يتصور البعض أنه حين يتم الحديث عن فصل الدين عن السياسة، فإن هذا يعني موقفًا عدائيًا من الدين وإقصاء لدوره المجتمعي. والحقيقة أن فصل الدين عن السياسة يحمل احترامًا للدين ويعمق من دوره المطلوب في دعم القيم الأخلاقية في المجتمع.

ومع ذلك، يبدو السؤال أكثر تعقيدًا حين يتعلق الأمر بتنظيمات دينية تدخل المجال السياسي بشروط الجماعة الدينية، مثلما شهدنا مؤخرًا مع كثير من التنظيمات الدينية في العراق، وحزب الله في لبنان، وكما جرى مع حركة طالبان في أفغانستان، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وهي كلها جماعات دينية رغم ما بينها من فروقات عقائدية ومذهبية إلا أن القاعدة نفسها تنطبق عليها، وهي “تداخل الديني والسياسي”.

بدلًا من الدخول في نقاش نظري وفلسفي حول دور الدين في المجتمع والفروق الموجودة بين خبرة المجتمعات الإسلامية والغرب، وقضية العلمانية والتنوير وغيرها، فقد يكون أفيد مناقشة الخبرة العملية لجماعات دينية دخلت المجال السياسي في العالمين العربي والإسلامي، وكانت النتيجة شديدة السلبية.

وقد تكون تجربة مقتدي الصدر في العراق وتنظيمه الديني/ السياسي لافتة في هذا الإطار، فالرجل لديه تنظيم منضبط وعقائدي دخل به المجال السياسي، وخاض الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر من العام الماضي، وحصل على أغلبية برلمانية، ولكنه فشل في تشكيل الحكومة، واتخذ قرارًا غير مسبوق في تاريخ النظم السياسية، وهو استقالة كل نوابه من البرلمان، بدلًا من أن يتركوا منافسيهم يشكلون الحكومة ويعارضونها كما تفعل كل الأحزاب المدنية.

واللافت أن نتيجة هذه الخطوة “غير السياسية” هي أن من أحل مكان نواب التيار الصدري المستقيلين آخرون ينتمي معظمهم لخصومهم من الإطار التنسيقي الذين شكلوا أغلبية برلمانية ورشحوا رئيس حكومة رفضه التيار الصدري الذي قرر الاعتصام في داخل البرلمان، وهو الاعتصام الذي استمر ما يقرب من شهر، وفجأة وفي عز اعتصام أنصاره دفاعًا عن أهداف سياسية (تطالب بضرورة حل البرلمان وأجراء انتخابات) قرر الصدر اعتزال السياسة وأغلق مقراته ومواقعه الإلكترونية، وهو قرار غير مفهوم ولا علاقة له بالعمل السياسي، إنما لكونه زعيم ديني وسياسي فلم يجد غضاضة في العودة للمجال الديني الذي ترعرع فيه.

وعاد وقال في مؤتمر صحفي عقب اشتباكات الإثنين الماضي التي سقط فيها عشرات القتلي ومئات المصابين إن “القاتل والمقتول في النار”. وقدم رسالة دينية وأخلاقية محترمة ومطلوبة، ولكنه نسي أنه فاعل سياسي وطرف في الأزمة وشريك فيها، وأن تأثير خطابه الديني والأخلاقي على مختلف الأحزاب والقوى السياسية كان سيصبح جامعًا وأقوى لو كان اكتفي فقط بأن يكون رجل دين بدلًا من هذا التداخل بين الديني والسياسي الذي كان سببًا رئيسيًا وراء هذا التخبط والتعثر والدماء التي تسيل في  العراق.

أما تجربة حركة طالبان فتمثل وجهًا آخر في قافلة التنظيمات الدينية التي دخلت المجال السياسي والعمل المسلح كجماعة دينية عقائدية ترفض الديمقراطية وتداول السلطة، ولا تؤمن بدولة القانون. فهي تؤمن بتطبيق أحكام الشريعة، وأن الحاكمية لله وليست للشعب. ولذا لم يكن غريبًا أنها طوال سنوات حكمها الأول لم تضع دستورًا ينظم شؤون البلاد. وهو أمر لازال مستمرًا حتى اللحظة بعد عودتها الثانية للسلطة منذ أكثر من عام، ولازالت معها تتعمق أزمات البلاد.

أما تجربة الإخوان المسلمين في مصر فقد كانت واحدة من محاولات تنظيم ديني لتحويل وصوله للسلطة بآلية ديمقراطية، إلى تمكين أبدي منها، وهو ما فشل عقب انتفاضة شعبية واسعة شارك فيها ملايين المصريين وحسمها تدخل الجيش.

والحقيقة، أن فكرة التنظيم الديني النقي والمحصن الذي يعد أنصاره بمجتمع مثالي على الأرض وجنة في السماء، وفي سبيل ذلك يرفض محاسبته أو نقده باعتباره ظل الله في الأرض فشلت، وكانت نتائجها كارثية على كل المجتمعات شرقًا وغربًا.

إن أزمة حكم هذه التنظيمات الدينية لا يقتصر فقط على محاولة هندسة حياة الناس والتدخل في ملبسهم ومأكلهم والتمييز ضد المرأة والأقليات وكراهية الفن والإبداع، إنما أيضًا القهر السياسي والفشل الاقتصادي، لأن إقامة نظام حكم قائم على “الحصانة” باسم الدين أو الحكم الإلهي تعني رفض أي نقد واعتباره نوعًا من الهرطقة أو الكفر.

صحيح، أن النظم المحصنة ليست فقط دينية، فهناك من حصنوا أنفسهم باسم الثورة، وباسم الاشتراكية وباسم الوطنية والقومية، واعتبروا مخالفيهم خونة وليسوا كافرين، ولكن يبقي أسوأها حكم التنظيمات الدينية.

يقينا أزمات المجتمعات العربية كثيرة ومركبة، وبلاشك فإن هيمنة التنظيمات الدينية على العملية السياسية. كما يجرى في العراق وإجهاض كل المحاولات المدنية لتغيير هذه المعادلة، كما حدث مع الحراك الشعبي السلمي منذ عامين، والذي واجهته بكل الوسائل التنظيمات الدينية بما فيها التيار الصدري، دليل حي على عمق أزمة التنظيمات الدينية في الحكم.

سيبقي وجود أحزاب مدنية ذات مرجعية محافظة أو إسلامية واقع في بلاد عربية وإسلامية كثيرة، وهي أحزاب يختلف معها ووارد رفض برامجها وتوجهاتها كما هو الحال في تركيا وإندونيسيا وماليزيا والمغرب، ولكنها لا تمثل تهديد وجودي للدولة والمجتمع كما هو الحال مع  التنظيمات الدينية.

تداخل الديني والسياسي يعني إعطاء صفة القداسة على المجال السياسي الذي هو بحكم طبيعته مجال نسبي وغير مقدس وقائم على التنافس بين الأفكار والبرامج، وبالتالي فإن ممارسات أي تنظيم ديني في الحكم والسياسة هي دنيوية حتى لو قال أصاحبها إنها مستمده من الدين لأن من سيطبقها بشر وليس ملائكة.

ستصبح قيمة الرسالة الدينية أن تقولها مؤسسات دينية أو تنظيمات دعوية لا علاقة لها بالسياسة تخاطب المجتمع ككل وليس فصيل أو جماعة بعينها، فتعمل على ضبط سلوك المجتمع، وعلى جعل السياسة أكثر أخلاقية ومرتبطة بمبادئ الأديان السامية لا بتنظيمات تدين وتقدس خطابها السياسي المختلف عليه.