كتب- عبد الوهاب شعبان:

المؤكد أن شعوب الخليج العربي هي مكون أصيل من مكونات العالم العربي ورافد قديم من روافده يشكل جزءا من الصورة الكاملة والمكتملة إلى جانب روافده العريقة الأخرى المصرية والمغاربية والشامية. إلا أنه مع هيمنة الأموال الخليجية التي تدفقت مع ظهور النفط وعائداته، باتت بعض النخب الخليجية تطمح لطمس ما رسخته الحقب الأخيرة من تألق الفن والثقافة في مصر وبلاد الشام وبالأخص في مصر التي بلغت فيها الثقافة والفنون المدى والغاية قبل بدء التراجع مع السبعينيات.
وهذه الرغبة في الطمس وغمط مكانة القاهرة وبيروت ودمشق في الحقل الثقافي، حولت الثقافة والفن من ساحة تواصل وإبداع إلى مجال استحواذ وهيمنة. ليبرز مصطلح “خلجنة الثقافة والفن”. ولينتقل استحواذ النخبة ورغبتها في السيطرة على المقدرات الاقتصادية والمادية إلى الاستحواذ على الثقافة والفن والاقتصاد والشركات معا. وبالتالي فأي انتقاد في هذا السياق هو مصوب لهذه النخبة الخليجية الاستحواذية الشرهة المظهرية تحديدا التي ترى أن كل شيء قابل للبيع والشراء، دون إدراك أن هناك أمورا عصية على الخفوت والذبول حتى وإن تراجعت في غفلة من الزمن. ولكنها مؤكد لن تدوم. ودون أن يمس ذلك المكانة المحفوظة لشعوب الخليج في أرجاء العالم العربي. أو يمس الثقافة في ذاتها كأداة تواصل وتفاعل بين الشعوب العربية.

ففي مرحلة ما بعد “اكتشاف البترول” سعت نخب دول الخليج المالية إلى توطين ما يسمى بـ”الدبلوماسية الثقافية” لفرض هيمنتها على الثقافة العربية “آدابا، وفنونا”، وتوسعت في استحواذها على المنصات الإعلامية المروجة لمرحلة الهيمنة الثقافية المستهدفة عبر عدد من باقات القنوات التلفزيونية “روتانا، وأبوظبي، ودبي”، وسيطرة على قنوات لبنانية تلعب دور الوكالة في الترويج للرسائل الإعلامية.

ولعبت المهرجانات الباذخة، والاحتفاليات، والجوائز الأدبية السخية دورا مهما في فرض هيمنة على الحياة الثقافية العربية، واستقطاب مبدعين، ومبدعات في مجالات متباينة تحت مظلة “الخلجنة”، بمحاذاة تراجع الدور المحوري الذي لعبته من قبل “بيروت”، والقاهرة في صدارة المشهد الثقافي.

إلى جانب جناحي “الأدب، والفنون” استقطبت الصحف واسعة الانتشار “الشرق الأوسط، الحياة، والبيان، والاتحاد الإماراتية” أقلاما ثقافية عربية مرموقة، وتمكنت من صناعة أقلام خاصة بها. كما هجمت الأغنية الخليجية على الساحة العربية، نظير عقود احتكارية لمطربين مصريين، وعرب من شركات إنتاج فني “سعودية”، روجت هذه الأغنيات بشكل لافت للفولكور الخليجي، واحتلت عبر مهرجانات الترفيه صدارة الساحة.

اقرأ أيضا.. ورقة جديدة من “DAM”.. البحث عن الثقافة المصرية ومستقبلها

“خلجنة الثقافة”

مسابقة شاعر المليون

حسبما وصف الدكتور زياد عوف الناقد الأدبي فإن مصطلح “استحواذ الخليج على الثقافة العربية” يحتاج إلى تدقيق. إذ لفت إلى أن الأمر لم يصل إلى استحواذ مطلق، وإنما تأثير هائل على الشارع الثقافي العربي.

