كشفت أزمة تطوير جزيرة الوراق في محافظة الجيزة، وما نتج عنها مؤخرًا من اشتباكات بين قوات الأمن والأهالي الرافضين لعملية الإخلاء “القسري”، وجهًا لغياب الحوار المجتمعي الذي تحتاجه مصر حاليًا بشدة، إذا ما قارناه بما قد تسفر عنه حالة الغضب والاحتقان بين المواطنين والحكومة. وقد انتهت هذه الأزمة إلى مرحلة صعبة من رفض مشروع تطويرها وحتى بدائله المقترحة، في وقت لم تعتمد الأجهزة التنفيذية لتجاوز الأزمة سوى سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، تحت غطاء المنفعة العامة، الأمر الذي لم يحل الأزمة إلى الآن.

سيناريو أزمة الوراق مرشح كذلك للتكرار في 16 جزيرة أخرى، بموجب إعلان الحكومة استبعادها من القرار رقم 1969 لسنة 1998 للمحميات الطبيعية، وإعادة طرحها للاستثمار كأحد المناطق المميزة التي يجب استغلالها اقتصاديًا.

وقد أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، في يناير/ كانون الثاني الماضي، قرارًا جمهوريًا رقم 18 لسنة 2022، بالموافقة على تخصيص عدد 36 جزيرة نيلية، بالإضافة إلى جزيرة بحرية واحدة، لصالح القوات المسلحة. بينها الوراق وأخواتها الـ16: وردان الكبرى، والصغرى، والقيراطيين، وأبو غالب، وأبو عوض، وأم دينار، والدهب، والقرصاية، وكفر بركات، والرقة، وحلوان البلد، والشوبك البحرية، وكفر الرفاعى، والديسمى والكريمات، والذهب.

الوراق وأخواتها من الجزر الأخرى تشغل الأراضي الزراعية 90% مساحاتها، بينما تشغل مساكن الأهالي الـ 10% المتبقية، في مقابل عوائد سنوية بسيطة وقيمة إيجارية تتراوح ما بين 4800 إلى 5000 جنيه عن كل فدان، تسدد لهيئة استصلاح الأراضي.

وتمثل الزراعة والصيد النشاط الرئيسي للسكان هناك كأي مجتمع ريفي بسيط، تقطنه أسر ممتدة لعدة أجيال داخل بيت واحد لتوفير الأيدي العاملة اللازمة الزراعة.

الوراق وأخواتها.. متى بدأت الأزمة؟

بدأ أزمة النزاع على ملكية جزيرة الوراق ومساحتها تقارب الـ 1600 فدان، حين قررت الحكومة عام 1998 وضعها ضمن نطاق المحميات الطبيعية، الذي يقضي بتجهير سكانها. وفي العام 2000، قررت الحكومة تحويل الوضع القانوني للجزيرة إلى جانب جزيرة الذهب (تقع بالجيزة في مقابلة حي المعادي بالقاهرة) من محمية طبيعية إلى أملاك ذات منفعة عامة (تعني عدم جواز تقنين وضع اليد).

حينها، احتج قرابة 40 ألفًا من قاطني الجزيرتين على القرار. وفي عام 2002، حصل الأهالي على حكم لصالحهم بتملك أراضي الجزيرة. وفي عام 2010، أعلنت الحكومة، ترسيم الحدود الإدارية لـ5 محافظات، كانت بينها محافظة الجيزة، وضمنها الوراق، ووضعت خطة لتطوير الجزيرة. ذلك قبل أن تهدأ الأمور لبضع سنوات بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981 – 2011).

عادت الأزمة إلى السطح مجددًا مع تبلور مشروع الاستيلاء على الجزر الـ 17 واستغلالها استثماريًا في عام 2009، عندما كان رئيس الوزراء دكتور مصطفى مدبولي رئيسًا لهيئة التخطيط العمراني. إذ كان مدبولي من وضع المخطط الاستراتيجي لتطوير القاهرة الكبرى 2050، التي شملت هذه الجزر وعلى رأسها الوراق والذهب. حيث خطط للأولى أن تكون مركزًا للمال والأعمال، والثانية لإقامة مشروع سياحي ترفيهي.

تم إعداد المخطط بمشاركة البنك الدولي، وهيئة المستوطنات البشرية بالأمم المتحدة. ما أثار حفيظة ممثلو المجتمع المدني، الذين انتقدوا حينها أن تكون الأمم المتحدة شريكًا فى تشريد عشرات الآلاف من السكان، وطلبوا إجراء تفاوض بين أطراف المشروع والسكان.

