شكلت حدود السودان ذات الأراضي الزراعية الخصبة والأهمية الاستراتيجية مدخل لتهديد سيادة الدولة. حيث تعرضت الحدود السودانية إلى تعديات مستمرة من جانب الإثيوبيين مدفوعين من جانب السلطات الإثيوبية. وعلى الرغم من أن الحدود السودانية الإثيوبية تخضع لاتفاقيات تاريخية تعود إلى عام 1902. إلا أن ثروات الدولة السودانية حركت مطامع الإثيوبيين إلى عدم الالتزام بما تعهدوا به. لاسيما في منطقة الفشقة، التي تجدد النزاع الحدودي بها مؤخرًا، بعد واقعة إعدام 7 سودانيين على يد الإثيوبيين في هذه البقعة الحدودية المضطربة.

يستعرض الباحث “أحمد سليمان أبكر” طبيعة النزاع على الفشقة بين إثيوبيا والسودان الجارتين، في دراسة بعنوان “شرق السودان والمطامع الإثيوبية” نشرها مؤخرًا مركز دراسات الوحدة العربية.

نظرة تاريخية

تبدأ الدراسة بخلفية تاريخية عن نشأة الأزمة التي بدأت منذ عام 1891 حيث كانت مصر واقعة تحت الاحتلال البريطاني. آنذاك تقدم الإمبراطور الإثيوبي “منليك الثاني” بطلب إلى الدول الأوروبية يتضمن مد حدود إثيوبيا غربا حتى الخرطوم وجنوبا حتى بحيرة فيكتوريا.

وفي ظل طموحات بريطانيا لإسقاط السودان تحت سيطرتها، تمكنت القوات البريطانية من بسط نفوذها على مدينتي القضارف والروصيرص، مما زاد غضب الإمبراطور الإثيوبي، نظرا لأهمية الروصيروص الواقعة على النيل الأزرق. ثم في عام 1898، انتهزت إثيوبيا فرصة وقوع السودان تحت الاحتلال البريطاني، وبدأت مفاوضات ترسيم الحدود مع ممثل بريطانيا في الحبشة “جون هارنيغتون”.

وأثناء المفاوضات، تم إبلاغ الحكومة المصرية بتقديم تنازلات معقولة في الأراضي لمنليك مقابل الحصول على ضمانات في مياه بحيرة تانا والنيل الأزرق. وهو ما تم رفضه من قبل بريطانيا، التي شددت على عدم قبول أي مطالبات في وادي النيل في الغرب والشمال الغربي لصالح منليك لأنها تخضع لسيطرة خديوي مصر.

وفي الوقت نفسه، تقاطعت مقترحات منليك مع منطقة النفوذ الإيطالي في إريتريا، التي تخضع للبروتوكول البريطاني الإيطالي المبرم في 15 إبريل/ نيسان 1891، مما أدى إلى تعليق المقترحات الإثيوبية.

حاول منليك استعطاف هارنغتون للحصول على مدينة المتمة لأهميتها الاستراتيجية، ولاعتبارات دينية وامتدادات قبلية، وافقت الحكومة البريطانية على تقسيم المتمة إلى قسمين، في الشرق حيث خور أبو نخرة تابع لإثيوبيا، والقسم الغربي تابع للسودان، وتم التوافق على ضم الحبشة لبني شنقول في مقابل منح امتيازات الذهب في ذات المنطقة للشركات البريطانية.

وتم تحديد الحدود بين السودان وإثيوبيا بموجب اتفاقية 15 مايو/ أيار 1902. وهي تمتد من خور أم حجر إلى القلابات إلى النيل الأزرق، وهي (بارو، وبيبور، وأوكوبو، ومليلي)، وهي الاتفاقية المعمول بها حتى اليوم.

الدور الغربي

استفادت إثيوبيا من ورقة الدين في توطيد علاقتها بأوروبا باعتبارها الدولة المسيحية في القرن الأفريقي. كما ساعدها ذلك في الحصول على العديد من الامتيازات الحدودية خلال اتفاقية مايو 1902. حين تنازلت بريطانيا عن أراضٍ سودانية لصالح إثيوبيا منها بني شنقول، مثلث تاية، جزيرة الدود، وحمراية الرهد جنوب القلابات. بالإضافة إلى المنطقة الممتدة من نقطة تلاقي سنار مع القضارف، وأم بريقة في ولاية كسلا، ومنطقة الدبلو في القضارف.

وعلى خلفية طموحات إثيوبيا في الحصول على المزيد من الأراضي السودانية، تجددت الخلافات الحدودية، إلى أن تم تشكيل لجنة ترسيم الحدود في 1973. ولكن اتبعت إثيوبيا سياسة المماطلة والتسويف لأجل الالتفاف على بروتوكول 1903 المبرم بين الدولتين.

مشكلة الفشقة

بالنسبة لوضعها القانوني، وفقا لاتفاقية 1902 وبروتوكول 1903 واتفاقية 1972 الموقع عليها الطرفان السوداني والإثيوبي، تعتبر الفشقة داخل الحدود السودانية. وقد شهدت تعديات متواصلة من جانب الإثيوبيين على مدار العقود الماضية. فمنذ عام 1957، بدأ المزارعون الإثيوبيون في التسلسل إليها وزراعتها على رغم من رفض الإدارة الأهلية بالمنطقة. واستمر تعدي المزارعين الإثيوبيين على الفشقة بدعم من الجيش الحبشي. بحيث بلغ مساحة المشاريع التي أقامها الإثيوبيون أكثر من مليون فدان في عام 2020. إلى جانب الاعتداءات المستمرة على المواطنين العزل وقتلهم وسرقة ماشيتهم.

وبعد توقيع اتفاقية جوبا للسلام في 2020، أعاد الجيش السوداني انتشاره. كما استطاع تحرير 95% من أراضي الفشقة فيما عدا منطقتين، يحاول إخلائهما من خلال الحوار وأدوات الدبلوماسية مع السلطات الإثيوبية.

في الدراسة يستنتج الباحث، أن إثيوبيا حصلت على نفوذ كبير في أفريقيا من خلال علاقتها الجيدة مع البريطانيين، وأن السودان بحاجة إلى بنية تحتية سليمة في الخطوط الحدودية لضمان استقلال أراضيها. كما يستنتج أن تساهل السودانيين مع المزارعين الإثيوبيين في بداية الأمر له دور كبير في تفاقم أزمة الفشقة. أخيرًا، يستخلص أن عدم الاستقرار السياسي في السودان يجعله عرضة للتدخلات الخارجية لاسيما من دول الجوار.

كما ينتهي بعدة توصيات إلى إثيوبيا منها ضرورة الالتزام بالمواثيق الدولية (اتفاقيتي 1902، 1972). وكذلك ضرورة الانسحاب السلمي من منطقة الفشقة لأنها حق سوداني خالص.

ويوصي السلطات السودانية أيضًا بالتصدي الحازم أمام أي انتهاك على حدودها سواء من جانب إثيوبيا أو أي قوة خارجية. فضلًا عن ضرورة ربط الفشقة بطرق معبدة لتحريرها من عزلتها وإبقاء سيادة الدولة عليها.

ويختتم بأن لدى إثيوبيا طموحات واسعة في أراضي شرق السودان منذ توقيع اتفاقية 1902. بينما على الجانب الآخر، يتمسك السودان بالطرق السلمية والأسانيد القانونية في حل النزاعات الدولية. ذلك رغم أن سياسة إثيوبيا التوسعية تعمل على تدهور علاقاتها بالدول المحيطة لاسيما بعض دول حوض النيل.