آليات التأثير الذي يرمي إلى هيمنة خليجية تتبلور في إطلاق جوائز أدبية سخية، وإطلاق دور النشر لاستقطاب المبدعين العرب-على حد قوله.

الناقد الأدبي أضاف لـ”مصر360″ أن قضية “البترودولار” –والتي تعني أموال النفط- هي الركيزة التي بني عليها مشروع “الهيمنة الثقافية”.

بالتوازي، وحسب ما ذكر الأديب اللبناني “أمين معلوف” في كتابه “غرق الحضارات” فإن متغير ثقافة “البترودولار” منحت بعض المجتمعات التقليدية نفوذا سلبته من المجتمعات الأخرى. واستشهد بمصر التي لا تمتلك نفطا، لكنها تلعب دورا ثقافيا مهما، شهد تراجعا في الفترة الراهنة.

ضمن استراتيجيات تنامي الدور الثقافي لدول الخليج العربي نشأت مهرجانات فنية، “مهرجان الرياض” نموذجا، كما لفتت “الإمارات” أنظار الشعراء، والمنشدين في العالم العربي بمسابقات “أمير الشعراء”، و”منشد الشارقة”، و”جائزة التلاوة العالمية”.

وعلى الصعيد الفني يأتي معرض “آرت دبي” كأكبر المعارض الفنية في الشرق الأوسط، وأحد أكبر معارض العالم، ويعد مكونا أساسيا في خطة الإمارة لأن تكون محطة ثقافية، وسياحية مهمة على الخارطة العالمية.

تدعم هذه الجوائز، والمسابقات الخليجية ضخمة الميزانية منتديات تضم أمهر نقاد العالم العربي، والمتخصصين، أبرزها “منتدى الفن العالمي”، إلى جانب برامج الإقامة الذهبية للفنانين، والمبدعين، وحسب متخصصين فإن أثر “آرت دبي” الأهم يتبلور في “صناعة الإنتاج الفني”، بحيث يصبح هذا أسلوب فني معين لعدد من الفنانين العرب، ويتحول فيما بعد إلى اتجاه فني رائج في العالم.

القوى الناعمة

نادي دبي للصحافة

زحف مشروع “الخلجنة” إلى مساحة القوى الناعمة التي تفردت بها “مصر”، وعدد من الدول العربية مثل “التلاوة” التي تحتل مصر صدارتها، و”الإنشاد الديني” الذي يعد علامة مصرية خالصة لا تنافسها فيها دولة أخرى، حسبما يصف خبراء المقامات الصوتية.

تقام المسابقات الثقافية الإماراتية ذات الجوائز السخية تحت إشراف “هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون”، على موقع المسابقة توطئة عن الجائزة تشير إلى أن “الشارقة، المشرقة بإنشادها، وفنها تطلق برنامج منشد الشارقة بإطلالة جديدة، وعودة إلى الفن، وأصالته، والنغم الراقي”.

تصفيات المسابقة تقام في البلاد العربية المشاركة بلجان تحكيم متخصصة تخضع لهيئة الجائزة، أما المرحلة النهائية فتذاع على قناة الشارقة الإماراتية بحضور لجان تحكيم تضم منشدين مصريين، وأساتذة مقامات، في محاولة تتجدد سنويا، وعبر 13 عاما لفرض الريادة الإماراتية على فن الإنشاد.

في مرحلة ما قبل “إعلان الفائز” بالمركز الأول، تتنحى لجنة التحكيم جانبا، وتطلق يد التصويت “مدفوع الأجر” كمحدد للمنشد الأول، والشاعر الأول” مسابقة أمير الشعراء”، وبعد صدارة مصرية بحكم حصرية النشأة، والتفرد، تساق المراكز الأولى حسب تقسيم جغرافي خليجي، وقدرة مادية على إدارة “التصويت”.

