من مقر الحكومة الوثير بمدينة العلمين الجديدة، أعلن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي أن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء رصد على مدار الأشهر الثلاثة الماضية 150 مقالة تم نشرها في جرائد وصحف مواقع عالمية أغلبها يحمل صورة سلبية عن مصر، «وهي مقالات مدفوعة من قبل بعض الجهات».
وخلال لقائه قبل أيام بعدد من الشباب المشاركين في ملتقى «لوجوس الثالث للشباب» والذي حضره البابا تواضروس الثاني، والسفيرة سها جندي، وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج، وعدد من الأساقفة وقيادات الكنيسة، طالب مدبولي محدثيه من الشباب المصري المقيم في الخارج بتوضيح الصورة الحقيقية عن مصر، «دوركم الحقيقي هو أن توضحوا الصورة الحقيقية لمصر من خلال تعاملاتكم اليومية وعبر حساباتكم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي».
يبدو أن هناك من أعاد ضبط المؤشر على موجة «المؤامرات التي تستهدف مصر»، فتوالت تصريحات المسئولين والإعلاميين عن «محاولات ضرب استقرار الدولة، ونخر قوى الشر في دعائم الدولة المصرية واستهداف مؤسساتها بالشوشرة ونشر الشائعات والأكاذيب، وتدوير المقالات والمعلومات المثيرة للتشاؤم»، إلى آخر تلك الديباجات التي يجري استدعاؤها عادة عندما تتوالى الأزمات ويضغط الرأي العام على الحكومة ويحملها المسئولية، فتبحث الأخيرة عن شماعة بدلا من الاعتراف وتقديم تصور للخروج من المأزق.
وزير المالية محمد معيط خرج علينا هو الآخر قبل أيام مكررا نفس كلام رئيس الوزراء، مشيرا إلى أن كل الشائعات التي تنشر عن الاقتصاد المصري بشكل سلبي غير صحيحة، «هناك موجة استهداف عالية بأكثر من 150 تقريرا سلبيا عن مصر، وكل يوم هناك تقرير أو اثنين بشكل سلبي عن مصر».
ونفى معيط أن يكون هناك أي مشكلات تعاني منها مصر «الدولة قامت بتسديد ما عليها في وقته وتوفر جميع احتياجات المواطنين، ولا يوجد عجز في أي شيء»، وأوضح أن السبب فيما ينشر سلبًا عن مصر هو صمودها «مصر قوية ومستمرة في طريقها، والجميع يجب أن يعلم أنها مستهدفة»، لافتا أن ما يتحقق من إنجازات «لا يسعد فرقا معينة معادية للوطن».
لا شك أن الحرب الروسية/ الأوكرانية سرعت من وتيرة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا، فارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتراجع عائدات السياحة في الأسابيع الأولى للحرب، زاد من معدلات التضخم التي وصلت إلى نحو 15% في يوليو الماضي، مرتفعا حوالي 5% عن معدله في نفس الوقت من العام الماضي، كما أدى زيادة أسعار الفائدة في الأسواق الأكثر استقرارا مثل الولايات المتحدة وقلق المستثمرين من الأسواق الناشئة إلى خروج استثمارات غير مباشرة «أموال ساخنة» بقيمة 22 مليار دولار من مصر منذ ديسمبر الماضي.
هناك اتفاق بين الخبراء والمراقبين على أن تداعيات الحرب في شرق أوروبا أثرت بشكل بالغ على اقتصاد مصر، لكن هؤلاء الخبراء أجمعوا أيضا على أن الأزمة لم تبدأ مع اندلاع تلك الحرب، فالمشكلة تتصاعد حتى من قبل انتشار جائحة كورونا والتي أدت إلى تباطؤ النمو وتزايد معدلات البطالة.
ما حدث أن آثار الحرب كشفت هشاشة الاقتصاد المصري، بسبب اعتماد الحكومة المصرية الحالية وأسلافها خلال العقود الأخيرة على المشروعات الريعية وإهمالها المشروعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، وهو ما أدى إلى انخفاض الصادرات وزيادة الواردات، فجعلنا نلجأ إلى الاقتراض لسد الفجوة الدولارية، ما خفض مجددا من قيمة الجنيه أمام الدولار، وأوصل ديوننا الخارجية إلى حدود مقلقة «160 مليار دولار تقريبا» وهو ما دفع بعض المؤسسات الدولية إلى أن تضع مصر في المركز الخامس على قائمة الدول المعرضة للتخلف عن السداد خلف السلفادور وغانا وتونس وباكستان.
إنكار الحكومة للأزمة الاقتصادية التي نمر بها، أو تحميل تبعتها للحرب الروسية الأوكرانية فقط دون الاعتراف بأوجه القصور، هو لب المعضلة، ما هو أسوأ هو استدعاء حديث المؤامرة واستهداف مصر من قبل جهات عدة تعمل على إشاعة البلبلة وتصدير صورة غير حقيقية عن الواقع المصري من خلال تقارير ومقالات، بحسب ما صرح رئيس الوزراء ووزير ماليته.
