فيما شهدت الأسابيع الماضية تراجعا واضحا في الاهتمام العام بملف الحوار الوطني الذى دعا له رئيس الجمهورية في إبريل الماضي، في ظل انخفاض متدرج لسقف التوقعات بما أدى لقدر من الإحباطات لدى قطاعات من المهتمين بالأمر، وفى ظل ضغط الأوضاع الاقتصادية على الحياة اليومية لعموم المواطنين، وتراجع الاهتمام حتى على مستوى السلطة والمعارضة فيما يتعلق بملفات الحوار، إلا أن الزخم والتفاعلات على الأقل في الأطر السياسية عاد مجددا بعد انعقاد الاجتماع الأخير لمجلس الأمناء الأسبوع الماضي، ورغم ما أثارته نتائج ذلك الاجتماع من ردود فعل تطورت خلال الأيام الماضية، إلا أنه وبعد خروج دفعة جديدة من سجناء الرأي بقرارات إخلاء سبيل جديدة من النيابة لـ33 سجين، بدت الأمور في طريقها للعودة إلى المسار الذى كان جاريا خلال الشهور القليلة الماضية، وبالتالي عادت قضية الحوار الوطني لتصبح مطروحة مرة أخرى على الساحة.
أعرف ويعرف غيرى، أن كثيرين لديهم موقف معارض بالأساس لفكرة الحوار مع السلطة، ولديهم أسباب متفهمة ووجيهة وتستحق النقاش، كما أن هناك بالتأكيد من الأطراف الأقرب للسلطة من يرون أن هذا حوار لا داعي ولا ضرورة له، كما أن هناك من تحمسوا جدا في البداية للحوار في ظل انسداد الأفق السياسي وإغلاق المجال العام، لكن هذا الحماس تراجع تدريجيا بحكم انخفاض سقف التوقعات من ناحية لأسباب متعددة قد يكون من بينها أن سقف التوقعات نفسه ارتفع لدرجة لم تكن واقعية لكن بالتأكيد من بينها أيضا تباطؤ ملف الإفراج عن سجناء الرأي وأن الخطوات التي اتخذت في البداية وكانت مبشرة على أصعدة مختلفة لم تتواصل وبعضها تراجع وبعضها الآخر تباطأ، وبحكم عامل الوقت الذى أخذ يمر في مسائل إجرائية على أهميتها لكنها لم تكن الجوهر الذى يبحث عنه وينتظره كثيرون.
وبينما شهد الأسبوع الماضي حدثين كبيرين في سياق كل ذلك، أولهما هو مؤتمر وبيان الحركة المدنية بكل ما أثاره من تفاعلات وردود فعل، ثم كلمة رئيس الجمهورية في افتتاح القرية الأوليمبية بقناة السويس، وكلاهما يحتاج للتعليق على ما جاء فيه وردود الفعل عليه، بالذات ما يتعلق بما طرح حول انفراد الحركة المدنية بتمثيل المعارضة، وبالذات ما يتعلق بحديث السيسي عن مسئولية ثورة يناير عن الوضع الاقتصادي الراهن، لكن كلا الأمرين قد يستحق مقالا منفصلا، أما هذه اللحظة في ظني فتحتاج رد الأمور لأصولها، والتركيز على ما هو جوهري، إذا شئنا أن نتقدم للأمام، لا أن نظل محلك سر، أو أن نعود للمربع صفر الذى لم نكد نتجاوزه بعد.
في تقديري الشخصي أن أي رهان على أن السلطة تغيرت فجأة، أو أن المعارضة تغيرت فجأة، هو رهان في غير محله، وبالتالي أي تصورات أو تقديرات تتعلق بأن أي من الطرفين قد غير قناعاته ورؤاه ووجهات نظره في الشهور القليلة الماضية، أو أن هذا يمكن أن يجرى فينتج مناخا ديمقراطيا غير مسبوق أو يحدث تغييرات جوهرية وجذرية في السياسات الاقتصادية أو ما شابه من تلك التصورات النموذجية والمثالية، هو أمر غير واقعى، لكن ما هو مطروح الآن ويمكن البناء عليه هو فقط في حدود أن هناك لحظة مركبة في تفاصيلها وأسبابها وظروفها وملابساتها وتتعدد فيها التحليلات والتفسيرات، لكن الخلاصة المؤكدة فيها أن السلطة دعت لحوار ترغب فيه، والمعارضة رحبت بالمشاركة في حوار تأمل في نتائجه، وكلاهما يكاد يكون في محاولة اختبار لجدية الآخر، وبينهما المجتمع يتابع ويترقب أحيانا بحماس وزخم وأحيانا بفتور وتشكيك.
