يبدو أن مسألة سد النهضة بلغت نقطة اللا عودة. حيث أعلنت إثيوبيا إتمامها عملية الملء الثالث للسد. والذي يعد انتهاكا للمواثيق المبرمة والقانون الدولي. وإضرارا مباشرا بالأمن القومي لدولتي المصب. بينما تحاول مصر التمسك بالأدوات الدبلوماسية والتزام سياسة ضبط النفس إزاء تلك الأزمة. وهو ما يمكن تفسيره بأنه إصرار من جانب القاهرة على حفظ العلاقات مع الدول الأفريقية. ولا سيما دول حوض النيل. ورغبة في توظيف خيار التعاون مع دول أفريقية في ملفات الكهرباء والبنية التحتية وعقد شراكات بينية وإقليمية لتقوية مركزها في الأزمة. بدلا من الذهاب إلى التصعيد السياسي أو العسكري.
متخصصون استعرضوا الموقف المصري والخيارات المتاحة أمام صانع القرار وسيناريوهات التعامل مع أزمة سد النهضة. والذي صار تهديدا وجوديا لدولتي المصب -مصر والسودان.
تشدد الموقف الإثيوبي في سد النهضة
الدكتور حمدي عبد الرحمن أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة يرى أن هذه المرحلة المرتبطة باكتمال الملء الثالث للسد تقلص من الخيارات المتاحة أمام مصر. وتوجب عليها التزام الخِيار التفاوضي بهدف التوصل إلى اتفاق ملزم.
وعن التوقعات الخاصة بالموقف الإثيوبي أكد أن الأوضاع العنيفة في إثيوبيا تنبئ بتنامي الصراع بين السلطة والتيجراي. كذلك ضعف السلطة المركزية في الخرطوم ينبئ بأن الموقف الإثيوبي سيميل إلى التشدد.
وبالنسبة لحل اللجوء إلى المجتمع الدولي أو مجلس الأمن. قال “عبد الرحمن” إن الظروف الدولية المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها تجعل جميع الدول في حالة انشغال. وبالتالي تدويل القضية لن يُجدي.
ويشير إلى حلول ممكنة عبر القوى الإقليمية في الوقت الراهن. والتي يمكن أن تمارس أدوارا بارزة في المنطقة. لاسيما دول الخليج العربي وكذلك الجزائر. وذلك للعب دور الوسيط بين جميع الأطراف لحل الأزمة.
وشدد على أن مصر متمسكة بالدفاع عن حقوقها المائية واستخدام كل الوسائل والخيارات المتاحة وفقا لما يراه صانع القرار.
أثر سد النهضة على الأمن المائي المصري
الدكتور محمد نصر الدين علام -وزير الموارد المائية والري الأسبق- إن سد النهضة يعترض أمن مصر المائي. ما يضاعف أزمة المياه لدى مصر.
وأوضح أن حصة مصر من نهر النيل تصل إلى 55.5 مليار متر مكعب. بجانب 3 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية. إلى جانب جهود تحلية مياه البحر وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي بعد معالجتها. وهذا كله ما يصل مجموعه إلى 27 مليار متر مكعب.
وتعاني مصر انخفاض نصيب الفرد من المياه -لا يتجاوز 560 مترا مكعبا سنويا- وتتعمق الأزمة عاما بعد عام بفعل الكثافة السكانية وعدم زيادة حصة مصر المائية منذ عقود طويلة.
ويمثل سد النهضة إضرارا مباشرا بأمن مصر المائي. وسيؤدي إلى نقص في المساحات الزراعية وتهجير الملايين من المصريين من أراضيهم إلى المدن أو للخارج بحثا عن عمل. كما يقود نقص المياه إلى توقف بعض الصناعات. وكذلك يتأثر النقل النهري سلبا وأيضا المزارع السمكية.
ويؤكد “نصر الدين” أن تصرف إثيوبيا من جانب أحادي يعد مخالفا تماما لتعهدها في إعلان المبادئ وكذلك لقواعد ومبادئ القانون الدولي. واعتداءً صريحا على السيادة المصرية والسودانية. وأي حديث عن إحياء اتفاقية عنتيبي وإعادة تقسيم مياه النيل على دُوَله دون احترام الاتفاقيات التاريخية التي تنص على حصتي مصر والسودان يعتبر “جريمة قانونية”.
ومن الحلول المقترحة لتغطية العجز المائي في مصر تقليل مساحات المحاصيل الشرهة للمياه كالأرز والقصب. فضلا عن ترشيد المياه في الاستخدامات السكانية والصناعية والتبريد. وتقليل فواقد نقل المياه بالتغطية والتبطين. والتوسع في إعادة استخدام المياه وكذا التوسع في استخدام المياه الجوفية المتاحة. وتمدد زراعات الصوب الزراعية واستخدام آليات الري الحديث.
