لا أحد يتحدث عن الأزمة الاقتصادية وأبعادها.. هذه حقيقة مؤكدة وثابتة وواضحة للجميع.

وسط مشكلة اقتصادية خانقة لم تشهد مصر مثلها منذ عشرات السنين ليس هناك مسئول واحد يتحدث عن الأزمة وطبيعتها، أو خطط مواجهتها، أو الفترة الزمنية التي تحتاجها البلد كي تعبرها، أو حجم الأضرار التي ستقع على الناس لا سيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

اختارت السلطة الحالية طريق الالتفاف حول المشكلة، وإطلاق تصريحات هي أقرب للمناورات السياسية منها للإعلان عن الحقائق، اختفى الكلام عن المواجهة، وغابت الشفافية تماماً، ولجأت الحكومة إلى تصريحات لا تشرح بقدر ما تلتف وتناور.

اقرأ أيضا.. أن يكون “المدير” جوسفالدو فيريرا

كل تصريحات المسئولين الرسمية تصب في خانة التبرير لا الشرح والفهم، كل ما يهم السادة في السلطة الحالية هو التأكيد أن الأزمة الحالية هي جزء من أزمة عالمية، وأن الحكومة ليست هي السبب فيها، وأن “الإنجازات” التي تحققت طوال السنوات الفائتة كانت كبيرة ومهمة وتمثل نقلة عظيمة للاقتصاد المصري.

آخر التصريحات الرسمية التي قفزت فوق الأزمة وأبعادها واكتفت بالحديث عن الإنجازات التي تحققت، وقدرة البلد على الالتزام بسداد الديون في مواعيد استحقاقها كانت تصريحات محمد معيط وزير المالية، إذ أكد معيط في تصريحاته التلفزيونية أن “التزامات الدولة المصرية من أقساط وفوائد ديون سيتم سدادها في مواعيدها وأن وضع مصر كان مضطربا وغير مستقر بعد 2011 وبدأنا منذ 2016 السيطرة على الأوضاع الاقتصادية وبدأت تسير في تحسن”.

هذا هو أساس الموضوع وما كان يهتم به وزير المالية في تصريحاته، أي تأكيد قدرة مصر على سداد الديون، وليس هناك مانع من تحميل ثورة يناير والفترة التي تلتها المسئولية عن التدهور الاقتصادي الذي نعيشه، أما الحديث عن طبيعة الأزمة وأبعادها وحجم الديون وكيفية الوفاء بسدادها وأزمة نقص العملة الأجنبية وشكوى المستثمرين من نقصها والتحذير من توقف الشركات بعد صعوبة الحصول على المواد الخام وغيرها من قضايا هي الأصل والفيصل في الحكم على الأداء الاقتصادي الحالي فقد تجاهلها الوزير بشكل كامل، ولم ينطق بكلمة واحدة يمكن اعتبارها إجابة شافية عن أسئلة تمثل هماً وقلقاً حقيقياً للمجتمع.

هذا حديث في “الأمن” لا في الاقتصاد، رسائل طمأنة يبعث بها الوزير إلى الناس خوفاً من غضبهم، وهو أمر مهم لكنه ليس كافياً أبداً، فلم يتحدث الوزير عن الأزمة ولا طبيعتها، وهو أمر كاشف لطبيعة السلطة الحالية التي لا تؤمن بالشفافية، ولا بالرأي العام وحقه في المعرفة والفهم، لا سيما إذا كانت القضية المطروحة بهذه الدرجة من الأهمية والخطورة والتأثير على الناس وأمنهم واستقرار حياتهم.

التضخم في مصر

ما يؤكد أن تصريحات وزير المالية لم تكن أكثر من رسالة طمأنة للمجتمع خوفاً من مساحات غضب وقلق تتزايد لدى المواطنين يوماً بعد الآخر قوله: “علينا كـ مصريين منضيعش بلدنا واللي بره بيحسدنا على اللي إحنا فيه، ويتحدثون عن تواجد استقرار وأمن وتنمية وخلق فرص عمل رغم الظروف الصعبة التي نمر بها ” مضيفا: “علينا أن نحافظ على بلدنا كي نعبر الظروف الصعبة ونصل إلى بر الأمان، فقد صدر أكثر من 150 تقريرا دوليا ينقل صورة سلبية لا تعكس الحقيقة عما يحدث في مصر، مضيفا: “هناك من يستهدف أمن واستقرار الدولة المصرية ويرغب في إعادة ظروف 2011 من جديد، قائلا:،بعد اكتشاف حقل ظهر أصبح لدينا اكتفاء ذاتي من الغاز، وتم التوسع في توصيل الغاز للمنازل مضيفا: “نقوم بتصدير الغاز للخارج بـ 5.6 مليار دولار في أول 9 أشهر من 2022 ومصر عكفت على تنفيذ المشروعات التنموية الكبرى في كافة القطاعات على مدار السنوات الماضية”.

