ذات يوم من صيف عام 1956 استدعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في منزله بمنشية البكري عضو مجلس إدراة المجلس القومي للإنتاج الدكتور عزيز صدقي والذي حصل قبل ذلك التوقيت بسنوات قليلة على رسالة دكتوراة من الولايات المتحدة الأمريكية في «حتمية التصنيع في مصر».
بعد كلمات الترحيب والود، طلب عبد الناصر من ضيفه العمل على إعداد مشروع للنهوض بالصناعة المصرية، ومع إعادة تأليف الحكومة، في أول يوليو أُسندت حقيبة الصناعة إلى صدقي ليُمكن من تحويل مشروعه الطموح إلى إجراءات وواقع ملموس.
طلب عبد الناصر من الوزير الشاب حينها (35 عاما) إعداد دراسة متكاملة عن مشروعه، فالتمس صدقي مهلة مدتها 6 شهور للانتهاء من وضع خطة الصناعة ومشروع قانون التنظيم الصناعي.
شكل صدقي عددا من اللجان للدراسة، ضمت جميع الكفاءات العلمية والاقتصادية والإدارية والفنية والقانونية، وأعدوا مشروع برنامج السنوات الخمس للصناعة ومشروع التنظيم الصناعي. وكانت الخطة طموحة جدا بمقاييس ذاك الوقت.
كان قانون التنظيم الصناعى يعني تحولا كبيرا في سياسة الدولة، إذ ينص لأول مرة على أن تتدخل الحكومة في الصناعة، وفق ما ذكر الكاتب الصحفي الراحل عبد الله إمام في كتابه «عبد الناصر والحملة الظالمة».
«لم يوافق عبد الناصر على مشروع القانون ولا على الخطة عندما عرضتا عليه، وطلب أن يطرح ما استقرت عليه اللجان لأوسع المناقشات أولا قبل أية موافقة عليهما. ووضعت الخطة ومشروع القانون أمام جهات متعددة للدراسة والمناقشة وإبداء الرأی».
عارض اتحاد الصناعات -ممثل الرأسمالية الكبيرة في ذلك الوقت- تدخل الدولة في الصناعة ورفع مذكرة بهذا الشأن، كما عارض رؤساء شركات الغزل -وهم من كبار الرأسماليين أيضا- أن تتضمن الخطة إنشاء مصانع جديدة للغزل والنسيج بحجة أن الموجود منها يكفي احتياجات البلاد وزيادة، «كان لهؤلاء منطق خاص يتربط بمصالحهم التي ستتأثر في حال أكملت الدولة خطتها»، يضيف إمام في كتابه المشار إليه.
وبعد انتهاء الدراسات والمناقشات، وُضعت الآراء أمام عبد الناصر، «لم يتخذ فيها قرارا أيضا، وطلب من صدقي أن يستعد لشرح خطة السنوات الخمس للصناعة بالتفصيل للوزراء خلال اجتماع الحكومة».
لم يشأ عبد الناصر أن يبدي رأيا مسبقا خلال الاجتماع، «ترك الجميع يتكلمون بعضهم أيد وبعضهم عارض وكانت مناقشات طويلة وحية وصاخبة، وعزيز صدقي يقنع ويشرح الخطة مشروعا مشروعًا ومصنعا مصنعًا طوال 4 ساعات.. كانت معظم المعارضة تتجه الى أن الخطة طموحة أكثر من اللازم وأنها مجرد حلم بعيد التنفيذ.. فكيف يمكن للدولة أن تدبر 250 مليون جنيه هي قيمة تكلفة مشروعات السنوات الخمس للصناعة».
وبعد هذا القدر الطويل والواسع من المناقشة خارج مجلس الوزراء وداخله تمت الموافقة على الخطة، وطلب عبد الناصر من صدقي أن يعقد مؤتمرا صحفيًا بعد انتهاء اجتماع الحكومة ليعلن فيه لأول مرة خبر خطة «تصنيع مصر»، ذلك المشروع المتكامل الذي تشرف عليه وتنفذه الدولة.
مضى صدقي ورفاقه من الشباب المتخصصين في تنفيذ الخطة الخمسية لتصنيع مصر التي جرى تطويرها لتصبح أوسع وأكثر طموحا لتشمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، للسنوات الخمس (1960-1965) مستهدفا مضاعفة الدخل القومي خلال عقد واح.