العزف على وتر المؤامرة وتحميل الجهات التي لم يسمها رئيس الوزراء، هو وجه آخر من أوجه الإخفاق، فالسلطة التي تتولى زمام الأمور وتسيطر على كل الأجهزة والمؤسسات هي المعنية بالكشف عن المؤامرات الخارجية والداخلية ومواجهتها وحصارها والحد من تأثيرها.
لو فرضنا جدلا أن هناك مؤامرة بالفعل وأن أصحاب تلك المؤامرة نجحوا في تأجيج الناس ضد الحكومة وسياساتها وتوجهاتها الاقتصادية، فهذا يعني أيضا أن تلك الحكومة فقدت أدوات التأثير في الجمهور الذي عزف منذ فترة عن متابعة منصات الإعلام المصرية بسبب إفراطها في الحديث عن الإنجازات والمشروعات القومية وعوائدها وتصدير صورة وردية عن الواقع في حين أن أحواله المعيشية تسوء يوما بعد يوم، فعاقب هذا الجمهور تلك المنصات على طريقته ولجأ إلى بدائل تقدم له محتوى مختلفا بغض النظر عن موضوعيته وموثوقيته.
خلال الأسابيع الأخيرة دأبت وسائل الإعلام العاملة تحت جناح السلطة على بث تقارير مصورة عن ارتفاع أسعار الطاقة في الغرب مقرونة بمداخلات لمواطنين في أوروبا يشتكون من نقص السلع وارتفاع الأسعار، كما كثفت تلك المنصات من نشر تحذيرات الخبراء عن الكارثة التي تنتظر الغرب مع حلول الشتاء بسبب النقص المتوقع في إمدادات الطاقة، مع ذلك لم يرصد أحد أي اتهامات وجهها مسئولون في تلك الدول لوسائل إعلامنا باستهداف بلادهم، كما لم تُدبج الصحف ومواقع الأخبار والقنوات التلفزيونية الغربية تقارير ومقالات عن المؤامرة المصرية ضد الاتحاد الأوربي واقتصاد دوله، انشغل الساسة الأوروبيون بالبحث عن حلول حقيقية لتخفيف الأعباء عن مواطنيهم، فخصصت حكومات الاتحاد الأوروبي 280 مليار يورو لتدارك تداعيات أزمة الطاقة على الأسر والشركات، وسارعت في تقديم الدعم للرسوم الجمركية وتخفيض الضرائب على السلع والخدمات، وخفض أسعار تذاكر المواصلات العامة.. إلى آخر تلك الإجراءات التي اعتمدتها دول الاتحاد الأوروبي في الشهور الأخيرة.
قرارات الحماية الاجتماعية التي أقرها الرئيس عبد الفتاح السيسي نهاية الأسبوع الماضي ووجه مؤسسات الدولة بتفعيلها وتحويلها إلى إجراءات ملموسة خلال شهر سبتمبر الجاري، تأثيرها أكبر وأكثر وقعا على الناس من تدوير حديث الإفك والمؤامرات سواء من المسئولين أو أبواقهم في وسائل الإعلام.
لن يلتفت المواطن المطحون الذي يعاني من ارتفاع الأسعار إلى حديث مدبولي ولا معيط عن التقارير التي تستهدف البلاد، كما أنه توقف منذ فترة طويلة عن مطالعة ومتابعة الكتبة ومقدمي البرامج الذين يخصصون المساحات للهجوم على «المتآمرين الافتراضيين»، أو على «أشباه السياسيين والرماديين»، هؤلاء لا يخاطبون إلا من يحركهم وهدفهم الرئيسي إرضاء صاحب قرار بقائهم واستمرارهم في مواقعهم بالمؤسسات الإعلامية والتي تدر عليهم ملايين الجنيهات سنويا دون أي أثر، أما المواطن فعينه وقلبه متعلق بأحواله المعيشية واحتياجاته الأساسية كيف يوفرها ومن أين يسدد تكلفتها، لذا فكل قرش دعم يحصل عليه أو خصم على سلع أو خدمة، مُقدم على أي حديث سواء كان من وزير أو حارس درك بمنصات الإعلام.
إجراءات الحماية الاجتماعية الأخيرة، واستئناف جلسات الحوار الوطني التي من المفترض أن تطرح تصورات ورؤى لتحسين المناخ العام وفتح المجال السياسي بما يسمح بأن يستمع الرأي العام وصاحب القرار لحلول وبدائل ويفتح الباب أمام نقد جاد وموضوعي لأداء السلطة قد يكون بداية طريق لحلحلة الأزمة الاقتصادية وغيرها من أزمات تواجه الدولة، أما الإنكار وضيق الصدر ومحاولات إرهاب المخالفين والنهش في الناصحين واستخدام شماعات المؤامرة والاستهداف فتعيد الأمور إلى الحلقة الأولى من ذات الدائرة المغلقة التي قفزت بنا إلى متوالية الأزمات.