بمنتهى الوضوح فإن هذه تصريحات لا ترقى لحجم الأزمة التي تعيشها البلد، ولا تمثل شرحاً ولا فهماً لطبيعتها، ولا تكشف بوضوح عن الوسائل والخطط التي تضعها السلطة لمواجهتها، هذا الكلام الرسمي لا يزيد عن كونه رسائل يحملها الوزير للمواطن خوفاً من غضبه، وهي تصريحات مرتبكة لا تتحدث عن الأزمة بقدر ما تحاول إثارة خوف المواطن من عدم الاستقرار، وتترنم بنظرية المؤامرة التي يدبرها العالم كله ضد مصر ونظامه، وهو حديث أقرب إلى الهزل في موضع الجد، فلا هناك مؤامرة تدبر ضد البلد، ولا أحد كان ينتظر من السيد الوزير حديثاً عن “الإنجازات”، كل ما كان ينتظره الناس هو الحديث عن الأزمة وطبيعتها وخطط مواجهتها، بالتفصيل، والجدول الزمني الذي وضعته الحكومة للمواجهة، فيما عدا هذا تبقى التصريحات الرسمية بائسة ولا تقدم جديداً، ولا يمكن اعتبارها سوى مناورات سياسية في لحظة حساسة وصعبة لا تحتمل أي نوع من المناورات، فقد ظهر السيد والوزير واختفى دون أن نفهم أين نحن الآن، ولا ماذا سيحدث غداً، ولا الاحتمالات والمخاطر التي تواجه البلد وأهله.

على نفس الطريق الذي يلتف على الأزمة الخانقة بحديث بائس حول “الإنجازات” جاءت تصريحات الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء طوال الشهور الفائتة، فقد تجاهل الرجل الأزمة بشكل كامل، وتعامل وكأنه ليس من حق الناس أن تفهم أبعاد المشكلات التي تحاصر الاقتصاد، ولا طبيعتها وسبل الحل، واكتفى بالنغمة المعتادة والمكررة حول النجاح الذي حققته حكومته، في لحظة لا يشعر فيها المواطن إلا بفشل اقتصادي كبير يحاصره من كل اتجاه، ففي افتتاحه لمعرض أهلا بالمدارس الأربعاء الماضي أبدى مدبولي “سعادته بزيادة المكون المحلى فى العديد من المنتجات المعروضة، قائلا: “المكون المحلى يزداد نسبته وهذا أهم شيء، والرؤية الاستراتيجية للدولة المصرية فى تعميق التصنيع المحلى، فهناك طفرة حقيقية فى مستوى المنتج، وأضاف: بالاعتماد والتركيز على الجودة يصبح الإنتاج يضاهى نظيره العالمى، مشيرا إلى أن هناك تصدير لبعض هذه المنتجات للدول الخارجية وهو ما يؤكد قدرة الصناعة المصرية على تحقيق الاكتفاء الذاتى واختراف الأسواق العالمية”.

في ذروة الحديث الجاد عن غياب المشروعات الإنتاجية والاتجاه إلى مشروعات لا تدر دخلاً، ووسط انتقادات اقتصادية جادة لسياسات السلطة الحالية طوال السنوات الماضية في الاقتراض غير المحسوب وإنفاق المليارات على مشروعات غير إنتاجية يتحدث رئيس الوزراء عن منتجات مصرية يتم تصديرها للعالم، ويلتف بشكل واضح على السؤال الطبيعي والمنطقي وسط الأزمة الاقتصادية الحالية: لماذا نشتكي من نقص حاد في الدولار إذا كانت هناك مشروعات إنتاجية وتصدير مصري لدول العالم؟ وهو سؤال كاشف لطبيعة تعامل السلطة مع الأزمة وتجاهلها التام لأسئلة مهمة وجادة وكاشفة لحجم الأزمة التي يعيشها الاقتصاد المصري.

في منتصف يونيو الماضي عقد مدبولي مؤتمراً صحفياً يشرح فيه للناس كيف ستتعامل الحكومة مع الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لم يقل الرجل شيئًا وكانت رسائله “أمنية” أكثر منها سياسية، فقد كانت رسائل المؤتمر تخشى غضب المواطن أكثر من اهتمامها بالحديث عن أبعاد الأزمة وطرق حلها والتعامل معها، لذلك لم ينس مدبولي التأكيد على أن حكومته عملت على توفير “الأمن الغذائي” لمصر عبر مشروعات مثل توشكى والدلتا الجديدة ومدينة السادات، ثم التأكيد أن مصر تمتلك فائضاً من السلع تكفي لستة أشهر، أي أن رئيس الوزراء مارس نفس السياسة التي تتبعها حكومته، المهم في وجهة نظره أن يطمئن الناس وألا يغضبوا، أما احترام حق الناس في المعرفة، واحترام قيم أهم مثل الشفافية وإشراك المواطنين في المشكلة فيبدو أن رئيس الوزراء يعتبره أمراً ثانوياً، وأنه ليس دور المواطن وليس حقه، لاحظ أن الأشهر الستة مضى منها نحو ثلاثة أشهر تقريباً، ولم يتحدث رئيس الوزراء من جديد ويشرح ما العمل بعد أن اشتدت الأزمة بشكل أكبر وباتت مشكلة نقص الدولار والالتزام بسداد الديون تمثل هماً وأرقاً يومياً للسلطة والمجتمع على السواء.

اختارت السلطة الحالية طريق “الكتمان” في مواجهة أزمة كبرى تواجه البلد، فلا هي كشفت للناس طبيعة المشكلات الاقتصادية الصعبة التي تواجههم، ولا أعلنت خططها للمواجهة، ولا نجحت رسائلها المرتبكة في طمأنة الناس أن القادم ربما يكون أفضل، وهي بطريقتها هذه كشفت عن طبيعتها التي هي جزء من الأزمة التي تعيشها البلد: سلطة لا تؤمن بالشفافية ولا بحق الناس في المعرفة والمشاركة في الحل، حتى لو كانت خطواتها تؤكد أنها تخشى من غضب المواطن الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يفقد صبره بحكم الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يعيشها كل يوم.