ضمن سباق دبلوماسي على خلفية أزمة سد النهضة وخلق أطر للنفوذ نظمت أديس أبابا “المؤتمر الإقليمي لدول أعالي حوض النيل” في الفترة من 5 إلى 7 سبتمبر/أيلول الجاري.
وشارك في المؤتمر -الذي اتخذ شعار “الانتفاع المُنصف للمجاري المائية العابرة للحدود الدولية”- 150 مسئولا وخبيرا من دول حوض النيل. كما استهدفت إثيوبيا عدة رسائل من خلال المؤتمر.
وجاء من بين الرسائل والأهداف الإثيوبية المعروفة والضمنية تقوية نفوذها أفريقيا وخلق اصطفاف مع دول حوض النيل. واستبعاد مصر والترويج للأهداف التنموية للسد.
باستثناء مصر ورواندا حضرت دول الحوض المؤتمر بدعوة وجّهتها إثيوبيا من أجل زيادة تعزيز أعمال اللجنة المخططة للتنمية المشتركة لدول الحوض. وكذا الإسراع في التصديق على الاتفاقية الإطارية لنهر النيل.
افتتح المؤتمر بكلمة وزير المياه والطاقة “حبتامو إيتيفا” الذي أكد أن ذلك الاجتماع “فرصة لزيادة تعزيز شراكتنا والتواصل ومناصرة صوتنا والتأثير في المجتمع الدولي للحصول على الدعم المطلوب”. ما يعكس الأهمية السياسية والإقليمية للمؤتمر بالنسبة لإثيوبيا خصوصا. كإطار للحشد وكسب التأييد وتقوية علاقتها مع دول حوض النيل وأيضا مخاطبة المؤسسات والقوى الدولية حول قضايا التنمية والمياه.
رسائل إثيوبية
أعلنت إثيوبيا إكمال الملء الثالث لسد النهضة في أغسطس/آب الماضي دون تنسيق مع دولتي المصب. وهي الخطوة التي رفضتها دولتا المصب -مصر والسودان- باعتبارها إصرارا واضحا على الإضرار بالأمن المائي لشعبي الدولتين.
ويمثل المؤتمر أداة لحصول إثيوبيا على الشرعية والدعم من جانب الدول الأفريقية. أي “شرعنة” مقولاتها وخطاباتها المتعلقة بتقاسم مياه نهر النيل. طبقا لمفهوم الاستخدام العادل والمنصف. والذي تروّج خلاله روايتها حول إعادة تقسيم مياه النهر وتجاوز اتفاقيات أبرمتها “دول استعمارية”.
واليوم وبعد الاقتراب من بناء السد تحاول إثيوبيا فرض الأمر الواقع. كما تبين من عرقلتها المفاوضات وعدم الامتثال إلى قرارات مجلس الأمن إلى جانب الانتهاك الصارخ للمواثيق التاريخية. وذلك بهدف إطالة الوقت اللازم لإتمام بناء السد. وهو ما نجحت فيه فعليا خلال سنوات التفاوض.
ترسيخ فكرة الأزمة
تعمل إثيوبيا جاهدة على تصدير فكرة وجود مشكلات راسخة في موضوع مياه النيل. حيث استغل نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإثيوبي “ديميكي ميكونين” المؤتمر لإعلان أن النيل يتعرض لمشكلات ترجع إلى أسباب طبيعية وغير طبيعية. فهو من ناحية مهدد بالطلب المتزايد باستمرار على المياه بسبب النمو السكاني. وأخرى تتعلق بالتدهور البيئي وتغير المناخ. ما يؤثر في الاستخدام المستدام للنهر ويفاقم الإجهاد المائي في المنطقة. وهو ما يقود بحسب زعمه في النهاية إلى توترات بين الدول بشأن الاستفادة من المياه المتاحة.
كذلك أضاف “ديميكي” أن “الاتجاه لتأكيد الهيمنة على الموارد المائية المشتركة من ناحية أخرى لا يزال يشكل عائقا أمام الاستخدام العادل والمعقول لمياه النيل”. في محاولة لاستغلال تلك العوامل لتبرير التصرف الإثيوبي تجاه الالتفاف على حقوق مصر والسودان في مياه النيل وإضفاء “شرعية” على الدور الإثيوبي أفريقيا.
استبعاد المواثيق القانونية
تحاول إثيوبيا اللجوء إلى الدور المؤسسي كمسار بديل للمواثيق القانونية لأجل تحقيق أكبر قدر من الاستفادة. لذلك تعمل على الترويج لأهمية التكاتف الأفريقي وإظهار التضامن. وكذلك شرط الجهد الجماعي لضمان الاستخدام العادل والمنصف لموارد النيل. وتشجع إثيوبيا دول حوض النيل على تبني “الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل” (CFA) -المعروفة باتفاقية عنتيبي- والتي أقرتها خمس من دول منابع النهر هي (إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا).
وهي الاتفاقية التي تحمل في ذاتها إنهاء الحق التاريخي لمصر والسودان في مياه النيل. أي بموجبها تنقضي الحصص التاريخية لمصر والسودان (55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان). كما تفتح الباب لإعادة تقسيم المياه بين دول الحوض.
ادعاء المظلومية
تعتبر المقولة الرئيسية التي انطلقت منها إثيوبيا في خطوات بناء سد النهضة هو تصدير المظلومية. باعتبار أنها تتعرض لإجحاف من جانب دولتي المصب في ظل معاناتها من أزمة نقص الطاقة.
وفي الوقت ذاته عملت على جذب التعاطف الأفريقي. وهو ما انعكس خلال المؤتمر. حيث أعلن ديميكي -في تكرار لخطاب المظلومية- أن بلاده تتعرض لضغوط لا داعي لها. وأن السد ما هو إلا مشروع تنموي لإنتاج الطاقة النظيفة.
وحمل خطابه إنكار حقيقة أن السد تترتب عليه أضرار على مصر والسودان. سواء في المياه -خصوصا مصر التي تعاني من فقر مائي وتضرر من نقص حصتها من مياه النيل بعد بناء السد- وأيضا أضرار السد على التوليد المائي من سد الروصيرص وخزان مروي بالسودان. أي تهديد مباشر للتشغيل الآمن للسدود السودانية كما حدث فى الملء الثالث.
وتستغل إثيوبيا الفرصة لكسب قوة الحشد في إعطائها الشرعية التي يتطلبها بناء السد كبديل عن المسار القانوني. لذلك أعلنت خلال المؤتمر عن الحاجة الشديدة للإسراع في إنشاء إطار قانوني ومؤسسي واسع للحوض.
وفي السياق -وخلال الاجتماع السنوي لمجلس وزراء حوض النيل الذي عقد في تنزانيا في 19 أغسطس/آب- دعت إثيوبيا وأوغندا دول حوض النيل للانضمام إلى اتفاقية إطار التعاون (CFA). وذلك بهدف رفع مبادرة حوض النيل إلى هيئة حوض نهر النيل.
كما أعلن عمدة نيروبي السابق، “جو أكيش” خلال المؤتمر دعمه لموقف إثيوبيا. وقال إن أفريقيا “يجب أن تفخر بما تفعله إثيوبيا في سد النهضة”. في إشارة إلى توقيع كينيا مؤخرًا اتفاقية مع إثيوبيا بشأن قضايا الطاقة. وأكد “أكيش” أن بناء السد يمنح المزيد من الفرص لشعوب المنطقة.
وتستخدم إثيوبيا تلك الخطابات كأداة دعائية ذات تأثير في الرأي العام والمواقف الرسمية في دول حوض النيل. وفي الوقت ذاته تضيق بهذا النشاط المجال على مصر والسودان من إمكانية تكوين موقف أفريقي داعم لحقوق الدولتين فيما يتعلق بقضية سد النهضة ومياه نهر النيل.
الترويج للسد
بعد إتمام الملء الثالث للسد تعمل إثيوبيا على الترويج لأهميته بمزاعم كونها أكبر دولة تعاني نقصًا في الطاقة بأفريقيا. إضافة للمعاناة من تاريخ الصراع والعجز التنموي. وبالتالي هي تستحق التشجيع لها على بناء سد النهضة باعتباره يحقق أعلى مصلحة قومية للبلاد ويفيد المنطقة ودولا أفريقية عدة على تحقيق التنمية.
في السياق قام المهندس “غديون أسفاو” -رئيس فريق التفاوض الفني لسد النهضة والمستشار بشأن المياه العابرة للحدود- بعرض مراحل ملء السد. وكيفية الاستخدام العادل والمعقول لنهر النيل. وأيضا كيفية تحقيق مكاسب وفوائد جماعية عبر التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل. ومنها توليد وتعزيز سوق الطاقة النظيفة وتخزين المياه والمحافظة عليها وبناء القدرات الوطنية.
استباق القمة الأمريكية
تعقد القمة الأمريكية الأفريقية في الفترة “13-15 ديسمبر/كانون الأول” نهاية العام الجاري. وتحاول مختلف الدول ترتيب أوراقها لعرض موقفها والتحديات التي تواجهها خلال القمة.
وفي ظل توتر العلاقات الأمريكية الإثيوبية على خلفية انتهاكات رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” ضد التيجراي تعتبر إثيوبيا في موقف صعب قد لا يوفر لها الحق في اللجوء إلى أمريكا لمساندتها في السد. لذلك تحاول إثيوبيا العمل الاستباقي عبر مسارين. أولهما تكوين جبهة أفريقية داعمة لها في مسألة السد لتقوية موقفها من جهة. والاستعاضة بها عن الدعم الأمريكي من جهة أخرى. والمسار الآخر توظيف الدعم الأفريقي لعرض موقفها في القمة المقبلة والاستفادة من الأصوات الأفريقية لمواجهة الضغط الأمريكي.
ومن ذلك يعتبر المؤتمر حلقة من سلسلة المماطلة الإثيوبية. حيث تحاول إثيوبيا إغلاق المجال على مصر والسودان فيما يخص لجوء الدولتين إلى مختلف الوسائل الممكنة التي تضمن حقوقهما التاريخية في مياه النيل. وبمنتهى التعنت تسعى أديس أبابا نحو فرض وجهة نظرها تجاه حق كل من دول الحوض في المياه. وتحديد أولويات الاستفادة من المياه. إضافة إلى تحديد آلية بعينها “أي اتفاقية عنتيبي ومبادرة حوض النيل” كطريق لإقرار الحقوق المائية مع مصر والسودان.