هذه الجوائز التي طالت “الرواية، الشعر، الكتابة للأطفال، المسرح، وغيرها” على مستوى العالم العربي، وإن كان البعض يصنفها على أنها مساحة للحفاظ على الإبداع العربي، يعتبرها آخرون استقطابا لكثير من الروائيين، الشعراء، المثقفين، المنشدين، والقراء نظير مبالغ طائلة تمنح للمشاركين، ولجان التحكيم، والفائزين.

الفن بقبضة المانح

قنوات روتانا وأبو ظبي وart

في تحليله للظاهرة لفت الدكتور نبيل عبد الفتاح الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية، والاستراتيجية إلى أن اهتمام المملكة العربية السعودية بتنشيط الحقل الثقافي في مجالات “الفنون، الدراما التلفازية، والمسرح” التي تنضوي تحت لواء “الترفيه” يعكس محاولة تغيير الصورة النمطية، ويتم في إطاره محاولة توظيف الجماعة الفنية المصرية في مجال الدراما والفنون والمسرح بانعكاسات سلبية على هذه الجماعة الموصومة بـ”البراجماتية”.

هذا الأثر السلبي يمتد إلى تراجع الدور المصري، وسيطرة أموال الخليج على الدراما، والفن المصري، بعد شراء لتراث سينمائي مصري حصري سبق هذه المحاولات.

ومع محاولات إضفاء صفة الجماهيرية على مهرجان الرياض، وغيره من محاولات لي ذراع الفن المصري، والعربي عبر شركات إنتاج ذات ميزانيات ضخمة، فإن السعي يتجه إلى فرض نمط خاص على الثقافة، والفنون عبر منصات إعلام تخضع لـ”البترودولار”.

ونحو رغبة الدراما الخليجية في صدارة المشهد الدرامي العربي قالت الناقدة فايزة هنداوي، إن الرغبة ليست في سياق أحلام اليقظة، وإنما يصاحبها سعي محموم باتجاه تخصيص ميزانيات ضخمة للإنتاج التلفزيوني، والسينمائي خلال الفترة المقبلة.

أضافت “هنداوي” أن موسم دراما رمضان المادي شهد ظهورا للدراما السعودية في حيز المنافسة. لكنها حتى الآن لم تصل إلى ذروتها، نظير تفوق الممثلين المصريين.

لكن ذلك دفع في الفترة الماضية إلى استعانة بممثلين مصريين لإنتاج أعمال فنية سعودية، كخطوة شبه أخيرة نحو فرض الهيمنة بتحقيق الانتشار، والجماهيرية على حساب الدراما المصرية التي تواجه أزمات في الإنتاج، والتسويق.

“مأزق السينما”..وتراث “روتانا”

نجح مخطط السيطرة الخليجي على “ساحة الثقافة، والفنون العربية” في تحويل قنوات “الخليج”- ايه آر تي، روتانا” إلى قبلة للباحثين عن الأفلام السينمائية المصرية بمراحلها الزمنية المختلفة.

وتملك قناة “ايه آر تي” 1500 فيلم، في حين تملك “روتانا” 1600 فيلم، لتصبح المحصلة 3100 من أصل 5000 فيلم هي مجموع تراث السينما المصرية، هذه القنوات لم تشتر فقط، وإنما كانت تنتج بغزارة في مطلع الألفية، وتحصل على نيجاتيف الأفلام لعرضها حصريا.

وفي عام 2010، خلال إحدى المؤتمرات قال الأمير وليد بن طلال: إن التراث السينمائي المصري بين أيد سعودية أمينة”، ما دفع باقة “أبو ظبي” إلى السعي نحو شراء ما تبقى من الأفلام التي بحوزة الشركة العربية، ليصبح التراث المصري بأكمله في يد “خليجية”.

