وردت كلمة “بكباشية وصاغات” في صفحة 37 من الجزء الأول من مذكرات عبد اللطيف البغدادي 1917 – 1999 عضو مؤسس في تنظيم الضباط الأحرار ثم عضو مجلس قيادة الثورة بعد نجاحها ثم وزير الحربية ثم وزير التخطيط والخزانة العامة، وجاءت العبارة في سياق أن تنظيم الضباط الأحرار كان قوامه ضباطا مجهولين داخل الجيش ولدى الشعب لأنهم من صغار الرتب، وكانت قيادة التنظيم تحتاج واجهة من كبار الجنرالات المعروفين سواء داخل الجيش أو لدى الشعب، وبشرط أن يكون من ذوي السمعة الحسنة، حاولوا مع اللواء فؤاد صادق فاعتذر، ثم مع اللواء محمد نجيب فقبل القيام بالمهمة. ومعروف أن رتبة بكباشي تعني الآن رتبة المقدم، بينما رتبة صاغ تعني الآن رتبة الرائد.

عبد اللطيف البغدادي
عبد اللطيف البغدادي

لكن هؤلاء “البكباشية والصاغات” نجحوا في تأسيس ديكتاتورية عسكرية عاشت ستين عاما حتى سقطت بسقوط مبارك في جمعة الغضب 28 يناير 2011، ثم هؤلاء البكباشية والصاغات تركوا تراثا ملهما كان هو الوقود الذي أنار الطريق لتأسيس ديكتاتورية عسكرية ثانية بعد ثورة 30 يونيو 2013، صحيح أن الديكتاتورية العسكرية الجديدة وضع أسسها وقواعدها جيل مختلف من كبار الجنرالات، لكن فكر وتجربة وتكتيكات وتراث مدرسة “البكباشية والصاغات” كان هو المدونة العملية التي تم الاسترشاد بها، سواء في احتواء المدنيين كمرحلة أولى، أو ترهيبهم كمرحلة ثانية، أو استئصالهم كمرحلة ثالثة، أو الانفراد بالحكم من دونهم كمرحلة رابعة، أو تتويج ضابط فرد على رأس الدولة -سواء باستفتاءات شكلية أو انتخابات غير حقيقية- ثم استحواذه على كافة السلطات ثم انفراده بصناعة القرار كمرحلة خامسة وأخيرة.

– يقول “كان الرأي بيننا قد اتفق على ضرورة اختيارنا لأحد الضباط من ذوي الرتب العالية، ومن ذوي السمعة الحسنة في الجيش، ومن المعروفين لدى المدنيين من الشعب، للاشتراك معنا في الانقلاب، وتولي قيادته، لأننا جميعا من ذوي الرتب الصغيرة “بكباشية وصاغات”.

كانت خطة الانقلاب من ثلاث مراحل: السيطرة على قيادة الجيش، السيطرة على الحكومة، خلع الملك. ولم يكن منها تولي الحكم أو ممارسة السلطة، ولم يكن منها كذلك تسليم السلطة للمدنيين والعودة إلى الثكنات، كانت هذه وتلك مجهولة غير معلومة لأحد من التنظيم ولا من غير التنظيم، باستثناء قائد التنظيم، وقائد التنظيم عاش ومات لم يفصح عما كان يضمره، فلا أحد يعلم هل كان جمال عبد الناصر ينوي العودة للثكنات أم كان يضمر القفز على السلطة؟ هل كان يبيت النية مسبقا على الحكم أم أن الفرصة ظهرت بنفسها بعد أن انكشف له عجز المدنيين عن المخاطرة أو المواجهة فضلا عما كان قد لحق بهم من استنزاف أو أدركهم من فساد أو كان بينهم من حزازات وانقسامات؟ هل سعى تنظيم الضباط الأحرار للسلطة أم السلطة كانت مرميةً على الرصيف تنتظر من يلتقطها؟.

في ص 45 من مذكراته يقول البغدادي: “لم يخطر ببال المجلس -يقصد مجلس قيادة الثورة- أن يتولى هو السلطة في البلاد، ولم يرد هذا في ذهني، كما أعتقد أنه لم يخطر في فكر أحد من زملائي، لا قبل قيام الثورة، ولا بعد قيامها”.