ومع ضغط المجتمع المدنى خلال السنوات الماضية في سبيل إجراء الحوار والتفاوض على أن يظل السكان في موطنهم الأصلي مع استمرار التطوير، توقف المشروع وتمكن الأهالي من الحصول على أحكام قضائية بتمكينهم من البقاء على الأرض في 2010، إلى أن تجددت الأزمة مرة أخرى تزامنًا مع موجة الاستحواذات الخليجية على الأصول وفي القطاعات المختلفة داخل البلاد.

احتجاجات أهالي جزيرة الوراق - أرشيفية
احتجاجات أهالي جزيرة الوراق – أرشيفية

لماذا الخروج صعب؟

تكمن صعوبة خروج سكان الوراق وأخواتها من طبيعة البيئة التي ارتبطوا بها عبر أجيال. فالنشاط المحدود لقطاعي الزراعة والصيد التقليدي باب الرزق الرئيسي لغالبية السكان، توارثوها لأجيال، إلا فئة قليلة تعمل في وظائف ومهن بسيطة في المحلات التجارية والحرفية. لذا فإن الحوار المجتمعي ضرورة حول البدائل الأنسب والمتاحة لهذه الطبيعة السكانية المختلفة في مثل هذه المناطق.

تقول منال الطيبي، مدير المركز المصري لحقوق السكن، إن الفريضة الغائبة حاليًا في القضية هي غياب الحوار المجتمعي. فالأزمة لا تتعلق بالسكن فقط، بل “قطع الأرزاق” وتحويل آلاف الأيدي العاملة إلى عاطلين حالة نقلهم إلى بيئة أخرى مغايرة لطبيعة نشاطهم الأصلي بالزراعة.

وهو ما يتفق معه حمدي عرفة، أستاذ الإدارة المحلية وخبير استشاري البلديات الدولية بكلية الإدارة بالجامعة الدولية للعلوم والتكنولوجيا. إذ يلفت أن الحوار المجتمعي يجب أن يشمل مشاركة الجهات المعنية والنقابات المتخصصة والمحليات على مستوى الحي أو المدينة. ذلك إلى جانب متخصصين في التخطيط العمراني، وشخصيات عامة، تكون قادرة على إقناع السكان بأن التطوير لصالح الأجيال القادمة. مع اختيار الطريقة الأمثل والمناسبة للسكان وطرح بدائل ممكنة لهم لا تضرهم. فلابد من التوافق والتراضي.

“كان ينبغي إبلاغ السكان قبلها بـ 6 أشهر أو سنة على الأقل، وحال موافقتهم على الإخلاء يتدخل مطور عقاري في تقييم وتسعير الوحدة بمشاركة لجنة أملاك الدولة التابعة للمحافظة ممن لهم علاقة بالتسعير حتى يتم التعويض بشكل مناسب للضرر الواقع على السكان”؛ يقول “عرفة” في حديثه لـ”مصر 360″..

كيف هي أزمة أكبر من التطوير؟

وفق المتخصصين في علم السكان، فإن عملية “التجديد أو التحسين العمراني” تؤدي إلى تداعيات ديموغرافية لا يمكن إغفال أثرها الكبير. إذ يترتب على ذلك خلع سكان عاشوا مئات السنين ولهم تاريخ وعلاقة بالمكان على أسس اجتماعية وثقافية وحضارية لصالح سكان آخرين لا علاقة لهم بهذه الأرض.

يحذر الدكتور عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا البشرية بجامعة القاهرة، من هذا التغيير الديموغرافي الذي قد تقبل عليه الجزر الـ 17، فيقول عبر صفحته الشخصية بـ”فيسبوك“: “إن للهدم والإزالة والإحلال والتجديد شجون عديدة، سياسية واستثمارية، فحين يحدث ذلك التغير في جغرافيات المدينة، فإن المدينة لا تغير جلدها الظاهري فحسب بل تبدل الهيكل العظمي الديموغرافي، ومن ثم يصبح لدينا جغرافية مغايرة لا تشبه الأصل ولا تعد امتدادًا للمكان”.

يضيف “معتمد”: “بالتدريج يتم إخلاء السكان التاريخيين لصالح سكان وافدين عصريين لا رابط بينهم وبين المكان. يتحول مركز المدينة إلى رقعة استثمارية بالغة الثراء محكومة بقوانين تجارية وسياحية ومغلقة وحصرية، بينما يكون مصير السكان الأصليين مجهولًا ومرتبك. تتم بعثرتهم على مناطق مختلفة ثم ينساهم الزمن وينسى معهم ذكرياتهم وعلاقتهم بالمكان وتراثهم”.

