في مطلع أغسطس/ آب الماضي، أعرب مسئولون في الاتحاد الأوروبي عن قلقهم من التقارب بين روسيا وتركيا. محذرين من أن تتحول تركيا لمنصة تجارة لموسكو، وفق ما نقلت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية. حيث وصف المسئولون سلوك تركيا مع روسيا في هذا التوقيت بأنه “انتهازي للغاية”. مؤكدين أن الاتفاقات بشأن الطاقة والغذاء بين موسكو وأنقرة تثير القلق.

لكن في حقيقته، يبدو التقارب الروسي- التركي أقرب ما يكون لفكرة “زواج المصالح” الاضطراري للطرفين. والذي اتخذ طريقه منذ بدء الأزمة في سوريا، ووصول الأمور إلى شبه مواجهة بين الطرفين. بعد ذلك، بدأت عملية تفاهم، بالرغم من تضارب المصالح والمواجهات بين الكرملين وعضو الناتو في كثير من المحطات. سواء فيما يتعلق بوسط آسيا، أو أذربيجان وأرمينيا، أو سوريا، أو حتى الموقف من أوكرانيا.

ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، اتبعت تركيا ما يُمكن أن يُطلق عليه “نهجًا متوازنًا” تجاه موسكو وكييف، حيث تلعب دورًا رئيسيًا بعدة طرق. فقد أدانت الغزو، وأغلقت مضيق البوسفور التركي. أمام أية تحركات عسكرية. في الوقت نفسه، عملت على تسهيل الحوار بين الأطراف المتحاربة. كما قامت برعاية ومراقبة صفقة بشأن صادرات الحبوب بالاشتراك مع الأمم المتحدة.

لذلك، يعتبر مارك بيريني، الزميل في معهد كارنيجي أوروباـ والذي تركز أبحاثه على التطورات في الشرق الأوسط وتركيا من منظور أوروبي. أن دور أنقرة “مرحب به في ظل هذه الظروف المأساوية”. ومع ذلك، يلفت إلى أن مثل هذا التوازن “يُعّد مقامرة مكلفة، ليس فقط لأنقرة، ولكن للمجتمع الدولي أيضًا”.

اقرأ أيضا: تركيا تتحرك من روسيا إلى الغرب.. لماذا؟

صورة إيجابية لأردوغان

جاءت اللقاءات المتتابعة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان، في العاصمة الإيرانية طهران، وبعدها بثلاثة أسابيع في مدينة سوتشي الروسية، والذي أكد أردوغان خلاله أنه “مهم للغاية من حيث إبراز الدور الذي تلعبه تركيا وروسيا في المنطقة”. تأكيدا على رؤى مشتركة في عدة موضوعات، منها السياسة والاقتصاد بين البلدين. والتي “ستفتح صفحة مختلفة للغاية للعلاقات التركية الروسية”. وفق الرئيس التركي.

يلفت بيرني إلى أن أردوغان “لم يدخر أي جهد في محاولة لعب دور الوسيط عندما يتعلق الأمر بروسيا وأوكرانيا. المكالمات الهاتفية، والزيارات، وتيسير الاجتماعات، ومفاوضات صفقة الحبوب. بما في ذلك إدارة مركز مراقبة الصفقة في إسطنبول، والمرافقة البحرية لسفن نقل الحبوب”.

وأوضح أن سياسة الاتصال المصممة بعناية “تُظهر صورة إيجابية لدور الرئيس التركي. والتي من المتوقع أن تساعد بدورها على الساحة السياسية المحلية قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية في يونيو/ حزيران 2023”.

وأضاف: حتى لو تم تضخيم جهود تركيا إلى حد ما للأغراض المحلية. فإن العواصم الغربية ترى أن كل جزء من حسن النية مرحب به، وبالتالي فهي تشيد بجهود أنقرة.

مع ذلك، والحديث لبيرني، هناك زاويتان أخريتان. تركيا لديها دوافع اقتصادية كبيرة وراء جهود السلام، وروسيا تسعى لتحقيق مكاسب استراتيجية مهمة لنفسها.

يشير الزميل بمعهد كارنيجي الأوروبي إلى الفوائد الإضافية لجهود تركيا الدبلوماسية. يقول: زادت رسوم السفن التجارية التي تمر عبر المضيق التركي خمسة أضعاف، مع انتعاش الحركة البحرية مرة أخرى. كما نما عدد المغتربين الروس في تركيا، فضلاً عن استثماراتهم العقارية وتحويلاتهم المالية إلى البنوك التركية بشكل كبير.

ولفت إلى انه “علاوة على ذلك، هناك شك في أن روسيا تحاول التحايل على بعض آثار العقوبات الغربية عبر تركيا. لا سيما من خلال الاستحواذ على حصص في شركات النفط التركية، حيث تساعد الشركات المشتركة على طمس تجارة النفط”.

مصالح تركيا

مع تنامي الوساطة التركية، زعم الخبراء الأوكرانيون، أن بعض الحبوب المصدرة عبر صفقة الحبوب. قد سُرقت بالفعل من المنشآت الأوكرانية في منطقة دونباس المحتلة “وعلى الرغم من صعوبة توثيق هذا الإخفاء. إلا أنه لن يكون مفاجأة كبيرة في العقوبات التجارية الدولية”. وفق بيرني.

