تقدر تقارير منظمة الصحة العالمية عدد ضحايا الانتحار عالميًا بنحو 700 ألف حالة كل عام. ما يعني أن كل 40 ثانية هناك شخص يتخلص من حياته. في حين يتجاوز عدد المحاولات الفاشلة هذا الرقم بكثير. في الوقت نفسه، فإن التقارير تشير إلى نتائج مفزعة عن الانتحار في المنطقة العربية بوجه عام وبصفة خاصة مصر، التي تحتل المرتبة الأولى عربيًا في عدد المنتحرين، الذين عانى أغلبهم الفقر أو الحاجة وانعدام الفرص، أو وصمًا اجتماعيًا لأمور تتعلق بالشرف أو اصطياد الفتيات عبر الإنترنت بالصور الملفقة. لاسيما في الريف ـ الملغم بأعراف شديدة المحافظة. وقد تخطت مصر بأرقامها أكثر البلدان نزاعات مسلحة وحروب مدمرة.
ومع ذلك، فإن هذه الإحصائيات المفزعة لم تمنع اقتراحات عبثية لحل أزمة الانتحار في مصر، بعضها خرج من أعضاء برلمانيين، اقترح أحدهم مشروع قانون يجرم الانتحار ويضع عقوبات مشددة على من ينجو منه. وهو ما قوبل بحالة من السخرية الشديدة عبر مواقع التواصل. فمن مات انتهى أمره، ومن ينجو سيواجه الحبس والغرامة، التي قد تعيده إلى دوامة الانتحار من جديد!
هذا أمر يتطلب دور أكبر لحل معضلة حقيقية.
البعد الروحي لمنع الانتحار
حتى مراحل متأخرة من العقد الماضي كانت مدارس الطب النفسي المختلفة، لاسيما ـ مدرسة فرويد ـ تقلل كثيرًا من البعد الروحي في تشخيص المشكلات النفسية، وتهمش أثره في علاج ذوي الميول الانتحارية. لكن الدراسات الحديثة أصبحت تعتبر ذلك من الماضي.
إذ تبحث مدارس حديثة عن قيم تتجاوز احتياجات الفرد المادية عند ذوي الميول الانتحارية. وتصل إلى أن الدين محورًا مركزيًا في ذلك الأمر على عكس مدرسة فرويد. فالمؤمن ليس دائما عالقًا في الوهم كما قال في كتابه “مستقبل الوهم”، والثقة في قوة أخلاقية تتجاوز النفس يُسهل كثيرًا من حل الأزمة.
بموجب ذلك، أصبح لا يجوز للطبيب النفسي ولا ينبغي له أن يتجاهل الدين أو يرفضه ـ بغض النظر عن معتقداته الشخصية ـ فالهدف تطوير الممارسة لصالح المرضى. لاسيما أن الدراسات توضح أن التعامل مع التدين كمصدر للأمل والثقة يقلل من خطر الإصابة بالاكتئاب في أوقات التوتر.
يساعد ذلك -وفق كتاب أكسفورد لعلم الانتحار- في عملية التعافي، ويقلل من مخاطر الانتحار. وإن كان من اللافت أيضًا أن استخدام الدين في هذا الجانب لابد أن يتم بحذر حتى لا يتحول نمط التدين إلى مصدرًا للشعور بالذنب والخوف.
هنا تصبح الآثار معاكسة تمامًا.
الأزهر والدعم النفسي
هذا الدور الروحي في حل أزمة الانتحار المتصاعدة في مصر حاولت المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية في البلاد ـ الأزهر الشريف ـ الاشتباك معه؛ فقدمت رؤية خاصة لمشكلات المجتمع، أطلقت خلالها عدة مبادرات لمكافحة ظاهرة الانتحار بين الشباب، واستعانت بوحدة جديدة أنشأتها لهذا الدور تحت مسمى “وحدة الدعم النفسي”.
ضم الأزهر لهذه الوحدة عشرات الباحثين وأساتذة في الطب النفسي وعلم الاجتماع. وخصص أرقامًا ساخنة للوصول إلى الباحثين واستلهام الخبرة والموعظة والإرشاد. وكذا بحث المشكلات التي طرحها أصحاب الميول الانتحارية.
وقد رصد الباحثون حالة متزايدة من اليأس عند الشباب وبعض الأسر، لهذا كان الهدف الأساسي دعم الأسرة نفسها فكريًا ومعنويًا، بتعزيز الثقة بالنفس ودعم تواصل أفرادها مع المجتمع المحيط.
يقول الدكتور أسامة الحديدي المدير التنفيذي لمركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، في حديثه لـ«مصر 360»: التواصل يرتكز على إبصار الشباب بمشكلات الحياة وابتلاءاتها وأهمية الثقة في الله والاستعانة به للعبور من هذه الأزمات والمحن. نفعل ذلك من خلال عدة مبادرات، منها “أنت غال علينا”، التي أطلقت في سبتمبر/ أيلول الماضي، لدعم الشباب والحد من الرغبة المتزايدة بينهم لإنهاء حياتهم.
