من الأخطاء الشائعة، أو لنكن أكثر تفهّما ونقول: من السلوكيات الشائعة، التي يرتكبها المسافرون، خصوصا إذا كان سفرهم لفترة وجيزة، أن يقارنوا طوال الوقت بين أسعار المنتجات في بلد السفر وأسعارها في بلدهم، أو يقومون طوال الوقت بالعملية الحسابية البسيطة داخل أذهانهم، لتحويل السعر المكتوب على السلعة من الإسترليني أو الدولار أو اليورو إلى الجنيه أو الليرة أو الريال، من أجل أن يحسبوا طوال الوقت المبلغ الذي دفعوه أو الذي هم بصدد دفعه واتخاذ قرارات الشراء بناء على نتائج تلك “الحسبة”.
إنها عملية ضرورية في بعض الأحيان –حتى لا تخرج الأمور على السيطرة- لكنها مرهقة في أحيان أخرى وقد تمنع صاحبها من الاندماج في “الرحلة” كما ينبغي، خصوصا أن السفر بصفة عامة، وبالأخص لمن لا تجبرهم طبيعة عملهم إليه باستمرار، تجربة مميزة بأجوائها، وبمالياتها أيضا، ونادرا ما ينطبق عليها ما ينطبق على الشروط المالية للمرء في حياته العادية الروتينية.
اقرأ أيضا.. أسئلة محرجة عن القاهرة (رسالة آيوا)
كان هذا ما يدور في ذهني وأنا “أتمشى” في السوبر ماركت القريب من محل إقامتي في مدينة آيوا الأمريكية، أثناء مشاركتي في “البرنامج الدولي للكتاب”، الذي احتفل هذا الأسبوع بذكرى تأسيسه الخامسة والخمسين، كأقدم برنامج إقامة للكتاب في العالم، استضاف خلال عمره المديد أكثر من 1600 كاتب وكاتبة من أنحاء الأرض. لكني في تلك اللحظة كنت وحدي، في مهمة روتينية لشراء بعض الأغراض التي نفدت سريعا. ومنها البيض كمصدر غني بالبروتين، في محاولة للهروب من كميات السكر الهائلة المتضمنة في أصناف وجبة الإفطار الأمريكي في محل الإقامة، حيث حتى الخبز يفيض بالسكر.
السوبر ماركت هاديء، ضخم الحجم من طابقين، أقرب إلى مول صغير منه إلى سوبر ماركت، حيث يمكنك شراء معظم ما تحتاجه من الملابس إلى الخضروات، وحتى بعض الأدوية والفيتامينات التي لا تحتاج إلى وصفة طبية، بعد الشراء لا تذهب إلى “كاشير” يحسب لك الأسعار ويدخل البيانات ويتقاضى النقود. بل تفعل كل ذلك بنفسك ببساطة على أي واحدة من أجهزة الخدمة الذاتية، وتدفع بنفسك بالـ كاش أو بالفيزا، ولا يتطلب الأمر وجود أي موظف إلا إذا كان لديك سؤال أو احتجت مساعدة.
كنت قد اشتريت معظم أغراض الأكل من “سوق مزارعي آيوا” في اليوم السابق، وهي سوق أسبوعية تقام كل يوم سبت من السابعة صباحا إلى 12 ظهرا بالقرب من – وداخل – أحد الجراجات، أمامها مساحة خضراء للعب الأطفال –الخضرة هنا في كل مكان– ومساحة لعربات الطعام الجاهز والمشروبات، يأتي المزارعون من مزارعهم القريبة، يعرضون منتجاتهم من الخضروات والفاكهة متعددة الأنواع والأحجام، منها طماطم صغير الحجم كالعنب وخيار هائل الحجم كالبطيخ، تشتريها بالكمية أو بالواحدة، نادرا ما يستخدم الميزان، وتقضي وقتا لطيفا –إن أردت– في المكان مع جيران المنطقة والاستماع إلى عزف الموسيقى قبل أن ترحل أو يرحل السوق.