في الوقت نفيه، تحاول تركيا جاهدة الحفاظ على علاقتها مع الصناعة العسكرية الأوكرانية وتطويرها. بما في ذلك من خلال المبيعات المستمرة وإعادة توريد طائرات بيرقدار Bayraktar بدون طيار. بهدف نهائي هو شراء محركات الطائرات من صناعة الطيران الأوكرانية لتلبية احتياجاتها الخاصة.

يؤكد بيرني أنه “على الرغم من خطر إثارة غضب الكرملين، فإن مثل هذه العلاقة لا غنى عنها لتطوير صناعة الطائرات بدون طيار في تركيا. والتي تعد حاليًا أكثر تقدمًا من أوروبا.

لكن، لم تتنازل تركيا عن مصالحها الخاصة في الوقت نفسه. يقول بيرني: نظرًا للوضع الاقتصادي المزرى في البلاد. والذي تفاقم بسبب سياسة أسعار الفائدة، تحاول أنقرة جاهدة تأمين التسهيلات المالية، أو اتفاقيات تبادل العملات. مع شركاء مثل الصين وقطر والسعودية والإمارات. كما دخلت في علاقات مالية مع روسيا.

اقرأ أيضا: سياسة التحوط.. تركيا تبحث عن التوازن في الشرق الأوسط

تحسن قصير الأجل

وفقًا لبلومبرج/ Bloomberg، أسفرت صفقة مالية مرتبطة ببناء روسيا لمحطة Akkuyu للكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية. عن دفع 15 مليار دولار مقدمًا من المشغل النووي الروسي روساتوم / Rosatom. وذلك من أجل أن تشتري شركتها التركية -الشريكة بشكل مباشر- المعدات الحيوية لبناء المصنع. وبالتالي، تجنب العقوبات المحتملة.

وأوضح زميل معهد كارنيجي أن تدفق العملة الصعبة خلال فترة العامين المقبلين “يعتبر بمثابة تحسن قصير الأجل موضع ترحيب كبير في احتياطيات البلاد المستنفدة”. لافتا كذلك إلى أن الفوائد التي تتمتع بها روسيا ليست ضئيلة الأهمية أيضًا.

يقول: تعكس صفقة الحبوب التي أعدتها تركيا والأمين العام للأمم المتحدة صورة الموقف التصالحي من جانب روسيا. عندما لم تكن هناك أي عقوبات على صادرات الغذاء من روسيا أو الأراضي الأوكرانية المحتلة. تشمل الصفقة أيضًا السلطات الروسية في آلية مراقبة متعددة الأطراف تقع في إسطنبول. وبالتالي، تخفف من تصور روسيا المعزولة دبلوماسيًا.

وأضاف: يُعد ترتيب روساتوم/ Rosatom المالي طريقة غير سرية للغاية بالنسبة لروسيا. لتنفيذ صفقة صناعية صعبة للغاية مع تركيا، مع تجنب العقوبات المتوقعة على المعدات الحيوية. وعلى نفس المنوال، فإنه يوفر لأردوغان راحة مالية سوف يتقبلها بترحاب كبير. وهي لفتة استثنائية ذات فوائد انتخابية محتملة للرئيس الحالي.

ولفت كذلك إلى أنه “من خلال حرمان أنقرة من الضوء الأخضر لعملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا. ألزمها الكرملين بالدخول في حوار منفصل مع نظام الأسد. بينما كان أردوغان حتى الآن يعبر عن معارضة شديدة للرئيس السوري. بل، ويدعو إلى إزاحته من السلطة.

محاولة شق الناتو

على الرغم من الخلافات السياسية والعسكرية المتعددة. لكن، يعمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -من خلال إبقاء أردوغان إلى جانبه- على تعزيز إنجازه، وهو تسليم أنظمة صواريخ S-400 إلى تركيا. الأمر الذي يدق إسفينًا بين شركاء الناتو. في محاولة لتفتيت الحلف الأطول في أوروبا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

يقول بيرني: إن سياسة الكرملين براجماتية للغاية. فرغم أنه يدرك جيدا أن شركاء تركيا في الناتو، حريصون على إبقائها في حلف شمال الأطلسي، وأن أنقرة لها كل مصلحة في البقاء داخل الناتو. يظل هدف بوتين هو ترسيخ ارتباط أردوغان أكثر وأكثر بروسيا، من خلال شبكة واسعة من المنافع المتبادلة.  مثل التعاون المستمر في مجالات الدفاع والطاقة والتجارة والتمويل.

وأضاف: من خلال القيام بذلك، فإن بوتين يريح الرئيس الحالي المحاصر. ويعزز علانية موقف أردوغان في الانتخابات المقبلة. يشهد العالم استخدام الرئيس الروسي لتركيا لمصلحته الخاصة. أكثر من تخلي الرئيس التركي عن شركائه الغربيين التقليديين.