ثم توقف البغدادي عن الحكم على ما كان يضمره قائد التنظيم جمال عبد الناصر، فقال: “حتى يمكن الحكم عليه حكما سليما، لابد أن تتضح لنا حقيقة نواياه، التي ماتزال غامضة حتى اليوم”.

***

الجيش كان هو سيف الملك 1952، بقدر ما كانت الشرطة هي سيف مبارك 2011، لم يكن للملك من حماية لشرعيته الآيلة للسقوط غير الجيش، ولم يكن لمبارك من سند لشرعيته المتداعية للانهيار غير الشرطة، وفي المائة وثمانين دقيقة بين دقات عقارب الساعة عند منتصف الليل ثم دقات عقارب الساعة عند الثالثة من صباح 23 يوليو كانت المرحلة الأولى من الانقلاب قد نجحت، نجح الضباط الأحرار في السيطرة على قيادة الجيش واعتقال كبار القادة، في هذه اللحظة انكسر سيف الملك، وفي هذه اللحظة كان مصير الملك قد انحسم حسما نهائيا، وكان عرشه قد آل إلى زوال لا شك فيه بمثلما كانت مائة وخمسون عاما من استعمار محمد علي باشا وسلالته قد أفضت إلى مصيرها المحتوم، وكل ما بعد ذلك لم يكن غير تحصيل حاصل، لم يكن غير اجراءات استلزمتها التقاليد ومنطق الأحداث.

مثل ذلك حدث، في الساعات الثلاث بين صلاة الجمعة وصلاة العصر 28 يناير 2011، في اللحظة التي انسحبت فيها الشرطة من الميادين والشوارع، في هذه اللحظة كانت ثلاثين عاما من حكم مبارك قد انتهت نهاية لا شك فيها، وعندما نزلت قوات الجيش عند غروب الشمس كانت شمس مبارك قد غربت بصفة حاسمة، وكل ما كان بين 28 يناير حيث السقوط الفعلي و11 فبراير حيث إعلان التنحي لم يكن غير إجراءات وترتيبات تستلزمها الضرورات.

كما الطبيعة لا تعرف الفراغ فإن التاريخ لا يعرف الفراغ، وكما التاريخ لا يعرف الفراغ فإن السلطة لا تعرف الفراغ، عند الساعة الثالثة من صباح 23 يوليو 1952 أصبح الضباط هم الملك، هم سلطة الملك، هم ملوك اللحظة الجديدة، هم السيادة الأعلى، لا سيادة فوقهم، لا ناهي لهم، لا آمر لهم، هم السلطة الأعلى في البلاد، هذه هي طبيعة السلطة، لا تعرف الفراغ، وتعانق أول من يغامر ثم يخاطر وتكافئه بنفسها، كانوا أول الليل حفنة متمردة ثائرة من صغار الضباط ثم عند الصباح أصبح بيدهم مقاليد الأمر والنهي على المليون كيلو متر مربع بكل ساكنيها من الأحياء.

السلطة من طبعها أن تسابق الزمن ولا تنتظر، مثلما الأحداث يتوالى بعضها وراء بعض ولا تنتظر، كان انهيار النظام الملكي واضحا للعيان في الداخل والخارج منذ سنوات قبل الانقلاب، كذلك كان انهيار نظام مبارك واضحا للعيان قبل ثورة 25 يناير بسنوات، في الحالتين كان موقف المدنيين هو الانتظار، لكن اختلف العسكريون في المرتين، في الأولى هم من أسقط النظام، وفي الثانية هم من حصد ثمرات اسقاط النظام، وفي المرتين كان عجز المدنيين جزءا من عجز النظام في الأولى ثم نوعا من غياب القيادة والخطة والرؤية في الحالة الثانية.

***

عند الثالثة صباح 23 يوليو كان الضباط الأحرار هم الحكام الفعليون الجدد للبلاد بحكم الأمر الواقع، مثلما كان المشير طنطاوي هو الحاكم الفعلي والرجل الأقوى في البلاد بحكم الواقع عصر 28 يناير 2011، مثلما كان الفريق أول عبد الفتاح السيسي هو الحاكم الفعلي للبلاد والرجل الأقوى فيها بحكم الأمر الواقع 3 يوليو 2013.

هنا من الخطأ أن نسأل: هل قفزت السترة العسكرية إلى السلطة؟ لأن الجواب تحصيل حاصل، السلطة وقعت بالفعل في المرات الثلاث بين أيادي العسكريين.

