حاولت البحث أولا عن إجابة سريعة، ثم إجابة بطيئة، لكني لم أجد أيًا منهما. كان الكاتب المسرحي واترز، من غانا، زميلي – هذه الأيام- في برنامج الكتابة الدولي في جامعة آيوا، سألني فجأة، وبشيء من اللهفة، ونحن نتناول الإفطار في القاعة المخصصة لذلك، عما إذا كان هناك أي منح للإقامة الأدبية في القاهرة؟

تختلف أشكال منح الإقامة الأدبية من برنامج لآخر ومن دولة لأخرى، بعضها شديد البساطة، يقوم على استضافة عدد من الكتاب، يصغر أو يكبر، للإقامة في مكان يكون عادة هادئا ومنعزلا، ويوفر لهم إفطارا ومصروفا يوميا بسيطا للأكل والنثريات (حتى لا يضطروا للعمل أثناء فترة المنحة)، وبحيث يكونوا قادرين على التفرغ للكتابة الإبداعية.

اقرأ أيضا.. ترجمة من أجل داود (رسالة آيوا)

بعض البرامج تشترط أن ينتج الكاتب الحاصل على المنحة مع نهايتها نصا أو نصوصا، وبعض البرامج لا تشترط ذلك، وتتيح للمبدع أن يكتب إذا شاء، أو أن يكتفي بالحصول على فسحة هادئة من ضغوطات الحياة حتى لو قضّاها في النوم والقراءة. بعض البرامج تشهد أنشطة مكثفة وأمسيات أدبية وندوات فكرية حول موضوعات متعددة، وبعضها يكتفي بأمسية أو اثنتين في نهاية البرنامج لقراءة الشعر أو بعض النصوص أيا كان نوعها. بعض المنح تمتد لأيام أو أسابيع قليلة، وبعضها يمتد لشهور أو حتى سنة كاملة في بعض الحالات. بعض المنح يستضيف الكتاب المحليين أو المقيمين في بلد المنحة، وبعضها – مثل برنامج جامعة آيوا- يستضيف الكتاب من أنحاء العالم وقاراته الست بعد عملية ترشيح وانتخاب وتصفية شاقة، وذلك ليضيف إلى قيمة الإقامة الأدبية، قيمة أخرى للمشاركين ألا وهي الاحتكاك بثقافات ولغات مختلفة، والتعرف على مبدعين من أرجاء العالم.

هكذا إذا يمكنك أن ترى قدر المرونة التي يمكن أن تتمتع بها منح الإقامة الأدبية، على حسب الطموحات وعلى حسب الإمكانيات أيضا، ومع ذلك، عندما سألني زميل البرنامج من غانا عن منح الإقامة الأدبية بالقاهرة، لم أستطع العثور في ذهني على أي واحدة، ولم أستطع العثور على واحدة حتى بعد البحث على الإنترنت (تحسبا لما قد يكون قد فاتني أو ما قد أكون نسيته). كان ذلك شيئا حزينا، يضاف إلى أحزان أخرى كنت أظن أنها بلغت بالفعل ذروتها، فكيف لبلد في قيمة مصر، لمدينة في حجم وشهرة وأهمية القاهرة، أن تفتقر إلى هذا النشاط المهم جدا، نشاط الإقامة الأدبية، سواء أكان ذلك لأبنائها، أو للكتاب من خارجها، صحيح أن ثمة بعض الأماكن الخاصة التي اجتهد أصحابها لتوفير شروط الإقامة الأدبية فيها، إلا أنها أماكن معدودة ومدفوعة مسبقا، تكاد تكون أقرب إلى الاستثمار منها إلى المنح.

الغريب أن مصر تدعو وتستضيف الكثير من الأشقاء العرب، والأخوة الأفارقة في عديد من الفعاليات كالمهرجانات السينمائية والمنافسات الرياضية، كثير من هؤلاء يحلون ضيوفا مرحبا بهم في فنادق راقية، تزيد تكلفتها كثيرا على الأماكن التي تستضيف الكتاب في برامج الإقامات الأدبية (فندق بيت آيوا الذي يستضيف كتاب المنحة هو فندق من تصنيف نجمتين فقط)، فلا يبدو أن المسألة مادية، قدر ما يبدو كأن أحدا ببساطة لم يفكر فيها أو بتحمس لها. وصحيح أن الكتّاب –في العالم لا في مصر فقط- يفضلون منح الإقامة في دول الغرب، لكني أعرف شخصيا الكثيرين ممن لا يمانعون – بل يحبون ويعشقون – الإقامة في القاهرة أوالإسكندرية.