وفق بيانات وأرقام جهات مستقلة، نجح صدقي في تحقيق 80% من أهداف الخطة، رغم خوض مصر لحرب اليمن، والتي أدت تكاليفها إلى نقص العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد المعدات والمواد الأخرى لتنفيذ الخطة.
كان صدقي مؤمنا بأن مصر ليست قادرة على أن تتقدم صناعيا فحسب، بل على منافسة أوروبا في التقدم الذي أنجزته، فأعلن وزير الصناعة عن استراتيجة «إبدال الورادت بالمنتج المحلي»، وأطلق حملته «من الإبرة إلى الصاروخ» أي تصنيع ما كنا نحتاج إلى استيراده في مصانع مصرية، وتمكن خلال الفترة التي تولى فيها الوزارة من إنشاء نحو 1000 مصنع موزعة على جميع محافظات مصر.
«كان من هذه المصانع ما يزيد عن مائتين وخمسين مصنعا للصناعات الثقيلة مثل المراجل البخارية التى تحتاجها الصناعات الكيماوية والغذائية والغزل والنسيج وتوليد الكهرباء… إلخ، ومن هذه المصانع أيضا مجمع الحديد والصلب بحلوان ومجمع الألومنيوم فى نجع حمادى ومصنع الفيروسيليكون فى إدفو ومجمع البترول بالسويس ومسطرد وطنطا والإسكندرية وغيرها من المصانع»، يقول سامي شرف سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات في كتابه «سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر».
توقف بعض هذه المصانع عن العمل في أوخر عام 1965 وحتى 1967 لاتباع رئيس الوزراء في ذلك الوقت زكريا محي الدين ووزير الصناعة مصطفى خليل سياسة الإنكماش والتقشف في تلك الفترة، ولكنها عادت إلى العمل منذ بداية عام 1968 لتعمل ثلاث ورديات في اليوم بعد عودة عزيز صدقي إلى الوزراة.
يقول صدقي عن تلك المرحلة: «بعد عودتي إلى الوزراة بعد النكسة كان همي الأول إعادة تشغيل المصانع وبحث مشكلاتها وكانت أكبر انطلاقة للصناعة المصرية فى يونيو 1968 حيث دارت المصانع بثلاث ورديات يوميا طوال أيام الأسبوع».
في هذه المرحلة كان المصريون يعتمدون في كل حياتهم على المنتج المحلي، فالدولة كانت تنتهج سياسة عزل البلاد عن الأسواق الدولية، وتوقف تماما الاستيراد من الخارج باستنثاء الأدوات التي تدخل في عمليات الإنتاج.
انعكس ذلك على نمط استهلاك المصريين فقادت الطبقة المتوسطة سيارات «فيات» و«رمسيس»، واستخدمت مبردات «إيديال» وأدوات المائدة التي تنتجها شركة البلاستيك العامة، وارتدوا أحذية «باتا» وقمصان وبدل «المحلة» ودخنوا سجائر «كليوباترا» و«نفرتيتي».. إلخ.
كان عبد الناصر نفسه يرفض أن يتمتع أولاده بالسلع الكهربائية المستوردة التي كانت ممنوعة على سائر المصريين، وفق ما أورد صلاح الشاهد كبير أمناء رئاسة الجمهورية في كتابه «ذكريات بين عهدين»، والذي أشار إلى أن أولاد الرئيس كانوا يخافون شراء السلع المستوردة تجنبًا لغضب والدهم.
ونتيجة لهذا المناخ الذي تأثر بمشروعات التصنيع والتشغيل، إلى جانب تبني الحكومة سياسة تقشفية صارمة فرضتها على نفسها قبل أن تفرضها على الشعب، فضلا عن توجهات الدولة الأخرى في مجال الزراعة، استطاعت مصر تحقيق نسبة نمو بلغت 7% في الفترة من 1957 -1967 وهي نسبة كبيرة بمعايير هذا العصر، وانخفضت البطالة إلى ما دون الـ10%، وترواحت معدلات التضخم من 2-3%، رغم مرور مصر بأزمات كبرى.