هذه العملية في ذاتها، هي ما قد تنتج، وأيضا قد لا تنتج، بحسب تفاعلات أطرافها وجديتهم وقدرتهم على الوصول لمساحات تفاهم أو مساحات وسط، مناخ يشهد اختلافا عما سبق، دون توقعات لنتائج كبرى، وإنما تصورات حول تحسن نسبي في ملفات متعددة ومختلفة. لكن في هذا السياق، وفى هذه العملية، نحتاج للتركيز على نقاط أساسية وجوهرية، أولها هو ألا تتصور السلطة أن المعارضة ستطرح خطابا يعجبها ويرضيها من حيث المضمون في مختلف الملفات، ولا تتصور المعارضة أيضا أن كل ما ستطرحه أو حتى أغلبه سيلقى قبولا وترحيبا ودعما وتنفيذا.. وهو ما يدفع الجميع هنا إذا كانوا راغبين في استمرار هذا المسار، للانتقال مما هو إجرائي وشكلي، إلى ما هو عملي وفى المضمون، وأوله إذا كان منهج الحوار مطروحا لا كمجرد حالة مؤقتة وإنما كسبيل لمواجهة أي أزمات أو مشكلات حالية أو مقبلة، فإن تحديد موعد بدء الحوار الوطني فعليا صار لازما وواجبا، وإنهاء ضروراته التحضيرية ومن بينها التوسع في ملف الإفراج عن سجناء الرأي بصورة أوسع وأكثر تتابعا مما جرى في الشهور الماضية، لكن وفى ذات الوقت فإنه عندما تصبح هناك ملفات مطروحة على الرأي العام وتحتاج لمعالجات وتوضيحات وتوافقات فإنه من الواجب أن تسارع الأطراف للحوار حولها، وعلى سبيل المثال لا الحصر ملف جزيرة الوراق وموضوع الإجراءات الاقتصادية وغيرها، وتلك مسائل يمكن البدء بها في سياق الحوار الوطني، أو يمكن التمهيد بها هي نفسها للحوار الوطني.
وبينما يشهد توقيت كتابة هذه السطور اجتماعا جديدا لمجلس الأمناء نرجو أن يتمكن من تجاوز أجواء التأزم التي شهدها الأسبوع الماضي، فإن ذلك لن يكون كافيا في المرحلة المقبلة، فلا تزال هناك من حيث الإجراءات خطوات أخرى، منها تحديد العناوين والمواضيع التي ستناقشها كل لجنة، ومنها شكل الجلسات والتوازن فيها ما بين مختلف الآراء ووجهات النظر دون أن تنقلب لجلسات محاصصة حزبية وإنما بفهم أوسع وأشمل يضمن حضور كل صاحب رؤية ووجهة نظر في كل ملف وتمثيل للقوى السياسية والمجتمعية صاحبة المصلحة في القضية محل المناقشة والجهات المسئولة ذات الصلة التي يفترض أن تقدم معلومات وبيانات واضحة يمكن النقاش على أساسها .. لكن كل ذلك يظل في سياق الإجراءات، التي صارت تحتاج الآن لمدى زمني قصير ومحدد وواضح يلزم مجلس الأمناء بالانتهاء في غضونه، ويمكن السلطة والجهات المعنية أيضا بملف سجناء الرأي من الإفراج عن أكبر عدد في أسرع وقت بما في ذلك أسماء رئيسية ومهمة يؤدى الإفراج عنها لأثر سياسي ومجتمعي واسع، دون أن يعني ذلك استثناء لأي سجين رأي لم يتورط فعليا في عنف أو دم، الآن ولاحقا.