الدبلوماسية المصرية ومسألة سد النهضة
مَن يتابع الدبلوماسية المصرية عن قرب ويسجل مواقفها في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الأفريقي يلحظ أن مصر تمارس الدبلوماسية الهادئة في أزمة سد النهضة. التي تبتعد عن التصعيد لعدة أسباب. أولها عدم رغبة مصر في وقوع مواجهة أمام إثيوبيا. وحرص مصر على حفظ المصالح المشتركة مع الإثيوبيين. وذلك بحسب السفير جمال بيومي -مساعد وزير الخارجية الأسبق.
ويضيف: “من بين دوافع الدبلوماسية الهادئة إخفاق الحبشة في تحقيق جدول الملء والذي صار يتم أبطأ. وهو ما ينعكس في عدم تأثر حجم المياه المتدفقة إلى مصر حتى الآن”.
وتابع: “مَن يدرس النواحي الفنية للسد سيجد الحقائق التالية. أولها سقوط أكثر من ألف مليار متر مكعب من الأمطار على هضبة الحبشة. تحصل منها مصر على 55 مليونا فقط. فيما لا تستخدم الحبشة مياه النيل في الري سوى بنحو 0.05% من احتياجاتها. معتمدة على الري بالأمطار. كما أنه ليس في الحبشة نظام ري ولا ترع كالحال في مصر. وبالتالي سيكون مكلفا بلا داع استخدام مياه السد. فضلا عن أن الغرض من السد توليد الكهرباء. ويكون ذلك بتمرير المياه في التوربينات لتوليدها. فإذا حدث ذلك ستنطلق المياه نحو الشمال”.
وأشار “بيومي” إلى أن القلق لدى مصر والسودان ينبع من نقطتين: “الأولي تكمن في أن الحبشة قررت زيادة ارتفاع الخزان للضعف. مما يخلق حملا قد لا تتحمله التربة الطفلية فينهار السد وتصبح كارثة في السودان. والثانية أن فتحات السد أربع فقط ويقف بها أربعة مولدات. وطلبنا أن تكون هناك فتحات إضافية تسمح بمرور المياه في حالة توقف التوربينات لأي سبب. ولكن رفضت السلطات الإثيوبية الطلب”.
إمكانية الرد العسكري
الدكتور خالد فهمي -مستشار مركز الدراسات بأكاديمية ناصر العسكرية العليا- استبعد احتمالية لجوء مصر إلى استخدام القوة العسكرية في حل أزمة سد النهضة. وذلك لعدة أسباب: منها حرص مصر على حفظ علاقاتها قوية مع الدول الأفريقية. إذ إن إثيوبيا دولة صديقة تربطها بمصر علاقات تاريخية طيبة. إضافة إلى أن مصر ليست من الدول التي ترجح الحل العسكري لحل مشكلاتها مع مختلف الدول.
وعن المسارات المحتمل اتباعها من الجانب المصري لاحتواء أزمة سد النهضة توقع أن تنتهج مصر الحل السياسي والاستمرار في التفاوض مع إثيوبيا لحل نقاط الخلاف والوصول إلى حل تفاوضي يرضى جميع الأطراف.
وأكد أن المسار التفاوضي من العمليات التي تتطلب وقتا وجهودا طويلة. إضافة إلى التحلي بالصبر الاستراتيجي واستخدام أدوات التفاوض المناسبة.
كذلك يعوَّل على خبرة المفاوض وفقا لطبيعة كل أزمة وأن السياسة الخارجية المصرية تتسم دوما بالعمل باستمرار على حلحلة جميع المشكلات والقضايا بشكل متدرج دون اللجوء للقوة.
خلاصة ما تقدم تعتبر مصر أمام مشكلة أمن قومي إزاء أزمة سد النهضة. وهو ما يفرض عليها التعامل بحرص واختبار كل الحلول الممكنة.
وتحمل آلية تعاطي مصر مع أزمة سد النهضة عدة دلالات منها: الحرص المصري الشديد على العلاقات مع الدول الأفريقية. وأن مصر تستهدف جذب هذه الدول إلى موقفها. وليس افتعال مشكلات أو الدخول في الصراعات. حيث إن مصر حتى الوقت الراهن لا تزال تحافظ على خطاب دبلوماسي يبتعد عن أي نبرة تصعيدية. كما أنها لم تلوح صراحة باستخدام القوة أو مجرد التهديد بها في هذه الأزمة. ومن المتوقع أن تعرض بعض القوى الإقليمية لعب دور الوساطة لأجل الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف.