ما الذي فعلناه بأمتنا؟، وماذا فعلنا بأنفسنا، وقضايانا؟، وما الذي نفعله من أجل المستقبل؟

أسئلة تطرح نفسها في كل وقت، خاصة في تلك الأزمان التي تتوه فيها البوصلات عن طرقها، وتنحرف فيها الطرق عن غاياتها، وتتوقف فيها قطارات الحياة عند المحطات الغلط.

إذا قصرت حديثي على ما عاينه جيلنا منذ بواكير وعيه في شبابه الأول من حملات ممنهجة موجهة إلى الهدف الخطأ، ومستهدفة واحدًا من رموز وأيقونات وقيم هذا الشعب وتاريخه، فلا شك لن أنسى الحملات الجهولة التي بدأت في أعقاب انتصار مصر في حرب أكتوبر سنة 1973 وربما اتكأت على زهو النصر الذي تحقق، لتضرب معاولها الصدأة في كل ما أنجزه الشعب خلال 18 سنة سبقت.

**

كنا نفاجأ كل يوم بمقال في جريدة هنا، وكاريكاتير في مجلة هناك، ومسلسلات قصصية، وحلقات متصلة منفصلة تملأ صفحات كاملة من صحف تلك الأيام، كلها هجوم وتهجم تحركه رغبة محمومة في إسقاط النموذج، وتقبيح كل ما جرى في 18 سنة من تاريخ الوطن، بكل ما فيها من قرارات وإجراءات وسياسات وانحيازات.

استباحت تلك الحملات المتتابعة التاريخ القريب الذي عايشنا بعض فصوله، وقد رأينا رأي العين كيف خرجت جحافل إعادة كتابة التاريخ على الهوى الذي يكره تجربة جمال عبد الناصر في مصر، وكان الهدف واضحًا لنا رغم صغر سننا وقد أثبتت الأيام فيما بعد عمق نظرتنا وصدق رؤيتنا، كان الاختلاق واضحًا في كثير من الحكايات التي دبجوها، وكان الافتراء مسبوكًا في الأقاصيص التي اخترعوها.

**

واحدة من تلك الحملات استهدفت «السد العالي» الذي كان وما يزال يمثل واحدًا من أهم وأكبر إنجازات الفترة الناصرية، لم يكن الهدف هو تقييم جاد وموضوعي ومنصف لتجربة شعب وأمة في ظرف تاريخي بإنجازاته واخفاقاته بما له وما عليه.

كان باديًا لكل ذي بصيرة أن الهدف هو الاغتيال المعنوي لكل إنجاز وإهدار القيمة المعنوية التي جسدها وجود شخص مثل عبد الناصر على ساحة الفعل العربي في تلك الفترة من تاريخ أمتنا، كان الهدف هو إجهاض أي محاولة لاستلهام تجربة مخلصة للانعتاق من تشرذم الأمة وتخلفها، تجربة رفضت التبعية للخارج، وراحت تتخلص من القهر الاجتماعي في الداخل.

**

كان مشروع «السد العالي» واحدًا من النقاط المضيئة في هذا المشروع الكبير، ولذلك نال حظًا وفيرًا من حملات التحطيم والتجهيل، اشتدت الحملة ضد «السد العالي» ضمن مهرجان الحملات الممنهجة في سنة 1974 في أعقاب إخراج مصطفى أمين ورجوع أخيه علي أمين إلى مصر، فشرعوا مباشرة في نصب قوائم السيرك، وأشرفوا على كل تفاصيله، ووزعوا الأدوار على المشاركين فيه.

وانتظم لاعبون كثيرون جاءوا من كل فج عميق ليشاركوا في السيرك المنصوب، وتفتقت سطحيتهم عن عجائب لا هدف لها غير تشويه مشروع السد، وصلت حماقتهم إلى المطالبة بضرورة الإسراع في هدم السد لإنقاذ مصر من آثاره المدمرة «قبل أن يصبح الوقت متأخرًا»، حسبما يذكر الكاتب الكبير فيليب جلاب، في كتابه الشهير «هل نهدم السد العالي؟».