لكن مع ذلك كله، فإن هناك حاجة للانتقال لما هو جوهري وموضوعي، لتجاوز ما هو شكلي وإجرائي، فالقضايا الرئيسية التي تحتاج حوارا جادا بين السلطة والمعارضة ومكونات المجتمع تبدأ من إجراءات واضحة ومحددة تضمن فتح المجال العام وحرية العمل السياسي ونظم انتخابية متوازنة وعادلة وحرية الصحافة والإعلام وضمانات حرية الرأي والتعبير ووقف استخدام الحبس الاحتياطي كعقوبة وتعديل مدته وإجراءاته وشروطه، وإذا كانت تلك الإجراءات التي لا يزال كاتب هذه السطور يراها أولوية ضرورية لا لكونها الأهم لدى المجتمع وإنما لكونها الضمانة في حال الاتفاق عليها والالتزام بها لكل ما هو لاحق، بما في ذلك القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي يمثل وجود مناخ عام مختلف وأكثر انفتاحا إمكانية وضمانة لاستمرار وتواصل طرح الرؤى ووجهات النظر المختلفة حولها، لكن ومع ذلك فإن هذا وحده لن يكفي في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، فهناك ضرورة لإجراءات عاجلة تكون محل توافق وقابلة للتطبيق تخفف آثار ووطأة الأوضاع الاقتصادية على عموم المصريين، وهذا في ذاته ضرورة للسلطة والمعارضة ولفرص نجاح الحوار بينهما ولاكتساب مصداقية لدى المجتمع لما قد ينتج عن هذا الحوار.
هذه الموضوعات بتفاصيلها، وغيرها أيضا، وهى كثيرة ومتعددة، هي ما تستحق جهدا أكبر وأولوية أعلى وتركيزا أهم، وصحيح أن إجراءات التحضير للحوار مهمة وتمثل من وجهة نظر المعارضة ضمانة لجدية وإمكانية طرح ذلك كله، لكن ما نشير له هنا، أن اللحظة الآن صارت تحتاج انتقالا للحديث عن المحتوى والمضمون، بما قد يحتمله من اختلافات مؤكدة سواء مع السلطة أو ما بين أطراف الحوار وبعضها أو ما بين قوى مجتمعية مختلفة، لكن هذا كله مقبول ومفهوم ومشروع، وعلى الأقل عندما يجري فإن الخلاف حوله يستحق ويصبح أكثر وضوحا، والأهم فيه أن هناك قضايا وموضوعات تكاد لا تكون محل خلاف على الأقل بين مكونات المعارضة وقوى مجتمعية واسعة مثل القضايا المتعلقة بالحريات والمجال العام، كما أن إجراءات اقتصادية تخفف من آثار الوضع الحالي تكاد لا تكون محل خلاف من أحد لكنها تحتاج لدراسة حول تفاصيلها وإمكانيات تطبيقها، قد يراها البعض غير كافية وهذا صحيح وقد يراها البعض لا تعني حلولا حقيقية وهذا أيضا صحيح، لكن ذلك هو العاجل والأكثر إلحاحا الآن وأن يكون ذا أثر ملموس لدى عموم الناس.
أخيرا، ومن هذا المنطلق، فإنني ألزم نفسي، وأدعو غيرى، وقد بادر إليه البعض بالفعل من قبل، أنه من الآن وحتى توقيت بدء الحوار إذا قدر له أن يبدأ، أن يكون التركيز على ما نطمح في أن نصل إليه من الحوار الوطني، كآلية مطروحة الآن، وما هي المهام والواجبات الملحة والتي يمكن أن تنقلنا من وضع قائم إلى وضع أفضل نسبيا يمكن البناء عليه. وبالإضافة إلى ذلك يبقى ويظل ملف سجناء الرأي سواء على المستوى الشخصي بكل ما يعنيه من مسئولية أخلاقية وسياسية، وعلى المستوى العام بكل ما يعنيه من إنهاء معاناة وظلم وألم للعديد من الأسر والأهالي الذين يمثلون جزءا –ليس قليلا– من هذا المجتمع.