في مقالته الكلاسيكية عن إنهاء الاستعمار “بخصوص العنف”، التي نُشرت في كتابه “معذبو الأرض” عام 1961، كتب الطبيب النفسي والفيلسوف السياسي فرانتس فانون. فقال إن “الحياد ينتج في مواطن العالم الثالث. وبالنسبة للبلدان الأفريقية، فإن البقاء على الحياد ضروري للبقاء”.

لذلك، رغم دخولها شهرها السابع، لا زالت الحرب الروسية- الأوكرانية مثارا للجدل والضغوط بين معسكرات التحالفات والقارة الأفريقية. فبينما يحاول الغرب إعادة الصداقات القديمة وصياغة استراتيجيات تقوم بترسيخ الموجودة بالفعل، تستمر روسيا في انتشارها بالقارة السمراء. عبر تقديم الخدمات ودفع وجهة نظرها في المحافل الدبلوماسية، وحتى في تخليص الثروات وتوفير الأمن للحكام أو مؤسسات بعينها.

ركزت الدول الأفؤيقية على إدانة العدوان بدلاً من انتقاد موسكو

أثار النشاط الروسي المكثف استياء القادة الغربيين. ففي الأيام الأولى للصراع، بعد رفض 17 دولة أفريقية دعم قرار للأمم المتحدة يدين روسيا. قام العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين المعينين في العواصم الأفريقية باستعراض كبير للزعماء الأفارقة، لعدم اتخاذهم موقفًا ضد الغزو.

وعلى الرغم من الضغط الغربي المستمر، إلا أن الوضع لم يتغير كثيرًا في الأشهر التي تلت ذلك. وفي يوليو/ تموز، سافر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وسط وغرب أفريقيا لحشد الدعم لأوكرانيا. لكنه نجح فقط في إثارة غضب العديد من القادة الأفارقة عندما اتهمهم بـ “النفاق” لرفضهم إدانة الحرب.

اقرأ أيضا: عقيدة بوتين في أفريقيا.. ساحة جديدة للصراع مع الغرب

على النقيض من الرئيس الفرنسي، وخلال زيارة إلى عدة دول أفريقية في نفس الشهر. شدد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على علاقات روسيا مع القارة، وصوّر موسكو على أنها “ضحية” في أوكرانيا. ليجد الغرب صدى بسيط لدى عدد قليل من الدول الأفريقية -من بينها غانا وكينيا ونيجيريا- التي اتخذت موقفًا قويًا من الحرب. لكن، حتى هذه الدول ركزت بشكل أساسي على إدانة العدوان، بدلاً من التركيز على انتقادات محددة لموسكو.

تحقيق أهداف روسيا في القارة

كما يحاول الغرب الاقتراب من الأفارقة، تسعى روسيا كذلك بقوة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في القارة. ومنها تأمين وجودها في شرق البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، وتوسيع فرص استخراج الموارد الطبيعية. بالإضافة إلى إزاحة النفوذ الغربي، والاستفادة من الكتلة التصويتية في الأمم المتحدة. كما حدث عند امتناع 25 دولة في أفريقيا عن التصويت لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.

وتركز استراتيجية روسيا على الاستفادة من الحروب والنزاعات. حيث تنتشر قواتها العسكرية “فاجنر” على امتداد بلدان أفريقيا، كما في مالي وليبيا، وأفريقيا الوسطى، ومدغشقر، وموزمبيق. وكذلك تسعى للحصول على قاعدة عسكرية في السودان.

واقتصاديا، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وأفريقيا 14.5 مليار دولار عام 2020. كما أن روسيا المصدر الرئيسي للأسلحة إلى أفريقيا، حيث تسيطر على 49% من إجمالي سوق السلاح الأفريقي.

لذلك، تلفت نانجالا نيابولا، الكاتبة والمحللة السياسية المقيمة في نيروبي. إلى أن هناك أسبابًا واضحة لإحجام الدول الأفريقية عن تبني الرواية الغربية عن أوكرانيا.

تقول: أفريقيا قارة ضخمة ومعقدة ومتنوعة للغاية، ولكل بلد وإقليم من 54 دولة ظروف وتاريخ فريد. فضلاً عن علاقات مختلفة مع كل من روسيا والغرب. سيكون من غير المعقول افتراض أن قادة القارة يمكن أن يتحدوا حول موقف واحد على الفور.

