على خلفية تحولات عميقة وملموسة في ملف تايوان والصين وعدم نشوب حرب بين الدولتين أو بين الأخيرة والولايات المتحدة، وفي ملف الحرب الروسية- الأوكرانية، حيث تتراجع القوات الروسية في العديد من مفاصل جنوب وشرق أوكرانيا، وفي ملف أفغانستان وعلاقته بروسيا والصين ونشاطات تنظيم “داعش” الإرهابي، وفي ملف الطاقة بين روسيا والغرب.. يظهر مصطلح “التعددية القطبية” هذه المرة ليس كتنظيرات ورؤى يغلب عليها الطابع النظري، وإنما كطرح “إجرائي” يكاد يكون قابلا للتحقيق، على الأقل من وجهة نظر قوتين كبيرتين مثل الصين وروسيا.

في 29 أغسطس/آب 2002، صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بأن سياسات الدول الغربية قد تبطئ تشكل عالم متعدد الأقطاب لكنها لن توقفه بأي شكل من الأشكال. وفسر لافروف رؤيته هذه بقوله: “لسوء الحظ يحاول شركاؤنا الغربيون الذين سلموا الآن مقاليدهم بالكامل للولايات المتحدة ومن بينهم بريطانيا معارضة العمليات التاريخية الموضوعية ما يمكن أن يبطئ تبلور التعددية القطبية في العالم لكنه لن يمنعه بأي شكل من الأشكال.. وأن معظم الدول تعتبر موقف روسيا مبررا أو تلتزم الحياد.. لكن الولايات المتحدة وبريطانيا ومن ورائهما أوروبا المطيعة يلجؤون إلى مثل هذه الأساليب لإجبار دول عدم الانحياز وجميع دول العالم الأخرى على تغيير موقفها تجاه روسيا”.

من الواضح أن تصريح لافروف هذا مبني على تصريح “أو إعلان” كان قد أدلى به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتصف أغسطس/آب 2002 بأن “الوضع في العالم يتغير بشكل ديناميكي حيث أن المزيد من الدول الآن يختار طريق التنمية السيادية ويرفض الهيمنة الغربية، وأنه على الغرب أن يعي أن زمن أحادية القطب قد انتهى إلى غير رجعة، وأن العالم متعدد الأقطاب هو لمصلحة الجميع”.

وفي 8 سبتمبر/أيلول 2022، التقطت الصين الخيط وأعلنت تحت عنوان صارخ “بكين تتعهد بمواصلة العمل مع موسكو للترويج للتعددية القطبية”. ومن المهم هنا ذكر التصريحات الصينية، نظرا لاحتوائها على العديد من المغالطات مثل نظيرتها الروسية، خاصة وأنها جاءت أصلا كتعليق على “رؤية بوتين” المذكورة أعلاه، حيث قالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية ماو نينج “إن الصين ستواصل العمل مع المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا، من أجل التعزيز المشترك لعالم متعدد الأقطاب والعولمة الاقتصادية وإضفاء الديمقراطية على العلاقات الدولية.. وإن موسكو وبكين تلتزمان بتعددية الأطراف الحقيقية، وقد سعتا دائما إلى تعزيز استعادة الاقتصاد العالمي لعافيته أثناء الجائحة.. وإن بعض الدول يتمسك بمواقف معاكسة، ويتجاهل أهداف ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ويرغب في فرض عقوبات غير قانونية أحادية الجانب على الدول الأخرى، مما يتسبب في توجيه ضربة قوية للنظام السياسي والاقتصادي العالمي”.

يبدو أننا هنا أمام مناورة روسية- صينية لتضليل الرأي العام المحلي في البلدين، والرأي العام الدولي، ومحاولة استقطاب أكبر عدد من دول “الغبار البشري”، وخاصة الدول الكسلانة ذات الأنظمة الفاسدة أو الدول الغنية التي تعتمد على الاقتصادات الريعية وتجارة موارد الطاقة الخام. هذه المناورة تحاول التغطية على أحداث ومنافع سياسية واقتصادية و”عسكرية- أمنية” حصرية لكل من روسيا والصين. ولكن الأخيرة تستخدم العديد من التعبيرات المهمة والدالة مثل “الترويج للتعددية القطبية” و”العمل مع المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا” لتظهر أنها ليست بالكامل إلى جانب موسكو، وليست بالكامل ضد الغرب. وفي الحقيقة، فإن النخب الحاكمة في الصين هي أكثر النخب في العالم دراية بأهداف الكرملين وماذا تريد موسكو من كافة الشعارات القديمة والجديدة التي ترفعها، ومن إحيائها للعديد من الشعارات والتعبيرات التي باتت غريبة تماما عن العصر، مثل “دول عدم الانحياز” التي لا يتذكرها أحد أصلا، و”الديمقراطية”، ولكن بين الدول وليس في داخل الدول!

