الثابت تاريخيًا أن كل أزمة مآلها إلى الزوال مهما طال أمدها ومهما بلغ عمق أثرها وأيًا كان شكل ما سينتج عنها من تركيب، وبالتالي، فإن التنبؤ “بعَالَم ما بعد الأزمة الأوكرانية” يفرض نفسه كضرورة قصوى على المجتمعات الإنسانية لوضع إطارٍ عام لتصورات وتقديرات موضوعية حول ما عسى لهذا العالم أن يكون من ملامح بُغيَة الاستعداد برؤى واستراتيجيات متعددة المستويات تتصف بأكبر قدر من المرونة التي يستوجبها التغير بالغ السرعة في موازين القوى الإقليمية والدولية. وأظن أن أهم ما ينبغي على المجتمعات الإنسانية البدء به في هذا السياق، هو ضرورة إعادة النظر في وثائقها الحالية وفي كفاءة مؤسساتها.

من أهم الوثائق الأممية التي ينبغي على المجتمع الدولي مراجعتها هي الوثيقة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2015 والمعروفة باسم “تحويل عَالَمِنَا-جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة”* والتي تحددت بموجبها أهداف التنمية المستدامة Sustainable Development Goals السبعة عشر التي التزمت بها كل الدول الأعضاء لتقوم من ذلك التاريخ بالبدء في وضع الاستراتيجيات والخطط والترتيبات الهيكلية اللازمة لتحقيق تلك الأهداف باعتبارها كُلا متكاملا غير قابلٍ للتجزئة لأجل تحقيق التوازن بين الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة وهي: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي. ولما كانت تلك الوثيقة الأممية قد جرى إعدادها في ظل ظروف مختلفة تمامًا عَمَّا يمر به العَالَم الآن وعَمَّا سيكون عليه من أحوالٍ بعدما تضع الحرب الأوكرانية أوزارها، فربما يكون التعديلُ مصيرهُا خاصة فيما يتعلق بالالتزام التاريخي أو ربما يمتد الأمر ليصل بها إلى خارج دائرة التطبيق بالكُلية لتنتهي إلى غياهب النسيان.

ولعل تصريح السيد/ كريستيان ليندنر وزير المالية الألماني الذي أشرت إليه في مقالٍ سابق، كان مؤشرًا أستند إليه في تقييمي لحالة الوثيقة الأممية تلك حين قال نَصًا: “إن اهتمامي ينصَب على أننا قد نواجه موقفًا مُقلِقًا في غضون بضعة أسابيع أو أشهر.

أمامنا من ثلاث إلى أربع سنوات، وربما خمس سنوات من النقص الذي ينبغي علينا إيجاد حَلٍ له”. بمعنى آخر، وتفسيرًا لما قاله السيد/ ليندنر في سياق هذا المقال، فإن ثلاث سنوات في أبسط التقديرات سيتم خصمها من عُمر الالتزامات الألمانية الحالية فيما يتعلق بخطة 2030 في الداخل الألماني وفي المُحيطَين الأوروبي والدولي بِحُكم الاضرار التي لحقت بالاقتصاد الألماني جراء الأزمة فما بالك باقتصادات أقل حجمًا وأكثر احتياجًا لتنمية حقيقية بحلول 2030 وسط تحديات كونية أكثر شمولًا كأزمة المناخ وأزمة الهجرة وما يتعلق بها من تغييرات ديموجرافية؟.

بشكلٍ أكثر مُباشَرَةً وبعدما تضررت اقتصادات دول المركز التي كانت تدعمها، كيف سيتسنى لمجتمعات الأطراف التي تعاني بالأساس من صعوبات مالية واقتصادية وإنسانية هيكلية لأسباب متنوعة أن تمضي منفردةً في تحقيق ما ألزمت به أنفسها من أجندات للتنمية إن لم تقم بإعادة النظر في استراتيجياتها وأدواتها وآليات عملها من خلال إبداعاتٍ غير تقليدية تتجاوز ما أعاقته الأزمة من مسارات على المستويين المحلي والأممي؟ بشكلٍ أكثر دقة، كيف سيتسنى لتلك المجتمعات -وفقًا لنص أول خمس أهداف بالوثيقة الأممية- القضاء على الفقر بجميع أشكاله، والقضاء على الجوع وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة وتعزيز الزراعة المستدامة، وضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، وضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع، وتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء في ظل ما تعانيه تلك المجتمعات من مشكلات تتعلق على وجه الخصوص بمصادر الطاقة والتمويل اللازمين لإنجاح أي عملية حقيقية للتنمية المستدامة.

في هذا السياق، فإن الواقع المرير شديد التعقيد الذي فرضته الأزمة الأوكرانية على البشر جميعًا والذي يختلف بالكلية عَمَّا سبقه، يقتضى من مُفكري مجتمعات المراكز التي تزلزلت أركانها ومجتمعات الأطراف التي تعمقت مشكلاتها، إجراء نوع من المراجعات لوثائقها الأممية والمحلية على حد سواء وتأتي على رأسها وثيقة “تحويل عَالَمنا- أجندة 2030″، مع مَد الخط على اتساعه ليشمل تقييمًا موضوعيًا لكفاءة المؤسسات التي جرت تلك الأزمة تحت أعينها فاكتفت بتراثٍ رديء من ردود الأفعال التي أكل عليها الدهر وشرب، ليكون غرض التقييم هو إصلاح تلك المؤسسات أو ابتداع مؤسسات جديدة تتلاءم مع واقع مختلف كخطوة أولى للاستعداد لعَالَم ما بعد الأزمة الأوكرانية. من اللافت هنا أن المجتمع الدولي كان قد أخفق مؤخرًا في إجراء مثل هذه المراجعة لتقييم الأداء البائس لمنظمة الصحة العالمية -باعتبارها واحدة من المؤسسات الأممية- في التعاطي مع أزمة كورونا التي نتج عنها وفاة ما يزيد عن الستة ملايين إنسان في حين قام هذا المجتمع ذاته منذ ما زاد عن ثلاثة أرباع القرن بتحديث مؤسساته على أرضية واقع جديد فأنشأ صندوق النقد والبنك الدوليين لإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. إن ضرورات عَالَم ما بعد الأزمة الأوكرانية هي مُحفزات التغيير من خلال فِكرٍ يدرس الواقع الجديد لينتج بِنَى فوقية وتحتية مغايرة..

هذا ما سوف يحدث وإن طال الزمن وتعددت العثرات.

*https://www.un.org/en/development/desa/population/migration/generalassembly/docs/globalcompact/A_RES_70_1_E.pdf