مضت الحملات إلى حَــيــث أَلقَـت، وبقي «السد العالي» على مر الزمان طوال الخمسين سنة الأخيرة، وحتى اليوم ما يزال يثبت كل ساعة أن دعاة هدمه لم يزيدوا عن كونهم معاول صدئة لا قيمة لها ولا بقاء.

**

مثل «السد العالي» تعرض «الأزهر» إلى حملات ضارية، تصاعدت وتيرتها واشتدت حدتها في السنوات العشر الأخيرة، ظلت تأتيه رياح الخماسين على طول العام، ومن الجهات الأربع، بعض الهجوم (التهجم على الحقيقة) يأتيه من «إرهابيين» يرونه مطية في يد السلاطين، وبعضه الآخر يأتيه من «علمانيين» لهم موقف من الدين، وبعضه الثالث يأتيه من «إخوان» أرادوا في يوم من الأيام أن يدخلوا الجامع والمشيخة تحت ولايتهم، والصنف الرابع من الهجوم على «الأزهر» يأتيه من «أبواق سلطوية» يريدون أن يؤمموا المشيخة ويستبدلوا الشيخ، ويُدخلوا الأزهر حظيرة النظام.

هؤلاء الأربعة يهاجمون «الأزهر»، وخامسهم هؤلاء الذين عن جهل يتحدثون، وفي الهيصة يرتعون.

**

كثير من أصحاب الحملات الموجهة إلى «الأزهر» يستندون في دعاواهم إلى أوجه قصور، ومظاهر تقصير، موجودة بالفعل، وفي حاجة ماسة وضرورية وعاجلة إلى تغيير وتطوير جاد وموضوعي ومطلوب.

ومن أسف أن أكثر المطالبين بتطوير «الأزهر» يقعون في أخطاء وخطايا تثير الشكوك حول دعوتهم، وبدلا من أن ينحصر الحديث بين أصحاب الرؤية الجامدة وبين أصحاب الرؤية المجددة يدور في غير الموضوع نفسه، وعن نفسي وأنا أحسبني ضمن طائفة المطالبين بتطوير «الأزهر» وتحديثه أجدني متشككًا في دوافع بعض هؤلاء الذين يصبحون ويمسون ولا حديث لهم غير «الأزهر» بما فيه من أخطاء وخطايا.

**

القضية قديمة وبدأت قبل قرن من الزمان على الأقل، وتصدى لها مشايخ وأئمة كبار، والتجديد -في كل الأحوال- مطلوب، والسؤال: كيف يتم؟، والتطوير ضرورة حياة وانعتاقًا من الجمود.

هدم «الأزهر» لا يصحح الخطاب الديني، ولن يتم تطوير هذا الصرح عبر التشنيع عليه وازدراء علمائه، والانتقاص من كل المنتسبين إليه، وتصويرهم على أنهم رديف للإرهاب، ومفارخ للإرهابيين؟

هل يصلح المجتمع بإفساد «الأزهر» أو بتفسيده؟

**

في الدين كما في السياسة كما في الاقتصاد والأمن والاجتماع نحن في أمس الحاجة إلى تصحيح وتغيير وتطوير وتجديد، فلماذا يقصر هؤلاء المتهجمون على «الأزهر» نقدهم على مفاهيم دينية خاطئة، وبعضها فاسد، ولا يقربون الحديث عن فساد موجود ومنتشر في كل مناحي الحياة على أرض مصر؟.

يقولون الخطأ في المفاهيم الدينية له مفاسد عظيمة على المجتمع، وهذا صحيح، والصحيح أيضا أن أخطاء السياسة والاقتصاد والأمن مفاسدها أشد خطرا وأكثر مفسدة في المجتمع.

وهناك آراء معتبرة ترى الإرهاب عَرَضا لأمراضٍ تسببت فيها السياسة، وأن الحوار حول الظاهرة يجب ألا يقتصر على المؤسسة الدينية وحدها، ذلك أن معالجة الإرهاب تقتضي حلولا مركبة وتحتاج إلى جانب علماء الدين علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد وأيضا إلى متخصصين في علم النفس.