وفقًا للدكتور سامح العلايلي، أستاذ التخطيط العمراني وعميد هندسة القاهرة سابقًا، فإنه لا يجوز الاعتداء على حياة وأمن المواطنين واستقرارهم، تحت أي غطاء وإن كان المنفعة العامة. ويتساءل: ما هي المنفعة العامة في تحويل مئات الأفدنة الزراعية المنتجة إلى أبراج سكنية؟ بينما يرى القرار “غير مدروس” لا يعبأ بالنتائج التي تترتب عليه؛ وأولها تحويل آلاف الأيادي العاملة إلى عاطلين.

المخطط المقترح لجزيرة الوراق
المخطط المقترح لجزيرة الوراق

الوراق وأخواتها والحق بالسكن

وقد تم الاعتراف بالسكن اللائق كعنصر من عناصر الحق في مستوى معيشي مناسب في المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948، والمادة 11.1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعام 1966. ومنذ ذلك الحين، اعترفت معاهدات دولية أخرى في مجال حقوق الإنسان أو أشارت إلى الحق في السكن اللائق أو بعض عناصره، مثل حماية منزل الفرد وخصوصيته. فيما أكدت لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهتها، أن الحق في السكن اللائق لا ينبغي أن يفسر تفسيرًا ضيقًا. بل ينبغي النظر إليه على أنه الحق في العيش في مكان معيّن بأمان وسلام وكرامة.

ويشمل الحق في السكن اللائق عددًا من الحريات. منها:

– حماية الفرد من عمليات الإخلاء القسري ومن تدمير وهدم مسكنه تعسفًا.
– حق الفرد في عدم التعرض للتدخل التعسفي في مسكنه وحياته الخاصة وشؤون أسرته.
– حق الفرد في اختيار محل إقامته وفي تحديد مكان عيشه وفي حرية التنقل.

أين أزمة الجزر من البرلمان؟

يقول المهندس أحمد شعبان، عضو لجنة الإسكان والإدارة المحلية بمجلس الشيوخ، إن أزمة جزيرة الوراق غابت عن البرلمان لوقوع أحداثها خلال إجازة المجلس السنوية. مضيفًا فيما يتعلق بالإجراءات التي كان ينبغي أن تتخذها الدولة قبل عملية نزع الملكية أو الإجلاء القسري لهذه الجزر، أن أي عملية تطوير كان لابد أن يسبقها إخطار كامل للسكان وبوقت كاف، ثم الإعلان بشكل واضح وصريح عن أسباب النقل. مع كشف طبيعة المشروعات البديلة وطرحها على المجتمع، لعقد مقارنة تقاربية بين أطراف المصلحة.

ويؤكد “شعبان” أن فرض الأمر الواقع على الناس بالقوة من شأنه خلخلة حياتهم ورفع  حالة الاحتقان بينهم. الأمر الذي يحول مناطقهم إلى بؤر غضب تنفجر مع أبسط احتكاك. ويطالب بأن يتم التعامل مع مثل هذه القضايا برشادة وتحضير قبل التنفيذ، واتباع أساليب إقناع المواطنين بجدوى المشروعات المطروحة.

يقول عضو لجنة الإسكان أن نص المادة الثانية للائحة التنفيذية لنظام نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة ووضع اليد المؤقت، يلزم الجهة صاحبة المشروع -قبل البدء بإجراءات نزع الملكية- التأكد من أنه ليس هناك أراضٍ أو عقارات حكومية تفي بحاجة المشروع بدلًا من الموقع المقرر إقامته فيه. وهو ما لا يتحقق -من وجهة نظره- في أزمة الوراق. إذ كان من الممكن استبدال الوراق بمناطق أخرى بديلة. خاصة وأن الجدوى الاقتصادية قد لا توازي تكلفة عملية التطوير وحجم التعويضات.

ويذكّر كذلك المادة الثالثة من اللائحة، والتي تنص على أن تكون مشروعات المنفعة العامة منصوص عليها بالميزانية العامة للدولة كتوسعة مصالح حكومية أو مرافق، شرط عدم وجود مواقع معتمدة تفي بحاجة تلك المشروعات، على أن يتم النزع في حدود مساحة المشروع العام فقط.

ويرى شعبان أنه إذا كانت عملة الإجلاء تتم بهدف تحسين وتطوير المنطقة خدميًا، فإن على رأس هذه الإجراءات حق السكان في التوطين بالمنطقة نفسها ودون تحميلهم أي أعباء مالية أو مصاريف إدارية أو فروق أسعار بين الوحدات القديمة والمطورة.