السؤال الصواب: هل يدوم بقاء السلطة بين أيادي العسكريين؟ وهذا يتوقف على نضج وقوة المدنيين، لسبب بسيط هو أن العسكريين، عندما تقع السلطة في أيديهم، يبدؤون في مزاولتها، ثم في اكتشاف مزاياها، ثم في التعلق بها، ثم في التعود عليها ثم في التفكير في البقاء فيها ثم الاستعداد لخوض الصراع من أجلها. حدث هذا في المرات الثلاث، حدث بعد 23 يوليو، حدث بعد 28 يناير، حدث بعد 30 يونيو، نجحوا في المرة الأولى بعد تصفية كل من في الساحة غيرهم سواء كان خصيما أو حليفا، في الثانية نجحوا جزئيا حيث حكموا مناصفة مع الإخوان فكانت لهم السيادة العليا وكان للإخوان المناصب، ثم في الثالثة نجحوا بعد تصفية الإخوان ثم تصفية الجميع.

في الفترة الانتقالية 1952- 1956 مارس الضباط الأحرار كل السلطات السيادية والتنفيذية والتشريعية بل والقضائية، كان هم مصدر السيادة وليس الشعب، كانوا السلطة التنفيذية والحكومة مجرد أداة، كانوا السلطة التشريعية فلم ينعقد برلمان قبل 1957، وكانوا هم القضاة يشكلون المحاكم، ويعملون قضاة، ويحاكمون من يشاؤون، ثم يصدرون الأحكام، ثم يصدقون عليها، ثم ينفذونها، ولا مجال لطعن أو استئناف أو نقض. مستحيل على من ذاق كل هذا المذاق من طعم السلطة وشهوتها أن يتخلى عنها ثم يعود للثكنات ثم يرى غيره يتمتع بها.

ثم حدث ذلك في الفترة الانتقالية بين تنحي مبارك 11 فبراير 2011 – تولي الدكتور محمد مرسي 30 يونيو 2013، حيث تمتع المشير طنطاوي ومن معه بسلطات لا حدود لها ولم يكن عليها من قيود غير ماتبقى من قوة الدفع التي صنعتها روح ثورة يناير ثم قيود التدخل الإقليمي والدولي، وكانت خلاصة التوافق الدولي أن يكون الحكم شراكة بين الجيش والجماعة، وضاق الطرفان بالشراكة، وانكسرت الصيغة بما لا يصلح معه استمرارها.

ثم حدث ذلك بعد 30 يونيو 2013، كان وزير الدفاع -وليس الرئيس المؤقت- هو الحاكم الفعلي للبلاد، ولم تكن انتخابات 2014 ثم انتخابات 2018 غير تحصيل حاصل لهذا الأمر الواقع، لهذا لم يكن هناك حرص على أن تكون انتخابات حقيقية، إذ يكفي أن تكون مجرد ديكور شكلي يضفي الطابع الدستوري على حكم الأمر الواقع أي حكم القوة بوضع اليد.

في المرات الثلاث كانت ثمرات السلطة تتساقط ناضجة شهية، كانت على درجة من الإغراء الصريح يصعب مقاومته، وكان العسكريون هم الأكثر جاهزية.

وفي المرات الثلاث كان المدنيون أضعف من الاستجابة للإغراء مثلما كانوا أضعف من الدخول في صراع متكافئ مع منافس ينتعل البيادة ويتحرك فوق ظهر دبابة.

***

سر نجاح العسكريين في المرات الثلاث، أنهم كانوا يتصرفون على أنهم هم الدولة، هم السيادة، هم الشرعية، هم القوة، هم القانون، هم العنف المقدس.

هذه الثقة، كان يفتقدها المدنيون بما في ذلك الملك ذاته ثم الوفد ذاته ثم الطبقة القديمة بكاملها، كذلك كان يفتقدها المدنيون بعد 28 يناير، كذلك كان يفتقدها الإخوان حتى وهم في الحكم وكل مفاصل الدولة في أيديهم، تعامل كل هؤلاء – باستثناء الملك – كمعارضة شوارع وميادين ونخب وصحف ومثقفين وأحزاب ونقابات وهذا آخر ما لديهم، بينما تصرف الضباط في المرات الثلاث على أنهم الدولة في أعمق معاني الدولة، الدولة بوجهها المسلح، الدولة بمعناها الوجودي المحض الذي يحفظ للبلد وأهلها البقاء ثم الاستقرار ثم الاستمرار.

