صوتت الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الشيلي ضد الدستور الجديد الذي طرحه الرئيس اليساري الجديد “جابريال بوريك” بنسبة وصلت إلى 62%، ويصبح السؤال المطروح ما هي دلالات هذا الرفض وهل هناك رسالة يقدمها للمدافعين عن الديمقراطية ودولة القانون في العالم؟.
تجربة تشيلى
ظلت تشيلى واحدة من تجارب أمريكا الجنوبية المثيرة للاهتمام منذ أن وصل رئيسها الاشتراكي الراحل سيلفادور أليندي إلى السلطة عام 1970 وحتي سقوطه وقتله عقب انقلاب عسكري مدعوم من أمريكيا في 1973 وقاده جيستو بينوشية الذي حكم البلاد بالحديد والنار 16 عامًا.
وقد فتح استفتاء عام 1988 الباب لإنهاء الحكم العسكري في 1990 واجراء تعديلات على الدستور القائم، بعد أن خسر بينوشيه استفتاء شهير، ودخلت البلاد في تجربة تحول ديمقراطي عام 1988 وشهدت تحديات ومشاكل كثيرة ولكنها نجحت في تجاوزها حتي جاءت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في ديسمبر من العام الماضي وجرت فيها جولة الإعادة بين مرشح أقصي اليسار ومرشح أقصي اليمين، وأسفرت عن فوز الأول فوزا كبير وحصل على 56% من أصوات الناخبين.
ومنذ ذلك التاريخ وعد المرشح الفائز “بوريك” (36 عاما) أن يضع نص دستوري جديد للاستفتاء الشعبي، دون أن يعني ذلك إسقاط مايجري في العالم العربي على ما يحدث في تشيلي، واعتبار أن أي استفتاء يقترحه رئيس في الحكم سيعني نجاحا مؤكدا، والعكس هو ما حدث فقد أحترم الرجل وحزبه الآليات الديمقراطية بشفافية كاملة، فلم يختار لجنة خاصة لكتابة الدستور لتقول له “أحلام سيادتك أوامر” إنما احترم المقترح الذي انبثق من اللجنة الدستورية لبرلمان تشيلي، بكتابة الدستور الجديد، ووافق عليه أكثر من 78% من الناخبين، ثم عاد وأجري في عهده انتخابات لاختيار 155 نائبا من بين 1300 مرشحا، قاموا بكتابه الدستور الجديد.
ورفع كثير من أبناء الشعب شعارات متفائلة بخصوص الدستور الجديد وطالبوا اللجنة التي انتخبوها بجمل من نوع “جددوا سياستنا الخربة واجعلوا ديمقراطيتنا ديمقراطية مرة أخرى”.
ورغم هذا المسار المثالي للجنة كتابة الدستور وحضور الشعب في كل مراحل اختياره إلا أن المنتج الذي خرج رفضه الشعب أول أمس بأغلبية ساحقة، رغم وجود نصوص “جماهيرية” تخص التعليم والصحة في صالح أغلب الشعب.
الدستور ليس برنامج حزب
خلطت نصوص الدستور الجديد في تشيلى بين البرنامج السياسي لحزب أو تحالف يساري، وبين الوثيقة الدستورية، فالأول يمكن أن يضع سلة كاملة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في برنامجه السياسي والانتخابي، أما الثاني فيجب أن يتضمن القيم والمبادئ العليا التي تضمن تنفيذ هذه الحقوق بشكل عادل ومتساوي على أرض الواقع.
والحقيقة إن هذا خطأ تكرر في كثير من التجارب الاشتراكية التي حولت توجهها السياسي والأيديولوجي إلى نصوص دستورية محصنة فآصبحت نموذج للشمولية والاستبداد وليس الاشتراكية.
ورغم أن الرئيس الجديد في تشيلى مؤمن بالديمقراطية ويمثل وجها مشرقا لتجارب اليسار في العالم، إلا إنه في تقديري أخطأ هو وحزبه حين حاول أن “يدستر” توجهه السياسي ويحصنه في الدستور الجديد وهذا من مناف لقواعد الديمقراطية.
فليس من مهمة الدساتير أن تؤسس للاشتراكية إلا في النظم الشمولية، إنما دو الأحزاب اليسارية ان تطبق برنامجها الاشتراكي، وهو برنامج قابل للمراجعة والتغيير في أي انتخابات ديمقراطية ولا يجب أن يشكل القيم والمبادئ الحاكمة للمجتمع إنما هو برنامج عمل وارد أن ينجح أو يفشل آو يتغير.
ورغم أن صياغة الدستور الجديد بدأت في أعقاب الانتفاضة الشعبية الواسعة التي شهدتها البلاد في 2019 وطالبت بمزيد من العدالة الاجتماعية وتغيير الدستور الحالي الذي تم تبنيه في عهد حكم بينوشيه، واعتبره كثيرين بأنه يمثل عقبة في سبيل الديمقراطية، ولكن بقيت المشكلة ان النص الدستور البديل لم يكتف بإجراء تعديلات على بعض المبادئ التي يمكن وصفها بأنها ” نيوليبرالية” في الدستور القديم وتصلح بدورها لبرنامج حزب شديد اليمينية، إنما تضمن حقوق جديدة ليست محل توافق مجتمعي وتصلح لبرنامج حزب سياسي وليس لوثيقة دستورية.
وقد نصت الوثيقة الدستورية على حق المواطنين في التعليم والصحة العامة والتقاعد والسكن اللائق، وهي كلها أمور تبدو للوهله الأولي أنها في صالح الناس ولصالح نفس الجماهير التي انتخبت الرئيس الشاب إلا أن وجودها في نص دستوري يعطيها حصانة غير محببه في بلاد حتى لو نامية فهي تحترم دساتيرها وتطبقها ولا تنظر إليها على أنها نوع من الديكور، كما أنها خاضت في تفاصيل التطبيق وكأنها برنامج سياسي وحزبي.
وقد تضمن النص المرفوض الحق في الإجهاض، وهي قضية خلافية في تشيلي الذي لم يكن يسمح فيها بالإجهاض قبل 2017 إلا في حالات الاغتصاب أو الخطر على الأم أو الطفل. كما هدف المشروع إلى تكريس الحقوق البيئية والاعتراف بالشعوب الأصليّة.
ولذا لم يكن غريبا أن يكون رد فعل الشعب التشيلى على مشروع الدستور هو الرفض بأغلبية ساحقة، ولم يفرق معه أن الرئيس اليساري الجديد شاب “ثلاثيناتي” مليئ بالحيوية وانتخب أيضا بأغلبية كبيرة.
إن رسالة الاستفتاء الأخير على الدستور الجديد في تشيلى تقول أن انتخاب رئيس يساري لا يعطيه الحق لتحويل توجهه السياسي إلى نص دستوري، فهذه النسبة الساحقة التي صوتت بلا على الدستور (62%) تقول أن جانب ممن صوتوا للرئيس اليساري رفضوا دستوره اليساري، لأنهم اعتبروا أن وضع “دستور يساري” خطر على البلاد لأن هذا يفتح الباب أمام الشمولية، وسيعني أنهم لو خسروا الانتخابات القادمة سيجدوا حزب ليبرالي يضع دستور يميني بدلا من الدستور اليساري أو دستور معادي للديمقراطية مع حكم حزب يميني متطرف وهكذا.
الدساتير يجب أن تعبر عن قيم عليا وعن ضمان إعمال القانون وصيانة الحقوق والواجبات وليس مطلوبا أن تكون انعكاس لتوجه حزبي أو سياسي بعينه.