في عام 2003 حينما غزت الولايات المتحدة العراق كان ذلك إيذانا بعهد جديد ليس فقط في السياسة العراقية وإنما في المرجعية الدينية الأعلى للشيعة في مدينة النجف، موطن الحوزة الدينية، إذ جرى التحوّل من “الخط الهادئ المُذعن” الذي يتفادى لعب أي أدوار سياسية إلى خط آخر بات يُمثل “صمام التوازن” في الحياة السياسية. وهذا الانعطاف جرى على يد رجل واحد يُدعى: علي السيستاني.
ورغم أنه خط لا يملك الكثيرون إلا الترحيب به كونه يزيح عن العراق غوائل ووباء الصراع الأهلي حتى ولو كان إلى حين، وغير مضمون التحقق دوما، إلا أن هناك من سيراه “تطورًا” يكشف الطبيعة الثيوقراطية للدولة العراقية الراهنة التي باتت أكثر ابتعادا عن حكم مدني حقيقي ويهيمن عليها رجال الدين (أي دولة ثيوقراطية أي دينية).
وفوق ذلك، فإن هذا الدور المهيمن لرجال مثل السيستاني رأس الطائفة الشيعية، يظهر جوهر السياسة العراقية كسياسة تقوم على حكم الطوائف. وهو ما يصب في ذات الاتجاه الكاشف لجوهر هذه الدولة التي أصبحت أكثر ثيوقراطية وأشد طائفية.
بعيدا عن هذه الملاحظة الأولية والجوهرية.. تبدّى التأثير الذي يتمتع به آية الله العظمى (لقب لأعلى مرجعية دينية شيعية) في نهاية أغسطس/آب 2022 حين منع العراق من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة. وكما تقول وكالة “رويترز“. فإنه عندما دفع إعلان لرجل دين في إيران العراق إلى شفا الحرب الأهلية. لم يكن يملك القدرة على منع ذلك سوى رجل واحد فقط”. في إشارة إلى السيستاني الذي “أثبت مرة أخرى أنه أقوى رجل في بلده”.
مسئولون حكوميون ومصادر شيعية مطلعة قالت لـ”رويترز” إن موقف السيستاني من وراء الكواليس هو وحده الذي نزع فتيل الكارثة. وتحدثت رويترز مع ما يقرب من 20 مسئولا من الحكومة العراقية وحركة الصدر وفصائل شيعية يُنظر إليها على أنها موالية لإيران. وأشارت جميع المقابلات إلى تدخل حاسم من وراء الكواليس من جانب السيستاني، الذي لم يشغل قط منصبا سياسيا رسميا في العراق. لكنه يعتبر أكثر رجال الدين نفوذا في النجف.
وقال مسئول بالحكومة العراقية: “بعث السيستاني برسالة إلى الصدر مفادها أنه إذا لم يوقف العنف فسيضطر إلى إصدار بيان يدعو إلى وقف القتال. وهذا من شأنه أن يجعل الصدر يبدو ضعيفا، وكأنه قد تسبب في إراقة الدماء بالعراق”. فيما ذكر مسئول موال لإيران أنه لولا مكتب السيستاني “لما عقد الصدر مؤتمره الصحفي” الذي أوقف القتال.
فمن هو الرجل الذي لم يتضح خليفته حتى الآن، والذي تدخل بشكل حاسم في لحظات حرجة في تاريخ العراق منذ الغزو الأمريكي الذي أطاح بصدام حسين.
اقرأ أيضا – بئر العراق المشتعل: جذور الأزمة ومآلات المستقبل
البداية: من صدام إلى الاحتلال
كان السيستاني فردا من عائلة مشهورة من علماء الدين، حيث ولد في مدينة مشهد الإيرانية، وبدأ الدراسة الدينية في سن الخامسة، قبل أن ينتقل إلى النجف في شبابه (عام 1952). وقد كتب العديد من الكتب والرسائل في الشريعة الإسلامية والحياة.
وبعد وفاة المرجع الأعلى أبو القاسم الخوئي، الذي كان السيستاني أحد تلامذته، تولى الأخير المنصب في عام 1992. وكان قيد الإقامة الجبرية لسنوات عديدة تحت حكم صدام حسين. واعتبر بعض علماء الشيعة أن عدم معارضته الصريحة لصدام علامة على “الانصياع الهادئ”.
أحد أبرز منتقديه هو محمد صادق الصدر. والد مقتدى الصدر، والذي عُد آنذاك المنافس الأبرز للسيستاني قبل أن يغتاله نظام البعث العراقي. وقد صور أتباعه السيستاني على أنه جبان نظرا لأنه ظل على هامش العملية السياسية خلال التسعينيات.