هكذا، في السوبر ماركت الضخم الهاديء –اليوم التالي- لم أكن أبحث سوى عن بعض الأشياء البسيطة، نوع القهوة الصباحي الشهير الذي أشربه، فاشتريت منه الحجم الكبير ذي الـ200 جرام، وكرتونة تحتوي على 12 بيضة، وصندوق مياه غازية بلا سكر يحتوي على 10 عبوات “كانز”. كان إجمالي “الحساب” هو حوالي 17 دولارا أمريكيا.
إذا ارتكبت ذلك السلوك السابق ذكره، وحولت الـ 17 دولارا إلى العملة المصرية، سيكون الناتج حوالي 330 جنيها مصريا. إنه مبلغ قريب للغاية من تكلفة هذه الأغراض نفسها في مصر. ولكنه بالطبع، بالنسبة للمواطن الأمريكي أقرب إلى أن تدفع أنت حوالي 20 أو ثلاثين جنيها لقاء مجموع عبوة القهوة وكرتونة البيض والعلب العشر للمياه الغازية، أي ما يجوز وصفه بعبارة “رخص التراب”.
ينبغي أن نتذكر إزاء ذلك، أو رغم ذلك، أن المواطن الأمريكي غاضب هذه الأيام من ارتفاع الأسعار الذي سببته أزمات الغزو الروسي لأوكرانيا وزيادة أسعار النفط والأزمات الدورية للرأسمالية. لكن أمام حقيقة أن هذه هي الأسعار التي نتكلم عنها، تزيد قليلا أو تقل حسب السلعة، ومن دون ذكر أسعار السلع التي نصفها هنا – أقصد في مصر- بأنها “سلع استفزازية” (والاستفزاز مفهوم ثقافي في النهاية)، وبالطبع من دون التطرق إلى السلع التكنولوجية والصناعية التي تعد أمريكا بالنسبة إليها هي بلد الصناعة والمنشأ، ومع معرفة إن متوسط دخل المواطن الأمريكي هو أضعاف قرينه المصري، بما في ذلك من انعكاس على مستوى ونمط المعيشة، فإن أي مقارنة من أي نوع بخصوص الأوضاع والأزمات الاقتصادية، هي ببساطة لا تجوز، وأسوأ منها محاولة تصوير أن “الجميع يعاني”، على طريقة “كلنا مجرمون كلنا ضحايا”. فلنحاول إذًا الاكتفاء بالقول، مع أقصى درجات ضبط النفس، أننا ننتمي إلى عالمين مختلفين. وأن محاولة وضعهما في سياق واحد للبحث عن عوامل مشتركة، أشبه بمن يبحثون عن مشكلات اجتماعية في الغرب لتبرير أوضاع محلية، كأنما يمكن المقارنة –مثلا– بين عدم المساواة في الدخول بين النساء والرجال في الغرب، وقتل نساء الشرق في ما يسمى “جرائم الشرف”.
لكن المسألة الاقتصادية – بالعودة إلى مسألة الأسعار، أكبر بالتأكيد من أسلوب الإدارة المالية أو القرارات الاقتصادية هنا أو هناك، وكل الوقائع التكتيكية بحلوها ومرها، وبالنظر إلى زملائي المشاركين في البرنامج الدولي للكتابة، فإن عددا لا بأس منهم ينتمي إلى دول مصنِّعة ومبتكرة وتكنولوجية، إن الجهاز المحمول الذي أكتب عليه هذا المقال أمريكي الطراز لكنه مصنوع في الصين، وإنه لمن اللافت أن تتحدث مع مواطن من بلد يعد فيها الكمبيوتر أو الهاتف المتقدم مجرد منتج محلي، وزملاؤنا في البرنامج ليسوا فقط من دول عريقة في التصنيع كاليابان والصين وإسبانيا وتايوان، بل حتى من دول أصغر حجما أو أحدث تكوينا لكن نظرة سريعة على اقتصادياتها وصناعاتها تجعلها في كفة ميزان أثقل أضعاف المرات من دولنا المتضخمة سكانيا فحسب، إنهم يستحقون بالطبع أن يعيشوا مستوى معيشيا أفضل وأن يحصلوا على أسعار أخفض، فهي -بالإجمال- منتجاتهم ترد لهم، ونحن بالكاد نشتري، أو نكافح لكي نستطيع.