رحل عبد الناصر وحل محله أنور السادات، وأصبح عزيز صدقي، رئيسا لوزراء مصر، وكان ممن أعدوا مصر اقتصاديا لحرب أكتوبر، «قبل حرب أكتوبر 1973 طلبنى الرئيس السادات لتجهيز الدولة للحرب.. كنا محاصرين اقتصاديا، وبداية الحرب تعنى أعمل حساباتى على أننى لن أستورد شيئا، شهر، اثنين، ثلاثة، وبالدراسة توصلنا إلى أننا ننتج ما يجعلنا نعتمد على أنفسنا 4 أشهر دون استيراد حتى ولو شمعة، ووضعت خطتي، ومرت الحرب دون أن يشعر الشعب بأى شيء.. لم تكن هناك أزمات تموين، ولا طوابير، والفضل لمصانع القطاع العام اللى خربوها بعد كده»، يقول صدقي لصديقنا الكاتب الصحفي سعيد الشحات في حوار لجريدة العربي عام 2005.
استدعاء قصة نجاح خطة «تصنيع مصر» التي تبنتها ونفذتها جمهورية يوليو منذ منتصف الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات ليس من باب الانبهار بتلك المرحلة، ولا من باب رد الاعتبار إلى ناصر وصدقي، فالقصة فرضت نفسها على وقع صراخ المستوردين خلال الأيام الماضية وهم يحذرون من نفاد العديد من السلع وقطع الغيار بسبب قرار «الاعتمادات المستندية للاستيراد» الذي عُرف إعلاميا بقرار «وقف الاستيراد» والذي اتخذه محافظ البنك المركزي السابق طارق عامر مطلع العام بسبب النقص الحاد في العملة الأجنبية وللحد من عمليات تهريب النقد الأجنبي وغسيل الأموال، على ما أشارت بعض التقارير حينها.
تحت ضغوط هؤلاء المستوردين، وتحذيراتهم المتتالية، تبحث الحكومة التراجع عن قرارها السابق، وتتجه بحسب ما رجحت بعض المصادر إلى فتح باب الاستيراد مجددا، وإن كان بشروط وقواعد لم يتم الكشف عنها حتى كتابة تلك السطور.
قد يكون مع هؤلاء المستوردين بعض الحق فهناك أنشطة مهددة بالكامل، وهو ما ينذر بتسريح مئات الآلاف من العمال، والمستهلك تأثر بشكل بالغ من غياب وندرة العديد من المنتجات، الأزمة ليست في المستورد ولا في المواطن الذي اعتاد على نمط حياة استهلاكي خلال العقود الأربع الأخيرة، المشكلة في إهمال التصنيع والإنتاج وفي خصخصة وبيع إرث الستينيات من مصانع وشركات القطاع العام، والاعتماد على الاقتصاد الريعي، والإنفاق على مشروعات لم يثبت حتى الآن أن لها مردود وجدوى اقتصادية.
لا ينكر أحد أن المشروعات التي نفذتها السلطة الحالية خلال السنوات الست الأخيرة ساعدت في خلق استثمارات وفرص عمل لملايين الشباب في مرحلة لم تكن مصر فيها جاذبة للاستثمار الأجنبي بسبب ما مرت به من قلاقل بعد أحداث الثورة، لكن لا يعفي هذا السلطة من أنها لم تتبن مشروعا قوميا للنهوض بالصناعة ولم تعمل على الحفاظ على ما لدينا من قلاع صناعية، بل ما حدث هو العكس، فبيع تلك المصانع لم يتوقف حتى تاريخه.
على السلطة التي تبشر بإنجازات «الجمهورية الجديدة» أن تقف بالبحث والدراسة عند تجربة «تصنيع مصر» التي نجحت «الجمهورية الأولى» في تنفيذها، فلا يجوز أن نأخذ من نظام يوليو سلبياته من تقييد للحريات وحصار للسياسية، ونردم على ما دون ذلك من سياساته الاقتصادية والاجتماعية.
عليها أن تعيد النظر مجددا في سياستها وأولوياتها وتعمل على خطة تمكنها من استعادة مكانة المنتجات المصرية وتطوير الصناعات القائمة وتنفيذ مشروعات صناعية جديدة، بحسب ما وعد أحمد سمير وزير الصناعة الجديد في أول تصريح له عقب استوزاره.