**

لو أننا وضعنا ظاهرة الإرهاب في رقبة القوى الأمنية وحدها نكون ظلمنا أنفسنا أولا قبل أن نظلم المؤسسة الأمنية، ومحاولة إلقاء المسئولية عن تفشي الظاهرة إلى جهة ما دون غيرها هو نوع من عدم فهم الظاهرة، ومظهر من مظاهر التعامل القاصر مع خطر داهمنا من قبل ويشكل تهديدا محدقا بمستقبل بلدنا.

يستوي في ذلك محاولة البعض تلبيس «الأزهر» وحده تهمة المسئولية عن الإرهاب والتسبب في إنتاج إرهابيين، وهي محاولة تشي بجهل وظلم وتجنٍ يبعدنا عن الطريق الصحيح، ويشوش علينا الطريقة الأجدى في القضاء على الإرهاب واقتلاع جذوره من المجتمع المصري.

**

الإرهاب -مهما توحشت أدواته وتعددت جرائمه- هو قوة غيبة، وليست قوة حضور، يحضر الإرهاب بقوة حين تغيب السياسة، ويضرب بعنف حين يغيب العدل، ويتمدد في بيئات يسودها الجهل والفقر والظلم الاجتماعي.

«الأزهر» مجني عليه في موضوع الإرهاب قبل أن يكون جانيا، يكفره الإرهابيون، قبل أن يحط من قدره النقادون، تتناسى جوقة المنادين بالتجديد وتتغافل عن أن رأي الإرهابيين في علماء الأزهر أسوأ من رأيهم فيهم، هم يقولون عليهم فقهاء السلطة أو علماء السلطان باعوا دينهم لعرض زائل، واشتروا الحياة الدنيا وناموا في أحضان السلاطين، فكأنما اجتمع الإرهاب وأعداؤه على معاداة الأزهر.

**

المؤسف أن التهجم على «الأزهر» يتواكب مع كثرة الرطان السياسي حول تجديد الخطاب الديني، وكأن الأزهر –وحده- هو المسئول عما نحن فيه من تخلف فكري وتعليمي وحضاري تعاني منه الأمة على مدار عقود ماضية.

الدعوة إلى التجديد يجب ألا تعني الخضوع التام لشروط الآخر، ويجب ألا يهز هذا التجديد الثوابت العقدية والإيمانية، بل يقتصر مداه على المسائل المتصلة بالجانب المتغير، لملاحقة واقع لا يتجمد أبدًا.

**

بعض المنادين بتجديد الخطاب الديني يخلطون بين ما هو دين، وما هو فكر ديني، ويتناسون أن الدين من عند الله، وأن الفكر الديني من فهم البشر وفقههم لمراد الله، فتجد بعضهم يرفض ما هو دين بدعوى أنه لم يعد يناسب العصر، ويعتبرونه بعضا من الخطاب الديني المطلوب تجديده.

وبعض الناقدين للأزهر والناقمين عليه يصل نقدهم إلى نقض نصوص ثابتة دينيا لدى علماء المسلمين على مر العصور، يريدون أن يفرضوا رأيهم، ويشيعوا تصورهم وخطابهم، بينما يرفضون أن يكون للأزهر سلطة فرض رأيه وتصوره، فكأنما يمارسون في اللحظة ذاتها ما يرفضونه من الأزهر، ويقبلون لأنفسهم ما لا يقبلونه من «الأزهر».

يريدون أن يتسيد رأيهم وتصورهم عن الدين، وينفون في الوقت نفسه حق الآخرين في أن يكون للأزهر رأيه وتصوره عن الدين.

**

أسوأ ما يأخذه البعض على «الأزهر» عدم تكفيره لبعض الجماعات على الجملة، ويأخذون عليه في الوقت نفسه ما يقولون إنه تكفير لهم وازدراء من الأزهر بأفكارهم.

يطلبون من «الأزهر» تكفير من يرونهم كافرين، وأن يرفع يده عن تكفير ما يراه كفرا، والأصل أن التكفير يقع على الأفعال بحكم الدين، ولا يقع على الأشخاص بغير حكم القاضي، وموقف الأزهر في تلك القضية أكثر نضجا وأشد انحيازا لدولة القانون من هؤلاء الذين يتشدقون بمدنية الدولة، ويرفضون الدولة الدينية.