بعدها بتسع سنوات، وتحديدا في التاسع من فبراير عام 2019، وقع “تركي آل الشيخ”-رئيس هيئة الترفيه السعودية مذكرات تفاهم مع بعض شركات الإنتاج السينمائي، والمسرحي في مصر، لتقديم عروض مسرحية في مناطق مختلفة داخل المملكة، كما أبرم اتفاقا مع شركة “العدل جروب” لتقديم 6 عروض مسرحية مخصصة للعائلات للفنانة شريهان، وضم الاتفاق عقودًا مع العديد من الفنانين المصريين لإحياء موسم الرياض الفني بأعمال غنائية، وسينمائية.

المأزق الذي تعانيه السينما المصرية من ناحية الإنتاج دفع “الرياض” إلى سحب البساط تدريجيا من “القاهرة” عبر تعاقدات مع فنانين مصريين “كتاب، ممثلين، وغيره من أدوات الصناعة”، دفعت الأزمة الراهنة للسينما المصرية إلى تخوفات من التدهور حسبما ذكر الفنان المسرحي محمود عزازي.

مخاوف الحالة المصرية هي ذاتها فرص المنتج الخليجي في فرض هيمنته، مثلما حدث مع المطربين المصريين المحتكرين لدى شركة “روتانا”، وهي شكوك تكبر، وتتنامى بعد توجه “المملكة” لفتح دور سينما، وخوض تجربة الإنتاج بفيلم “تشيللو” المنسوب لـ”رئيس هيئة الترفيه“.

في ضوء ذلك فرشت السعودية سجادتها الحمراء للمهرجان الفني الأول الذي استقطب صناع السينما المصريين، والفنانين، وآخرين من دول العالم، كتتويج لمسعى فرض الجماهيرية، والصدارة.

“القاهرة” باقية

مهرجان البحر الأحمر السينمائي في السعوديةمحاولا تخفيف حدة التشاؤم، لفت الكاتب الروائي مصطفى عبيد إلى أن وصف مساعي “دول الخليج” لصدارة الساحة الثقافية العربية بـ”الاستحواذ” مبالغ فيه، مشيرا إلى أن دول الخليج بها مبدعون في شتى المجالات، لكن ذلك لا ينفي قدرة القاهرة على استعادة المجد الثقافي في طرفة عين.

ومهما بلغت عوائد الجوائز الخليجية السخية للأدباء، القراء، المنشدين، الفنانين، على كافة الأصعدة، فإنها –حسب قوله- لا تضاهي في قيمتها جائزة “النيل” للإبداع الأدبي، أو جوائز المهرجانات المصرية الفنية. كما أكد أن جوائز مصر لأي فنان عربي تعد شهادة اعتراف عالمية بالنسبة له، وتضعه في تصنيف أعلى بين مبدعي العالم العربي.

أما الكبوة الراهنة في الإنتاج السينمائي، وتراجع المد الدرامي التلفزيوني من حيث اللغة، والسيناريو، والأداء فلا تعني إطلاقا سحب البساط من القاهرة بيد “الرياض” على حد تعبيره، وإنما تهيئة الأجواء للفن المصري أمر محتوم نظير مزاج مصري لا يعتدل إلا باعتدال، وتوهج قواه الناعمة.

وحول ما يجري من “احتكار” للفنانين المصريين، وضخ أموال خليجية طائلة لإضفاء شعبية على الأعمال الدرامية في بعض الدول العربية، يرى “عبيد” أن الفن الهادف يفرض نفسه ولا يعترف بالجغرافيا، كما أن مصر ليست ملخصة في مطربي “روتانا”، وفقط.

“عبيد” الذي يرى أن سطوة الفن أشد من سطوة النفوذ المالي، والمهرجانات الصاخبة، والجوائز الموجهة، قال إن محدودية الدور المصري الثقافي الآن من حيث الإنتاج، والانتشار لا يمكن تفسيرها على أنها انسحاب لصالح راغبي فرض نمط ما على الفنون العربية. كذلك استطرد قائلا: “لا يمكن اختزال دور بيروت، والقاهرة لمجرد أن بضعة باقات تليفزيونية، وعدة مهرجانات قدرت على استقطاب بعض المثقفين، والفنانين العرب”.