الباب الذي يتسع لعبور الجمل هو ذاته الذي سوف نستغني عنه في سبيل أن يغادر الشخص غير المرغوب في وجوده حاليا. إنها القطيعة التي لا تحتمل إعادة الوصل.

حرق السفن فلا فرصة للتراجع. هذه الأمور البالغة الانحراف في المشاعر متى ظهرت في مجتمعاتنا؟

الخلود الذي عرفه المصريون

حَلم المصري القديم بالخلود. لم يعرف الموت سوى معبر لحياة لا تنتهي. لا يقتنع المصري القديم بالنهايات ولا شيء لديه ينتهي. فحتى في قبره يضع أغراضه. تحمل المعابد رسومًا تجمع الأحبّة. الرجل وزوجته. العمال والجيش والعامة. كانت حياة لا تعرف القطيعة إلا في حالة الدم وهي أقسى الاختبارات التي يمكن أن يواجهها إنسان. لكن مصر التي مرّت عليها حضارات مختلفة وابتلعت عشرات الثقافات أنتجت شيئا جديدا. ثقافة قائمة على القطع الحاد. فتشكلت خبرات جماعية ونتج عنها عدد من الأمثال “الباب يفوت جمل” “نكسر وراه قلة” “خد الباب معاك” وغيرها الكثير. تلك الأبواب التي تمحو بيسر العِشرة والمودة. تهيل التراب على كل ما فات وتُعده ميتًا منسيًا.

الاستبدال

ظنًا خاطئًا -وكثير من الظن إثم- أن شخصًا يُمكن أن يُعوض مكانة آخر. تستبدل حبيبة بأخرى. أو تستبدلين زوجًا بآخر. يذهب صديق ويأتي آخر. هذا الظن الذي يثبت دائمًا أنه غير صحيح يفترض وجود أماكن سابقة التجهيز بمقاييس معيارية. فقد نضع فيها الإنسان محل الغائب/ة أو الراحل/ة. قد يُساعد وجود شخص يشغل المكانة نفسها على عبور الأعراض الانسحابية من العلاقة. لكنه بالتأكيد لن يكون في مكانته نفسها. قد يكون أكبر أو أقل. تغلغل أفكار الاستبدال يسهل القطيعة. وليست الأزمة الحقيقية في نهاية علاقة -أيا كانت العلاقة وشكلها وعمرها- الفروق بين العلاقات مرتبطة بما يترتب على النهايات. وكل شيء ينتهي إنما الأزمة تكمن في كيف تنتهي العلاقات.

ترتبط النهاية بالوجع. الألم الذي يمرر الأذى وما قد يفعله طرف تجاه الآخر. يتنوع الأذى الذي قد يبدأ من النفسي وصولًا إلى درجات عالية من الانتقام. والتي قد يقوم بها البعض. فنهاية علاقة عند البعض تعني أن عليه أن يُدمر الطرف الآخر. فقد اعتاد الكثير أن النهايات مرتبطة في غالب الأمر بالاستبدال. حيث يكون أحدهم في علاقة مع امرأة فإذا ظهرت أخرى فسدت علاقته القديمة. فهل نشأت فكرة الاستبدال تعبيرًا عن انعدام الثقة بالذات؟

يعتقد كلا الطرفين أنه يمكن بسهولة استبدال الآخر أو النهاية جاءت لأنه تم استبداله. أو أن الوجع سيزول إذا تم استبدال من رحل بآخر.

خطأ فكرة الثنائيات

ربما كانت سفينة نوح خلف الأفكار المتوارثة عن الثنائيات. فإذا كانت السفينة قد حملت من كل نوع زوجين فهذا لا يعني أبدًا أن الحياة بهذه الثنائية. ثنائية الخير والشر والأبيض والأسود والصدق والكذب ومئات الحالات التي يمكن القياس عليها انطلاقًا من فكرة الثنائية. ليست سفينة نوح فقط التي ربما وراء التأسيس لفكرة الثنائية. هناك أيضًا العصبة والجماعة. تلك الفكرة التي دفعت نحو تشكيل لافتة إن لم تكن صديقا فأنت عدو. وإن لم تكن معي فأنت ضدي.

ربما كانت هذه المفاهيم صالحة في زمن ما. لكن المؤكد أنها غير صالحة الآن. سيادة مثل هذه الأفكار تدعم النهايات الحادة والقطيعة. فإن لم نكن أصدقاء فلا بد أننا تحولنا إلى أعداء بما تستدعيه فكرة العداوة من ممارسات كالإيذاء والتشويه والوجع ومحاولات إيقاع الطرف الآخر في فخاخ الشر. فهل وقف أحدهم وسأل: ما المشكلة أن تنتهي علاقة؟

بعض النهايات خير

لم ينجُ نمط من العلاقات من ثقافة الفُجْر في الخصومة. فـ”المركب اللي تودي” شعار يرفعه البعض عند إحساسهم بتغير لدى الطرف الآخر. بل يزداد الأمر سوءًا حين يحاول أحد الطرفين تفخيم ذاته بأنه غير متكرر. وأن الآخر خاسر. كل النهايات بها خسارة. كل علاقة نمت واستمرت لفترة سواء كانت علاقة حب أو عمل أو زواج أو صداقة كلها علاقات تأخذ من الروح والوقت. تكّون ذكرياتها وتصنع تفاصيلها وعند نهايتها لا بد أن كلا الطرفين يخسر. بغض النظر عن حجم خسارة كل طرف.

وإذا كانت الثقافة تنتقل عبر الجينات مما يجعل بعضنا تابعًا للوعي الجمعي على الأقل في اللا وعي. فلماذا لا ينتصر البعض لفكرة أن الخسارة القريبة أفضل؟

عند الطلاق سنجد آلاف القضايا التي أقامها أحد الطرفين فقط ليكيد لشريكه ويؤذيه. وكأن ثمة عقابًا يوقعه بشريكه لأنه اتخذ قرار إنهاء العلاقة.

تتعدد أشكال الأذى والإيلام التي يسعى أحد الطرفين لإلحاقها بالطرف الآخر. فكيف يُمكن لإنسان كانت تربطه مشاعر قائمة على الحب أن يتحول إلى هذا الشكل؟

كثير منا غير مدربين على البعد. غير مؤهلين للاختلاف ولا قادرين على استيعاب أن الحياة مليئة بألوف الاختيارات ومئات الفرص للسعادة. البعض يفضل استمرار علاقات باهتة خالية من الصدق والحب على الإقرار بموت العلاقة. ذلك أن مشاعر عميقة بداخلنا تسعى نحو الخلود. حلم الأب الأول آدم. لكن لا شيء خالد وكل العلاقات تنتهي. المهم دومًا كيف تنتهي وكيف نخرج آمنين من علاقة كانت سببًا لبعض السعادة في وقت ما. فـ”المركب اللي تودي” تعود مجددًا. والأيام دوّارة. حتى ما ينتهي الآن قد يعود بعد فترة. فقط سيبقي كيف انتهى ما سبق وما أخلاق الطرفين عند الاختلاف والوصول إلى لحظة أن يمضي كل طرف في طريقه وحيدًا.