تنظم القاهرة معرضا دوليا للكتاب لكن لا وجود لمنح أدبية حتى الآن

سياحتنا وزيارة المرة الواحدة

وكما أن مسألة ثقافية بسيطة وبديهية مثل منح الإقامة الأدبية تبدو غائبة عن تفكيرنا، فإن هناك ما هو أبسط ولكن ذا تأثير أفدح، دفعني إلى التفكير فيه زميلة أخرى من نفس البرنامج، تنتمي إلى إحدى دول وسط آسيا، حكت لي الزميلة أنها زارت مصر قبل سنوات، ورغم أنها لم تذهب إلى القاهرة وزحامها، ولم تزر الأهرامات فتواجه إلحاح الباعة الجائلين، إلا أنها حتى في زيارتها الوحيدة إلى أحد منتجعات البحر الأحمر، عانت من مختلف أنواع المضايقات، ومحاولات النصب و”الاستنصاح”، ولأنها لا تنتمي إلى أحد بلدان الرفاهية، وإنما إلى بلد مكافح عانى طويلا، فهي ليست فتاة سهلة الخداع، واستطاعت أن تتغلب على معظم محاولات “الفهلوة”، مما كان يجعل المخادعين “غاضبين”! تخبرني بذلك وهي مندهشة ولازالت منزعجة رغم أن ما يقرب من عشر سنوات قد مرت على زيارتها التي لم تكررها، ورغم أنني أخبرتها أن تلك الفترة الزمنية التي حدثت فيها زيارتها لم تكن أفضل الفترات للحكم على تجربة السياحة في مصر، إلا أنني أعلم أن كثيرا مما شكت منه لا يزال للأسف موجودا، وهو متاح المعرفة حتى لمن يبحث على شبكة الإنترنت (وكل السياح بالطبع يفعلون لتكوين فكرة قبل السفر إلى أي بلد)، وقد زرت منطقة الأهرامات قبل أشهر قليلة بصحبة بعض الأصدقاء من غير المصريين ولم تكن التجربة سعيدة على أي حال للأسف الشديد.

ذكرني ذلك بمفهوم يعرفه خبراء مواقع الإنترنت ويطلقون عليه “معدل الارتداد” (Bounce rate)، يقيسون به خبرة زيارة المستخدمين للموقع، ويشير المصطلح إلى المستخدمين الذين يتصفحون صفحة واحدة – قد تكون الصفحة الرئيسية – ثم يرحلون ولا يعودون. كلما ارتفع معدل الارتداد لموقع ما كان ذلك يعني أن الموقع يفقد قراءه أو لا يستطيع الاحتفاظ بهم، وكلما انخفض معدل الارتداد يعني ذلك أن الموقع يستطيع الحفاظ على مستخدميه وزيادة ولائهم له.

ومن ملاحظاتي البسيطة – كمواطن عادي ليس خبيرا سياحيا – فإن السياحة في مصر تعاني من معدل ارتداد شديد الارتفاع، تبدو “زيارة المرة الواحدة” سمة مهيمنة على خبرات كثيرين ممن ألتقيهم، وتبدو الأسباب هي نفسها مهما مر الزمن، لأننا ببساطة نحاول علاج الأسباب الخاطئة، إذ نسمع ونقرأ كل يوم عن خطط الدعاية لزيارة مصر، ونشهد تنظيم الفعاليات الكبرى للدعاية السياحية، ولكن من قال إن مصر تحتاج إلى الدعاية كأنها بلد مجهول في قارة منعزلة؟ تكاد تكون الدعاية هي آخر ما تحتاجه السياحة في بلد يدرس كل أطفال العالم عن أهراماته وحضاراته ومعابده، بينما مشكلتنا، وسبب زيادة “معدل فقدان السائحين”، هو تجربة السائح في مصر، بدءا من توفير دورة مياه نظيفة ومرورا بمواصلات عامة جيدة وصولا إلى القضاء على الفوضى في المعالم الأثرية ومكافحة السلوكيات السيئة، لم أقل كل ذلك للزميلة من آسيا الوسطى لكني تمنيت أنها إذا قررت يوما تكرار الزيارة، أن تحظى بلحظات جميلة هي الهدف البديهي لكل سائح في العالم، تماما كما تمنيت، حين يسألني الزميل من غانا المرة القادمة، أن أرسل له قائمة من الأقامات الأدبية في مدن مصر المختلفة.