كأنهم يمنحون بأنفسهم «الأزهر» الذي ينتقدونه سلطة التكفير، ما يعني إقرارًا منهم بحق الأزهر في التكفير ويضعونه من الناحية الواقعية فوق سلطة الدولة ومؤسساتها ويجعلون منه مرجعية لكافة شئون حياة المصريين، ويضربون بنزقهم مبدأ المواطنة الذي يدافعون عنه في مواضع أخرى، وبأيديهم يجعلون «الأزهر» سلطة معطلة للدستور.

**

كثير من المطالبين بتجديد الخطاب الديني يقدمون قضيتهم في شكل غائم، ويختلف بعضهم مع بعضهم في صورة الخطاب الديني المطلوب، العلمانيون لهم تصور، والإخوان لهم تصور، والمتحدثون باسم السلطان لهم تصور، فأي خطاب ديني يريدون؟.

وإذا كان خطاب «الأزهر» مرفوض، فهل خطاب الذين يقضون ليلهم ونهارهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم في سب البخاري ومسلم وكل كتب التراث على الجملة، هو الخطاب المطلوب؟ أو هو التجديد في زعمهم؟

كل قضية مطروحة في النقاش تحت عنوان تجديد الخطاب الديني لها أكثر من تصور عن الدين، فمن يملك القدرة على الادعاء بأن خطابه وتصوره هو خطاب الدين وتصور الإسلام؟

**

وأعود لأطرح جوهر الأسئلة التي طرحتها في مفتتح المقال: ماذا فعلنا في أنفسنا؟ وكيف نتعامل مع قضايانا؟

للأسف أقولها: نحن أمة لا تحسن وضع أولياتها، وتتعامل مع أزماتها بالقطعة، وتنتفض في مواجهة الصغائر، وتترك كبائر الأمور، ولا تتحرك إلا في مواجهة العرض، وتتغافل عن الأمراض التي تنهش في قدرتها على النهوض من جديد، وهي مع الأسف الشديد مبتلاه بتغييب العقل على أيدي من يتصورون أنفسهم رعاة لما يسمونها بالصحوة الإسلامية هؤلاء الذين تلهيهم المعارك الصغيرة، ويعرضون عن معارك الأمة الحقيقية، لا يثورون في وجه السلطان الجائر بل يثورون في وجه الصدر العاري.

نحن في حاجة ماسة إلى خطاب ديني، ينحاز للعصر ولا يخاصم التراث، ينحاز للعلم وليس للتقليد، يفتح أبواب الاجتهاد والتأويل في غير المعلوم من الدين بالضرورة، خطاب يقر التمايز ويهتم بالتواصل الحضاري مع الأمم الأخرى، خطاب يتمتع بالروح الحضارية، ويكون له تأثير في شتى مناحي الحياة السياسية والتعليمية والإعلامية والثقافية.

**

لا يمكن تجديد الخطاب الديني بمعزل عن التجديد والتحديث في المجتمع والدولة. هذه بديهية.

تجديد الخطاب الديني يقوم به مجتمع متعاف ومتناغم ومتعدد لا يكبت الحريات ولا يجور على الحقوق ويحكمه القانون، حتى لا يتحول الحديث عن التجديد إلى رطان سياسي لا قيمة له ولا ينتج أثرا حقيقيًا في الواقع.

والأكثر بداهةً أن التجديد يبدأ بتطوير المجتمع وتحديث الدولة وعصرنتها، ولا يتوقع أي عاقل تجديدا في مجتمع يُساق إلى «الصوت الواحد» في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والفكر حيث لا قدرة على إنتاج أي تجديد حقيقي على أي مضمار وفي أي مجال.

سيظل تاريخ «الأزهر» رغم كل الانتقادات، وبرغم كل الحملات، زاخرًا بصفحات ناصعة سطرها شيوخ عظام، ربطوا العدل بالتوحيد سواء في علاقة الخالق بالمخلوقات، أو علاقة السلطان برعاياه، أو علاقة المسلم بغيره.

التجديد يبدأ من هنا، من «ميدان الحرية»، وبدلًا من الحديث كأنكم تريدون أن تهدموا الأزهر صوبوا معاولكم ضد الاستبداد والفساد لعلكم تفلحون.

**