في المرات الثلاث، كان الضباط يتصرفون -عمليا- كطبقة حكم مسؤولة حتى لو لم يجاهروا بذلك لفظيا، بينما كان الوفد -بكل عظمته- يتصرف إزاءهم كما لو كانوا هم الملك وكما لو كانوا هم قوة المعارضة الأولى، ذلك رغم تراث الوفد في مزاولة الحكم وإدارة دولاب الدولة قريبا من سبع سنوات على فترات متفرقة بين 1923- 1953، وكذلك كان المدنيون في يناير 2011 لم يلتقط أحد منهم أن النظام سقط 28 يناير ولم يكن لدى أي منهم تصور عن حكم البلاد بعد مبارك، أما الإخوان فقد انتقلوا إلى الحكم بعقلية المعارضة، لم يغيروا دماء المعارضة التي تجري في عروقهم، ظلوا محرومين من دماء الحكام، افتقدوا عقلية الحكام، كانوا مسكونين بهاجس المعارضة المضطهدة، ولم تسكنهم طبائع الحكم المطمئن ولا ثقة الحكم المستقر، دخلوا السلطة معارضين، وخرجوا منها معارضين، فلم يكن لديهم متسع ولا بال ولا استعداد ولا تأهيل ليكونوا حكاما وليمارسوا جلال الحكم وهيبة السلطة.

قبل دخولهم السلطة هدد الإخوان بعنف واسع إذا جرى أي تعديل لغير صالحهم في نتائج انتخابات الرئاسة، هددوا بعنف الجماعة وما تملكه من تنظيم كاسح وما تملكه من خبرات قديمة في الجنوح للإرهاب، كذلك هددوا بعنف من تحالف معهم من تنظيمات دينية عديدة انشقت عنها الأرض ثم ملأت ظهر الأرض فترة ما بعد يناير 2011، العجيب أن الإخوان لما زادت المعارضة ضدهم -بعضها معارضة حقيقية وبعضها مصنوع من الداخل وبعضها مزقوق من الخارج- لما حدث ذلك وتمت محاصرتهم والإحاطة بهم داخل قصور الحكم، لما حدث ذلك، هددوا بالعنف، لكنهم -للمفارقة العجيبة- لم يهددوا بعنف الدولة التي كانت مفاتيحها في أيديهم، لم يهددوا بالعنف القانوني المقدس، إنما ذهبوا -بغريزة المعارضة – يهددون بعنف الجماعة وعنف من تحالف معها من تنظيمات وجماعات. هددوا بعنف الجماعة وهم خارج الحكم، ثم هددوا بعنف الجماعة وهم في الحكم، لم يتملكهم الإحساس أنهم حكام والدولة في أيديهم، وغلب عليهم إدراك أنهم معارضة في أيديهم قوة الجماعة ومن معهم من تنظيمات وجماعات.

***

انطلاق العسكريين من عقلية الدولة كحاضنة سيادة، ثم ارتكازهم على الشق المسلح العنيف من عقلية الدولة كمنهج ردع، يسمح لهم في فترات الصراع على السلطة بمزايا يستحيل أن تتوفر للمدنيين:

1 – امتلاك كافة أدوات الدولة، ثم العمل من خلالها، يعني قوة الدولة ذاتها تكون قد انصاعت لهم، وعملت تحت قيادتهم، لتحقيق خطتهم.

2- امتلاك القدرة على التواصل من موقع قوة، وكذلك التفاوض من موقع قوة، وتظل القوة سندهم حتى يتوصلوا لأهدافهم بحلول وسط أو جذرية.

3 – امتلاك القدرة على الترهيب أي تخويف كل المدنيين من خصوم ومن مؤيدين مثلما حدث في محاكمات بعد 23 يوليو واعتقالات بعد 30 يونيو.

4 – استخدام التناقضات والانفسامات بين المدنيين في التخلص منهم قوة بعد أخرى.

5 – الاستخدام المؤقت للكفاءات المدنية ثم الاستغناء عنهم فور إنجاز الغرض منهم.

***

تفصيل ذلك في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.