اقرأ أيضًا: “الموت المباشر” على السوشيال.. صرخة تحذير من اعتياد الانتحار
وتتحدد آلية عمل هذه الوحدة في التواصل اليومي بالمكالمات عبر الخط الساخن للمركز العالمي للفتوى 19906 ثم تسجيل بيانات المتصل، لتبدأ عملية تحليل البيانات لكل حالة منفردة بواسطة أعضاء الوحدة، الذين تلقوا تدريبًا عاليًا على يد أساتذة في الطب النفسي على رأسهم الدكتور محمد المهدي عضو الفريق الاستشاري العلمي للمركز، وفق ما يوضحه الحديدي. ذلك إلى جانب تدريبات أخرى على يد أساتذة في علم الاجتماع.
الأزهر في عهد «الطيب»
من الظواهر اللافتة خلال السنوات الماضية، الدور الاجتماعي المتصاعد للأزهر الشريف في عهد الإمام الدكتور أحمد الطيب. إذ أصبحت العمامة الأزهرية لا تقف عند حدود المرتكزات الأساسية للمؤسسة الدينية الضاربة في جذور المجتمع المصري، وكانت تتخلص في التعليم والدعوة. بل تجاوزتها لمربعات خدمية واجتماعية لم تكن في حسابات رأس المؤسسة قبل تولي الطيب.
يقول الدكتور عبد الله النجار، العميد الأول لكلية الدرسات العليا بالأزهر وأستاذ الفقه المقارن، إن خطوات الأزهر الآن وثابة وكبيرة. وقد أصبح دوره من السعة والتفرد والتعدد بما يتجاوز الرسالة الدينية التي كان يوليها الاهتمام الأول، ليشمل كل مناهج الحياة ومشكلاتها التي تحتاج إلى دعم ديني أو بيان موقف الدين من الوقوع فيها أو علاجها.
يؤيد “النجار” جهود المؤسسة الدينية الرسمية في مواجهة الانتحار. وهو يرى أن الإنسانية أصبحت تعم بها البلوى ـ حسب وصفه ـ والدين من أعظم وسائل العلاج النفسي وتقويم شخصية الإنسان.
ويقول إن هذه الجهود توضع في مكانتها اللائقة لأن المصريين يثقون في الأزهر وجهوده وعلومه، ويؤمنون برسالته.
الأمر الذي يتفق معه الدكتور أسامة الحديدي، المدير التنفيذي لمركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية والمسؤول عن وحدة الدعم النفسي. يقول إن منهجية الشيخ الطيب ورؤيته لدور الأزهر جعلت المؤسسة الدينية تتجاوز أدوارها الراسخة تاريخيًا في التعلم والدعوة وتبادر بالنزول للمواطن وتشتبك بقوة مع معركة الوعي بخطى سريعة للغاية. فالإمام يريد التواجد الأزهري “ميدانيًا” حتى لا يكون في واد والناس في آخر. ولهذا أطلق العنان للأعمال المجتمعية من خلال قطاعات الأزهر المختلفة: مجمع البحوث الإسلامية، ومركز الأزهر العالمي للفتوى، الذي استحدث إدارة كاملة لمعالجة الظواهر المجتمعية. ومنها وحدة لم الشمل، وبيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللاديني، ووحدة الدعم النفسي.
ما يقوله الطب النفسي عن الدعم الروحي؟
ما يقوله النجار والحديدي، يتفق معه الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي. إذ يلفت إلى أن وحدة الدعم قد تعتبر عنصرًا مشاركًا مهمًا في علاج أزمات من هم بحاجة للدعم النفسي.
ويضيف فرويز، في حديثه لـ “مصر 360″، أن الانتحار وإن لم يصل بعد إلى حد الظاهرة في مصر رغم الأعداد المتزايدة لحالاته، فإنه يحتاج مثل هذه المبادرات من الأزهر. لاسيما في ظل إشراف أعلام الطب النفسي عليها. بينما يشدد -في الوقت نفسه- على أن تدخل الدين لتخفيف الآثار النفسية ليس كافيًا في كل الحالات. خاصة إذا ما كنا نتحدث عن مرضى الاكتئاب أو ذوي الأعراض الانتحارية في درجات متقدمة ممن يحتاجون إلى المتابعة مع أطباء.
حسب أرنولد جرين، أستاذ التاريخ الحديث للشرق الأوسط، فإن للدين ثلاث وظائف عامة؛ تبرير المعاناة الفردية وجعلها محتملة وسط أصعب الضغوط التي نحياها، وتعزيز الأهمية الذاتية للفرد، وحماية القيم الاجتماعية وتماسك ولحمة المجتمع.
يؤكد جرين أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بالمعرفة وحدها؛ لأنه مخلوق عاطفي أيضًا. لهذا يعمل الدين على تهدئة عواطف الإنسان في أوقات معاناته وخيبات أمله. وغالبًا ما يعاني الإنسان في هذا العالم من خيبة الأمل والإحباط حتى وسط كل الآمال والإنجازات.
وفق ذلك، فإن الإنسان يريد بطبيعة الحال قوة عليا تواسيه وتعوضه. وهنا يبرز دور التدين الذي يضيف لصاحبه الثبات ورباطة الجأش والقدرة على تحمل أفظع المحن والمعاناة. فالإيمان يعوض الإنسان ويؤيد مصالحه في الحياة ويجعلها محتملة.