علاوة على ذلك، فإن الشكوك السائدة في العواصم الأفريقية، حول اتخاذ الجانب الغربي في حرب بعيدة في أوروبا. متجذرة أيضًا في اختلال توازن القوى بين الغرب والدول الأفريقية. وذلك إلى جانب أن العديد من المظالم التاريخية التي لا يتم الاعتراف بها -ناهيك عن تفسيرها – تُبقي الأشكال المعاصرة من الظلم قائمة.

تضيف نيابولا: يسارع زعماء الدول الغربية إلى كنس التاريخ الاستعماري الجديد العنيف تحت البساط. بينما تواصل الدول الأفريقية التعامل مع عواقبها. لننظر إلى جائحة كوفيد -19، حيث تُركت البلدان الأفريقية تتسول للأدوية واللقاحات، التي كانت الدول الغربية ترميها، مما يضاعف من الشعور بـ “الصداقة المشروطة”. وبمجرد إضافة جهود روسيا إلى هذا المزيج، يصعب على الولايات المتحدة، وحلفائها الأوروبيين، بناء تحالف أفريقي ضد موسكو.

بوتين في أفريقيا

تشير الحكومات الغربية والمحللون إلى انخراط موسكو في حملة تضليل واسعة النطاق، لا سيما عبر الإنترنت. لتشكيل الرأي الأفريقي حول الصراع مع الغرب. يعتمد هذا الجهد على حملات التضليل الروسية السابقة التي أثرت على العمليات السياسية في أماكن أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها.

في مايو/ أيار، نشرت مجلة The Economist دراسة عن حسابات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر/ Twitter. المستخدمة لنشر معلومات روسية مضللة حول الحرب، ولاحظت أن عدد كبير من هذه الحسابات كان مقرها في أفريقيا. ويبدو أنها تستهدف المجتمعات الأفريقية عمدا.

أيضا، يُزعم أن إحدى الصور المزيفة التي نشرتها حسابات أفريقية على الموقع نفسه منذ بدء الحرب. تظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شابًا مع رئيس موزمبيق السابق سامورا ماشيل في معسكر تدريب تنزاني لمقاتلي الحرية في السبعينيات. لكن، لم يكن من الممكن عقد مثل هذا الاجتماع. لأن بوتين لم يكن يبلغ العمر المناسب لزيارته في تنزانيا وقت التقاط هذه الصور التي انتشرت على نطاق واسع.

تفسر الكاتبة الكينية الارتباط الروسي بالنسبة للعديد من هذه البلدان لأن “الشيوعية قدمت بديلاً للاستعمار الغربي، وأساسًا لحركات الاستقلال الأفريقية في القرن العشرين. وهو الإرث الذي سمح لروسيا المعاصرة -كدولة خلفت الاتحاد السوفيتي- بتصوير نفسها على أنها في الجانب الأيمن من التاريخ الأفريقي.

وأضافت: بالطبع، لم يأتِ الدعم السوفياتي لحركات إنهاء الاستعمار من روسيا فقط. فقد جاء الكثير منه من أجزاء أخرى من الكتلة الشيوعية، بما في ذلك أوكرانيا. لكن روسيا ادعت ببراعة هذه السمعة، واستغلت علاقة أفريقيا المعقدة مع الغرب.

أشار بوتين إلى ميل روسيا نحو توسيع نطاق المواجهة مع الغرب

اقرأ أيضا: عقود وفاجنر واستثمار.. كيف تحاول ثلاث قوى عالمية السيطرة على أفريقيا؟

تدريب غربي وتسليح روسي

جاء خطاب بوتين في مؤتمر موسكو للأمن الدولي الذي عقد يوم 16 أغسطس/آب. كانعكاس لطموحات الكرملين بشأن إنهاء الهيمنة القطبية الأمريكية، والترويج لموسكو كقوة كبرى تشارك في تنظيم الخريطة العالمية. مستثمرا في فشل الولايات المتحدة في وعودها بشأن حماية الديمقراطية وتحسين حياة الأفراد، وإيلاءها مسئولية الأزمات التي تمر بها مختلف دول العالم.

