف المصري-الإثيوبي لا يتعلق بالسد في حد ذاته، بقدر ما يتعلق بتخوف مصر من تضرر حصصها التاريخية من مياه النهر. في وقت تعاني فيه من الفقر المائي.

وأيَّدت الحكومة المصرية رسمياً مبدأ إنشاء السد، بالتوقيع في عام 2015 على اتفاق مع إثيوبيا والسوان يُنظِّم عملية البناء، ولا يُوجد منذ ذلك الوقت تصريح واحد لأي مسئول مصري يرفض مبدأ بناء السد.

إلا أنه لا يُمكن إغفال أن السد يُمثِّل تحدياً استراتيجياً للقاهرة، لا مفر أمامها من إدارته طوال الوقت، والعمل على ضمان عدم تضرر أمنها المائي في المستقبل جراء سياسات تشغيله، أو حتى في حالة تسببه في تشجيع دول الحوض الأخرى في بناء سدود بشكل أحادي، بشكل ينتقص من المكتسبات المصرية في الاتفاقيات التي تم توقيعها في القرن الماضي حول تنظيم استخدامات مياه نهر النيل، وخاصة حق دولتي المصب (مصر والسودان) في حد أدنى من حصص المياه، وضرورة إخطارهما بأي عملية إنشائية تتم على مجرى النهر.

وتستند المخاوف المصرية من نيات إثيوبيا حول ملف المياه على رفض الأخيرة لتوقيع اتفاق لملء وتشغيل السد، إذ تعتقد أديس أبابا أن مثل هذا الاتفاق قد يقيد من حركتها على صعيد إدارة مورد المياه، وهذا الاعتقاد هو بالتحديد ما يُثير مخاوف القاهرة، خاصة أن أديس أبابا لا تمل من إعلان رفضها للاتفاقات السابقة التي منحت مصر حقوقها الحالية في مياه النهر.

وكانت إثيوبيا إحدى دول حوض النيل الموقِّعة على اتفاقية عنتيبي. بينما رفضتها الحكومتان المصرية والسودانية اعتراضاً على عدم تضمنها ما يؤكد عدم تضرر هذه الحقوق.

ولذلك، يُشير التناقض المصري-الإثيوبي في ملف سد النهضة إلى وجود احتمال برغبة إثيوبيا في التفاوض حول هذه الحصص، إذ ترفض أديس أبابا توقيع اتفاق مُلزم لإدارة وتشغيل السد يُرسخ ضمنياً لأحقية مصر والسودان في الإشراف على إدارتها لمياه النهر، وفي المقابل ترفض القاهرة توقيع اتفاق لا يُشير إلى حقوقها التاريخية في المياه.

ويُفسِّر التخوف المصري من النيات الإثيوبية حيال إدارة ملف المياه مركزية تدويل الأزمة في أجندة القاهرة، خاصة أن الاكتفاء بالإطار الأفريقي من المحتمل أن تكون لأديس أبابا اليد الطولي فيه، نظرا لتراجع النفوذ المصري بقارة أفريقيا خلال العقود السابقة، ما استثمرته أديس أبابا في تبني أجندة إعلامية تنطلق من الرفض الأفريقي لإرث الاحتلالات الغربية، كسند معنوي لرفضها الاعتراف بحقوق مصر التاريخية في النهر، نظراً لأن هذه الحقوق قد نظَّمتها قوى الاستعمار الأوروبي، ولا تعبر عن إرادات الشعوب الأفريقية بحسب الرواية الإثيوبية.

ومن جهتها، تسعى القاهرة إلى موازنة المظلومية الإثيوبية القارية بمظلومية دولية أخرى، تؤكد عدم احترام أديس أبابا لحقوق الدول الأخرى في حوض النيل، وتُظهِر هذه السردية الحكومة الإثيوبية كجهة لا يُمكن الوثوق بها في إدارة مورد المياه، ويمنح هذا للقاهرة فُرصة الحصول على دعم دولي لمساعيها الرامية لردع إثيوبيا، وإثنائها مستقبلاً عن أي محاولة للإضرار بحصص مصر المائية، كما تسهم هذه السردية في تيسير فُرص شراء القاهرة للأسلحة اللازمة لردع إثيوبيا.

وفي نفس السياق، تعني الرعاية الدولية لاتفاق حول ملء وتشغيل السد الترسيخ لحق دولتي المصب في إدارة النهر مع دول حوض النيل، ما يعني تعزيز شرعية المطالب المصرية الخاصة بالحقوق التاريخية في المياه، ومنْحِها اعترافا دوليا، بشكل يُصعِّب من أي مساع مستقبلية للإضرار بهذه المطالب.