لكن تعزز دور السيستاني كرجل دين شيعي كبير في عام 1998 عندما اغتيل الصدر وأحد أبنائه. فيما يُعتقد أنه على يد صدام حسين.
ومنذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003 أصبح السيستاني أكثر انخراطا في السياسة. ورغم أنه في البداية أصدر أوامره بمنع رجال الدين الشيعة من الانخراط في السياسة، فإنه مع ترسخ الاحتلال دعا إلى مؤتمر دستوري.
كما انتقد مرارا الخطط الأمريكية لتسليم السلطة إلى العراقيين بحلول منتصف 2004 وأراد إجراء انتخابات قبل ذلك بوقت طويل، بحيث يكون للعراقيين رأي فيمن سيمثل الحكومة الانتقالية. ولدعم تلك المطالب نظم أتباع السيستاني واحدة من أكبر التظاهرات التي شهدها العراق منذ بدء الاحتلال الأمريكي.
تبلور الدور السياسي في العراق
يقول عبد الله فيصل آل ربح -الأستاذ المشارك في علم الاجتماع الديني في جامعة “جراند فالي” الأمريكية: “شهدت المرجعية انتقالا كبيرا على المستوى السياسي. فبعد أن كان أقصى طموحها النجاة من بطش النظام البعثي أصبحت المرجعية تراقب المشهد السياسي برمته. بل وتتدخل في الأوقات الحرجة”.
لقد أصبح السيستاني يمثل الملاذ الذي يقصده السياسيون للحصول على النصح والتوجيه في أوقات الأزمات، فهم يعلمون أن عموم الشيعة سيلتزمون بتوجيهاته. وبحسب فيصل “هذا افتراضٌ واقعي تدعمه حقيقة أنه حتى رئيس الوزراء يبقى بحاجة إلى اتخاذ خطوات ملموسة كافية بشأن الإصلاح ومحاربة الفساد ليحظى بتأمين لقاء مع آية الله العظمى”.
لكن موقف السيستاني من المقاومة المسلحة للاحتلال الأمريكي عرضه لانتقادات كثيرة. إذ رفض هذا النهج داعيا إلى مقاومة سلمية. كما نسج قنوات تواصل مع المسئولين الأمريكيين الذين فهموا مع مرور الوقت أنه لن تُمرر خطواتهم السياسية. إلا إن كان السيستاني راضيا.
وقد أصدر في أعقاب الغزو مباشرة فتوى سياسية تحث الشعب العراقي على التحلي بالحياد وعدم التدخل في مواجهة القوات الأمريكية. وبينما أدان الاحتلال لم يصدر فتوى ضده، وهو أمر كان من المؤكد أنه سيجلب ملايين الشيعة إلى الشوارع بحسب تعبير صحيفة “نيوزويك” الأمريكية التي نقلت عن مسئول أمريكي قوله “نعم. إنه صانع ملوك. إنه قوي. لكنه لن يلتقي وجها لوجه”.
إذ لم يتمكن أي مسئول أمريكي من رؤية السيستاني الذي قال مساعدوه إن مثل هذا الاجتماع قد يبرر الاحتلال الأمريكي. يضيف المسئول بإعجاب على مضض “بصراحة لدي الكثير من الاحترام لمهارته السياسية”.
تأكد نفوذ آية الله في أغسطس/آب 2004 عندما تفاوض على إنهاء المواجهة الدموية التي دامت ثلاثة أسابيع بين جيش المهدي -التابع لمقتدى الصدر- والقوات الأمريكية والعراقية حول مسجد الإمام علي في النجف -أحد أقدس الأماكن لدى الشيعة.
أوقف تدخل السيستاني المواجهات المسلحة بعد فشل جهود رئيس الوزراء حينها -إياد علاوي- والحكومة العراقية المؤقتة والمؤتمر الوطني العراقي.
كينيث كاتزمان -كبير محللي الشرق الأوسط في خدمة أبحاث الكونجرس- قال آنذاك: “لولا السيستاني لما كان لديهم حل لأزمة النجف. الحكومة العراقية مدينة بالكامل للسيستاني لإبقاء الصدر تحت السيطرة”.
وهنا كان دور أول شديد الأهمية في العملية السياسية الناشئة. ولكنه لم يصبح الأخير. إذ ستتكرر خطوته لإبقاء الصدر تحت السيطرة بعد 18 عاما.
