منذ قيام حركة الضباط الأحرار في يوليو من عام 1952، لم ينقطع حديث “المؤامرة” على مصر عن المجتمع السياسي، بشقيه الحاكم والمعارض. فقد اعتمد نظام جمال عبد الناصر على نظرية المؤامرة لتفسير أسباب نكوص دولة يوليو عن الوفاء بوعودها، خاصة وعود بناء حياة ديمقراطية سليمة، وكانت الظروف مواتية لذلك الخطاب، فدولة ناصر تعادي “الإمبريالية العالمية”، وتدعم حركة تحرر واسعة في المنطقة في مواجهة الاستعمار.

اقرأ أيضا.. بعد بيع الشركات.. من يشتري الكباري؟!

لم تخل خطابات تلك الفترة من الإشارة إلى الاستعمار وما قام به من نهب لثروات الشعوب، وكان لتلك الخطابات ما يؤيدها فالشعب المصري نال استقلاله قريبا، وحكم ناصر بدأ بالحرب الثلاثية على مصر، ثم جاءت هزيمة يونيو 1967 لتعزز فكرة المؤامرة وتجعل منها نظرية يركن إليها حكام مصر، فالعدو في الشمال الشرقي يتربص بنا لحظة الضعف ليعاود احتلال سيناء.

قدمت النظرية تبريرا سهلا لكل أخطاء الحكم وفساد القادة، كما وفرت بيئة مناسبة لمصادرة حرية الرأي والتعبير وإقصاء المعارضة، ظل الشعب المصري خلال عقود محروما من حقوقه في المشاركة واختيار حكامه بحجة جهله بما يحاك لمصر في الخفاء من مؤامرات أعدائها.

خلال السنوات الماضية منذ تأسيس دولة 30 يونيو، لم ينقطع الحديث عن المؤامرة وعادت النظرية لتستخدم كمبرر لمصادرة حقوق وحريات الأفراد، وتقييد المجال العام ومطاردة المعارضين، وكانت تحركات جماعة الإخوان دوليا تعزز من تلك النظرية، فإن خصم الدولة يستخدم كل أدواته في الخارج لمواجهة النظام، كما كان الدعم التركي القطري للجماعة محفزا آخر لحديث المؤامرة.

عندما تقدم الرئيس بدعوته للحوار الوطني خلال حفل إفطار الأسرة المصرية أبريل الماضي، تمنيت أن تكون تلك الدعوة بداية مرحلة جديدة تقوم على الحوار والمكاشفة، خصوصا مع استخدام الرئيس لجمل واضحة في مسألة التعبير مثل “الوطن يتسع للجميع” “الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”.

مع تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية في مصر، وخصوصا الشق المتعلق بتوفير النقد الأجنبي اللازم لسداد التزامات مصر الدولية، كان الاختبار الأول لجدية النظام في إتاحة المساحة للتعبير عن الرأي، والمشاركة المجتمعية في تحديد أولويات الإنفاق الحكومي، ومراجعة الخطوات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة خلال السنوات الماضية، وجدوى استكمال المشروعات القومية التي شرعت الحكومة في تنفيذها ولم يتم الانتهاء منها حتى الآن.

الأسابيع الماضية حملت إحباطات جديدة لكل المتفائلين بالوضع الجديد، فقد عاد خطاب المؤامرة بكل قوة مدعوما من منابر الدولة الإعلامية، خلال ما يمكن أن نعتبره “حملة منظمة”، انطلقت وسائل الإعلام تتحدث عن “مؤامرة اقتصادية” على مصر، تستهدف تقييد الإنجازات الحكومية.

كان يمكن اعتبار تلك الأحاديث هي مجرد اجتهادات من إعلاميين لا يتقنون سوى الهجوم على المعارضين والطعن فيهم، ولكن جاءت مداخلة وزير المالية مع “أحمد موسى” عبر قناة “صدى البلد” لتوضح أن خطاب المؤامرة هو صناعة حكومية وأن ما يقوم به الإعلاميون من أمثال موسى هو تكليفات وليست اجتهادات. حيث أكد الوزير في حديثه أن مصر “مستهدفة”، وأن التقارير الدولية التي تتحدث بالسلب عن الاقتصاد المصري هدفها نشر الشائعات والنيل من سمعة مصر.

بالرغم من أن التقارير التي يتحدث عنها الوزير صدرت من جهات دولية مرموقة، وأن تلك الجهات سبق أن أصدرت تقارير إيجابية عن الوضع الاقتصادي المصري خلال السنوات السابقة، واستخدمت الحكومة تلك التقارير الإيجابية كدلالة على قوة الاقتصاد وحسن الإدارة، بدلا من أن يقوم الوزير بالرد على تلك التقارير بشكل موضوعي يفند الأرقام والادعاءات، اختار الطريق الأسهل ويبدو أنه اختيار النظام عموما.

كما أن حديث المؤامرة لم يعد مفهوما في وقت تتلقى فيه الدولة دعما من صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والخليج العربي وتحديدا الحكومة القطرية، كما أن الدولة التركية من أكبر الشركاء التجاريين لمصر، من يتآمر على مصر؟ ومن يستهدف إسقاطها؟ إذا كان الجميع يشارك في المساعدة لتجاوز الأزمة.

عودة الحديث عن الشائعات ونشر المناخ التشاؤمي والمؤامرة على مصر، مؤشرات خطيرة يجب التوقف عندها، خصوصا في وقت ننتظر فيه بدء جلسات “الحوار الوطني”. كيف يستطيع المشاركون في الحوار التعبير عن آرائهم بشكل واضح بخصوص الوضع الاقتصادي، إذا كان سيف الإعلام الحكومي مسلطا على رقابهم. لن يكون هناك حوار حقيقي طالما ظلت منابر الدولة تطلق اتهامات تطال كل من يتحدث بقول مخالف لما ترغب الحكومة في نشره.

قامت الدولة بحبس الآلاف خلال السنوات الماضية بتهم نشر أخبار كاذبة، كما حشدت كل أدواتها الإعلامية لـ”نشر الإيجابيات”، ولكن ذلك لم يصلح الوضع الاقتصادي وكان واقع الناس المعيش أقوى من أي خطابات معلبة.

الشعب المصري هو من يدفع فاتورة الاقتصاد، ومن أبسط حقوقه أن يعرف الحقيقة، وأن تحترمه الدولة فلا تقدم مبررات من دولاب الستينات ربما تكون مناسبة في الحديث عن السياسة والديمقراطية، ولكنها بالتأكيد لن تجدي في مسألة يعيشها المواطن لحظة بلحظة.