أيضا، صدّر ضابط الاستخبارات السوفيتية السابق، خلال حديثه، التشكيك في نوايا الولايات المتحدة. خلال العلاقات التي توثقها مع الدول المستقلة كونها تتضمن تنازل هذه الدول عن استقلالها. بجانب المسئولية الأمريكية عن “الاستفزازات والانقلابات والحروب الأهلية والتهديدات والابتزاز والضغوط والإملاءات” التي تتعرض لها تلك الدول.

وفي الوقت ذاته، أشار بوتين إلى ميل روسيا نحو توسيع نطاق المواجهة مع الغرب. ووضع مسار يقوم على حشد البلدان التي تتفق مع مواقف الكرملين، بما يؤطر لخططها المقبلة.

الآن، العديد من الحكومات تركز حاليًا على روسيا -بما في ذلك مالي وإثيوبيا وأوغندا- لأنها تدين بقاءها السياسي على الدعم الروسي. حيث تعتبر روسيا موردًا رئيسيًا للأسلحة، حيث استحوذت على 44% من مشتريات الأسلحة بين عامي 2017 و2021 في القارة.  وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وقد قدمت دعمًا عسكريًا من خلال قوات المرتزقة -مثل مجموعة فاجنر- للعديد من الدول الأفريقية التي امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة العدوان الروسي.

أيضا، هناك العديد من القادة الأفارقة، الذين يتمتعون بدعم غربي طويل الأمد. لم يترددوا في حشد الدعم العسكري الروسي. كما أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تدرب الجنود الأوغنديين للقتال نيابة عنها، في دول مثل الصومال. فإن أوغندا تشتري في المقام الأول أسلحتها من روسيا، ولديها أكبر زيادة في الإنفاق العسكري في أفريقيا في عام 2020.

بالمثل، وقعت الكاميرون -المستفيد الرئيسي من السخاء الفرنسي- صفقة أسلحة مع موسكو في أبريل/ نيسان 2022، بعد شهرين من الغزو الروسي لأوكرانيا.

أفريقيا.. مسرح جديد للحرب بالوكالة

تؤكد نيابولا أن الدول الأفريقية تتمتع بموقع متميز تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا. لذلك، يمكن للدول الغربية أن تستغل هذه الفرصة للسماح للأفارقة بتطبيق الدروس التي تعلموها من أجيال الحرب على أراضيهم.

تقول: في الواقع، تعرف البلدان الأفريقية مدى صعوبة إنهاء الحروب. في شرق أفريقيا وحدها، هناك نزاعات متعددة جارية، بما في ذلك شرق الكونغو وإثيوبيا والصومال وجنوب السودان والسودان. هناك أدلة متزايدة على الإبادة الجماعية في منطقة تيجراي الإثيوبية، ويواصل الشعب السوداني الكفاح من أجل إنهاء الحكم العسكري. حيث تقدم دول أخرى -بما في ذلك روسيا- الدعم العسكري والمالي للنظام العسكري.

وأوضحت: أدت هذه الصراعات إلى تدخلات من قبل الاتحاد الأفريقي، والوكالة الحكومية الدولية للتنمية، وجماعة شرق أفريقيا. ناهيك عن بعض الجهود الثنائية في الوساطة. إلى جعل بعض هذه الحروب مستعرة منذ جيل. لذلك، يجب تفسير التردد الجماعي للبلدان الأفريقية في الانجرار إلى أوكرانيا -جزئيًا- في ضوء هذا الوعي العميق بالضرر طويل الأمد، الذي تسببت فيه الحروب في القارة.

وأكدت: بالنسبة للعديد من الأفارقة، لا تتعلق العروض الحالية من كل من روسيا والغرب بالصداقة. إنهم بصدد استخدام أفريقيا كوسيلة لتحقيق غاية. وحيثما أمكن، يجب تجنب الاضطرار إلى الانحياز إلى جانب. في صراع يبدو أنه من غير المرجح أن يقدم الكثير لأفريقيا. خاصة إذا حولت القارة إلى مسرح جديد للحرب بالوكالة.