تنامي الأدوار: من “الفتنة” حتى”الجهاد الكفائي”
رغم فشله في إيقاف الحرب الأهلية الطائفية عام 2006 فإن السيستاني لعب دورا مهما في تهدئة الأجواء. وذلك حينما ناشد أتباعه في ذروة الحرب بعدم الانتقام عندما دمر مسلحون سُنة مرقد الإمامين العسكريين في سامراء.
وفي عام 2007 قال إن الخلافات بين السنة والشيعة موجودة منذ قرون. ولكن لا ينبغي أن تكون سببًا لإراقة الدماء. وأشار حينها إلى “حاجة ماسة للوحدة ونبذ الانقسامات” و”تجنب التعصب الطائفي”.
يقول منتدى “بوستون ريفيو” عن السيستاني “بناء على أفعاله وتصريحاته منذ عام 2003 حاول السيستاني “الحفاظ على قشرة القومية العراقية” وقد ظلت مهمة شاقة.
بينما يشير “معهد أبحاث لوي” الأسترالي: “رغم نهج السيستاني الذي يبدو أنه عدم التدخل، فقد أصبح العراق يعتمد على سلطته الأخلاقية وقيادته الوطنية، مع انتقال البلاد من أزمة إلى أخرى، ومن حكومة فاسدة إلى حكومة غير كفؤة، لعب السيستاني دورا حاسما وموحدا في كل لحظة انتقالية”.
وتضيف المؤسسة الفكرية المستقلة: “كل إدارة تشكلت منذ الغزو الأمريكي عام 2003 كانت تسعى للحصول على موافقة السيستاني. وخلال أوقات الأزمات -التي كان هناك كثير منها في عراق ما بعد البعث- دعا السيستاني باستمرار إلى الوحدة الوطنية والتسوية وممثلين منتخبين يستجيبون لإرادة الشعب”.
في عام 2014 أصدر السيستاني فتواه الشهيرة “الجهاد الكفائي” لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي بعد سيطرته على مدينة الموصل. كما دعا جميع العراقيين لحمل السلاح لمواجهة التنظيم، واستجاب له مئات الآلاف من الشيعة.
ودعم في البداية “قوات الحشد الشعبي” ولكن على مدى السنوات التالية نأى بنفسه عنهم بشكل متزايد، لأنه شعر أنهم يقفون تحت النفوذ الإيراني، بحسب ما تشير “دويتشه فيله“.
وفي عام 2020 دفع إلى انسحاب أربع ميليشيات كبرى من قوات الحشد الشعبي. وهو ما وصفه تحليل لـ”المونيتور” بأنه “رسالة واضحة مفادها أن السيستاني غير راضٍ عن المنظمة الموالية لإيران”.
وأشار ممثله في لبنان حامد الخفاف في مقطع فيديو نُشر في سبتمبر/ أيلول 2015: “يؤمن (السيستاني) بضرورة إدماج الشيعة أينما وُجدوا في أوطانهم، ويترك لأهل الحل والعقد في كل بلد تدبير شئونهم”. ذلك في إشارة ضمنية إلى رفض النهج “الولائي” لإيران الذي يعبر من القومية إلى الأيديولوجية.
“رغم أقدميته الدينية وسلطته الأخلاقية فإن مقاربة السيستاني غير المستحسنة هي أحد العوامل في تفسير كيفية السماح لنفوذ إيران في العراق بالانتشار”، يعلّق “معهد لوي”.
وفي 2019 انحاز إلى الاحتجاجات الشعبية التي عمّت البلاد وبدا أن صبره نفد تجاه الطبقة السياسية. إذ كرر السيستاني مطالبه ودعا إلى قانون انتخابي جديد “لا يعطي ميزة غير عادلة للأحزاب السياسية الحالية. ولكنه يعطي فرصة حقيقية لتغيير القوى التي حكمت البلاد”.
العلاقات مع إيران
بينما يحافظ النظام الإيراني على علاقة جيدة مع السيستاني -كما الحال مع معظم القادة الشيعة في العراق- هناك بعض العداء بين آية الله وعلي خامنئي. إذ شن النظام الإيراني حملة لتهجير السيستاني وحلفائه في النجف، والترويج لخامنئي كمرجع للتقليد المطلق للشيعة في جميع أنحاء العالم في أعقاب الغزو الأمريكي.
لكن محاولة خامنئي باءت بالفشل لأنه كان يتمتع بمؤهلات دينية متواضعة (تم ترقيته إلى رتبة آية الله بعد وفاة الخميني. حتى يتمكن من تولي منصب المرشد الأعلى) وتمكن السيستاني من الاحتفاظ بمنصبه.