كيف يُمكن جذب القوى الدولية لأجندة القاهرة؟

لا يعني عجز القاهرة في أغلب الأوقات عن حشد الدعم الدولي لموقفها أن أي محاولات مستقبلية في هذا الإطار محكوم عليها بالفشل. خاصة أن المساعي الدبلوماسية للقاهرة قد نجحت في أبريل/نيسان 2014 في دفع البنك الدولي نحو رفض تمويل عملية بناء السد، ولم يُغيِّر البنك موقفه حتى الآن، ويرهنها بإجراء إثيوبيا حوارا مع الأطراف ذات المصلحة، رغم ذلك قدم البنك دعما لبعض المشاريع المتعلقة بالإعمار واللاجئين.

ويبدو أن القاهرة لا تزال متمسكة بالمضي في اتجاه التدويل بعد قرار تعيين هاني سويلم وزيرا جديدا للري. إذ سبق وأن شارك في مشروعات مائية رعتها الأمم المتحدة، كما يتمتع بخبرة في مجال إدارة الموارد المائية المحدودة.

في وقت عينت إثيوبيا كبير مفاوضيها في ملف سد النهضة ووزير الري السابق سيليشي بيكيلي سفيرا لها لدى واشنطن.

وترتبط قدرة القاهرة على دفع الأطراف الدولية نحو تعميق انخراطها في إدارة أزمة سد النهضة بمدى تقديمها أدلة مقنعة حول الأضرار التي قد تنتج من السياسات الأحادية الإثيوبية، وتأكيد أن هذه السياسات قد تتسبب في اضطراب الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بالمنطقة.

ويُمكن في هذا الإطار تكوين روابط إعلامية وسياسية مع مسئولين ومتخصصين من دول الحوض والدول الغربية للمُطالبة بتوقيع مثل هذا الاتفاق، بشكل يُكسب الموقف المصري بُعداً أكثر إقليمية، وعابراً للمصالح الوطنية.

وفي نفس السياق، سيسهم تعزيز التعاون مع القطاع الخاص الغربي والمؤسسات الدولية في تعميق ارتباطها بأوضاع الطاقة والمياه في مصر، بشكل يجعلها أول الأطراف الداعمة لحقوق مصر التاريخية في المياه، وربما جاء اختيار سويلم وزيراً للري المصري بغية العمل على تعزيز التعاون مع المؤسسات الدولية في مجالات تنمية استخدام المياه، ويمكن أن تعمل مصر في هذا الصدد على إعداد دراسات متعلقة بدعم النشاط الزراعي وتحسين جودة استخدام المياه، وتأكيد أن حاجة مصر في استخدام المياه لأغراض تنموية لا تقل عن نظيرتها الإثيوبية. وقد تعمل القاهرة على إشراك إثيوبيا ودول حوض النيل الأخرى في مشاريع تنموية إقليمية.

وتُشير مواقف القوى الدولية إلى أن واشنطن تُعد أكثر استعداداً لممارسة ضغوط على الجانب الإثيوبي، ودفعه نحو توقيع مثل هذا الاتفاق، وعلى القاهرة أن تسعى لتخفيف التناقضات في علاقتها بواشنطن إذا رغبت في إبداء الأخيرة حماسة أكبر للمطالب المصرية في ملف المياه، سواء على صعيد التناقضات الخاصة بالأوضاع السياسية المحلية، أو بتمسُّك القاهرة بالموازنة بين علاقتها بواشنطن من ناحية، وعلاقتها بروسيا وبكين من ناحية أخرى.

ويُمكن للقاهرة أيضاً رَهْن تنفيذ عدد من مبادرات التعاون مع روسيا والصين بإعلان تأييدهما لحقوق مصر التاريخية في مياه النهر، أو تأكيد رفضهما لتضرر أمنها المائي على أدنى تقدير، وإبداء تفهمهما علناً حق القاهرة في حماية أمنها بأي وسيلة، خاصة وأن واشنطن سبق أن اتخذت مثل هذه المواقف، ومن شأن هذا تصعيد الضغوط على حكومة آبي أحمد، وتعزيز قدرة مصر على ردع إثيوبيا استراتيجياً.

ورغم الإشارة السابقة إلى أن توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة تعد مغامرة غير محسوبة العواقب، فإن مصر يُمكن أن تستخدم خيارات عسكرية بديلة، وربما يكون التلويح الأكثر جدية باستخدام القوة ورقة أخيرة قد تُلقي بها القاهرة لجذب انتباه القوى الدولية، حال تَمَسَّكت أديس أبابا بعدم توقيع اتفاق قانوني لتشغيل السد.