وبحسب “مجلس العلاقات الخارجية” يفضل السيستاني “دولة إسلامية ولكن ليس ثيوقراطية كما الحال في إيران”. وقد قال إنه لا ينبغي أن يتعارض أي قانون في العراق مع المبادئ الإسلامية. ويريد الاعتراف بالإسلام في القانون باعتباره دين غالبية العراقيين.
ومع ذلك، فهو لم يروج لدور رسمي لرجال الدين الإسلاميين في الحكومة العراقية، ويدعم دولة إسلامية تتوافق مع الانتخابات وحرية الدين والحريات المدنية الأخرى.
وقد حصر آية الله العظمى الذي عُرف يتقشفه وزهده كنمط حياة ولاية الفقيه في بعض الأمور دون بعض، وربط الولاية المطلقة بـ”قبول المؤمنين”.
ويقول: “الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد. وأما الولاية فيما هو أوسع منها من الأمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي، فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط إضافية ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين”.
وقد استغل معارضو السيستاني جذوره الإيرانية في محاولة للقول إنه يحافظ على بعض الولاء للدولة الإيرانية. لكن خبراء يقولون إن آراء السيستاني تعكس استقلاليته عن رجال الدين الإيرانيين.
“يتعامل السيد السيستاني مع المشهد بأسلوب عملي حذر يتناسب مع رؤيته لدولة مدنية، بغض النظر عن القوة الكبيرة التي يتمتع بها؛ فهو غير معني باستخدامها لفرض إرادته كحاكم أو للانخراط في عملية الحكم. وهذا الموقف يعكس فلسفته في المرجعية بوصفها موقعا دينيا وليس سياسيا” بحسب معهد “الشرق الأوسط“.
ويرى عبد الله فيصل أن السيستاني يؤسس لمبدأ جديد للمرجعية يقوم على الموازنة بين قوته الفعلية داخل العراق وبين قيادته الروحية الأوسع للشيعة في بقية أنحاء العالم.
ويدلل على تمسك السيستاني بهذا المبدأ أنه طوال تاريخه لم يتخذ أي موقف أو يصدر فتوى بشأن أي اضطرابات سياسية في بلد غير العراق.
هذا الموقف الحكيم -والحديث لا يزال لفيصل- سيتحول إلى عُرف أو مثال يحتذى لمراجع النجف المستقبليين. وإلا فإن الدولة العراقية وجماهير الشيعة في عموم العالم سيواجهون مستقبلا صعبا مع بقية المكونات الإقليمية في الدول العربية والقوى الإقليمية الأخرى مثل إيران والهند وباكستان وتركيا.
اقرأ أيضا – فورين بوليسي: سياسة بايدن “اللامبالية” منحت إيران اليد العليا في العراق
أي مسار بعد السيستاني؟
لا يمكن التنبؤ القطعي بهوية خليفة السيستاني، وستكون الأمور أكثر تعقيدًا حال نشوب خلاف بين قيادات المؤسسات التابعة للسيستاني. ما قد يتسبب في انقسامات في الوسط الشيعي وفي إضعاف موقع المرجعية نفسه -وفق تحليل معهد “الشرق الأوسط”.
ويتساءل الباحث عبد الله فيصل: “هل سيكون السيستاني آخر العظماء؟ وهل سيكون آخر مرجعية عابرة للحدود تشكل مظلة لغالبية الشيعة في العالم ولديها قوة إصدار الفتوى المؤثرة على عموم المنطقة؟” حتى لو لم تكن الإجابة “نعم” فإن هذا لا يعني أنها ستكون “لا على الإطلاق”.
إذ يعتقد أن موقع المرجع الأعلى مرشح للاستمرار بعد السيستاني. ولكن “استقراره قد يواجه تحديا خطيرا بتعاقب سلسلة من المرجعيات العليا قصيرة الأجل في العقود القادمة حتى ظهور مرجع قوي -لا يتجاوز الستينيات من العمر- ليفرض نفسه كمرجع أعلى دون منازع”.
ومن وجهة نظر عباس كاظم -مدير مبادرة العراق في “المجلس الأطلنطي“- فإنه يُرجّح أن يخلق رحيل السيستاني فراغًا بسبب غياب الوسيلة الرسمية لخلافته. كما أنه من المرجّح أن وفاته ستزيد من الشكوك حول الاستقرار السياسي للعراق واستقلاله.
“لا أحد سوى السيستاني يملك السلطة الدينية والأخلاقية لكبح الصدر والفصائل الشيعية الأخرى. كما أنه ربما يكون الزعيم الشيعي الوحيد في العراق الذي يمكنه توفير بعض السيطرة على النفوذ الإيراني. ولكن لا يوجد خليفة واضح إذا مات السيستاني أو أصبح عاجزا”.