في عهد الاتحاد السوفيتي، لجأت روسيا إلى تسويق فكرة الاشتراكية من أجل تحقيق مصالح روسية حصرية، وإحاطة نفسها بالعديد من الدول كمناطق عازلة بينها وبين الغرب. واليوم تبتكر النخب الروسية اليمينية شعارا آخر جديدا، هو “التعددية القطبية”، مستخدمة كل الشعارات القديمة الممكنة لكي تجمع أكبر قدر من الأطراف التي توحدها فكرة “كراهية الغرب” لأسباب ومنطلقات ودوافع مختلفة. أي أن فكرة “الاشتراكية” السابقة كانت على الأقل تستند إلى رصيد نظري- تاريخي، وبث الأمل في نفوس الفقراء، ومنح الأنظمة الاستبدادية مسوغات للمزيد من القمع والاستبداد نظير شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية التي ضللوا بها شعوبهم.

لكن الفكرة الجديدة “التعددية القطبية” لا علاقة لها بأي آمال أو أحلام أو طموحات للشعوب وللأفراد، وإنما هي فكرة صراع أنظمة على توزيع مناطق النفوذ “الاقتصادي والعسكري والأمني” وفق نمط رأسمالي وتحت راية النيوليبرالية، بصرف النظر عن الشعارات التضليلية المطروحة من جانب موسكو وبكين. أي أن الفكرة الجديدة خالية تماما من أي عناصر تتعلق بحياة الناس أو بفكرة الأمل في تحقيق أي شكل من أشكال العدالة. لكن هناك حالة من “الديماجوجية” التي تلجأ لها روسيا في الترويج لهذه الفكرة. بينما في نهاية القرن المنصرم، عندما تم طرح أفكار “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، و”صراع الحضارات” لصامويل هنتنجتون، حاول “المنظِّرون” الروس أن يتلاعبوا مجددا بالشعارات القديمة، ولكن في هذه المرة لم تكن الاشتراكية التي ساهمت روسيا نفسها في هدمها كفكرة وكتجربة، واستخدمتها لتحقيق مصالح قومية حصرية على يد نخبها القومية المتطرفة عام 1917، وإنما عبر التلاعب بمفاهيم “الدولة الوطنية” و”الدولة القومية” وبدأت موسكو البوتينية في مطلع القرن الحالي في طرح العديد من الأفكار “التدليسية” التي تطورت من “خصوصية الحضارة الروسية الأرثوذكسية السلافية” إلى “خصوصية الدولة الروسية الأوراسية”، ثم إلى “التعددية القطبية” التي يجب أن تحتل فيها روسيا مكانة القطب الثاني، أو في أسوأ الأحوال مكانة مرموقة إلى جانب الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.

الأمر الآخر المهم، هو أن العالم لم يكن في يوم من الأيام أحادي القطب، لا في عصور ما قبل التاريخ (الحضارات القديمة)، ولا في الألفية الأولى. وتعددت أشكال “التعددية القطبية” في القرنين الثامن والتاسع عشر، وفي النصف الأول من القرن العشرين، بدأت أفول أقطاب وظهور أخرى. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهرت خمسة أقطاب وليس قطبين كما تحاول الدعاية الروسية أن تركز فقط على دور الاتحاد السوفيتي كقوة وحيدة مع الولايات المتحدة.

وتعددت الأقطاب أيضا بعد هزيمة روسيا في الحرب الباردة، إذ ظلت الولايات المتحدة، وبرز دور الصين كقوة ثانية مهيمنة في العالم، وتطورت أدوار بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، سواء ضمن تحالفات وتكتلات أو على المستوى الوطني. وبالتالي، فالترويج الروسي- الصيني لفكرة “التعددية القطبية” هو محض تضليل يستند إلى الكثير من الهراء الفكري والتدليس السياسي لتحقيق مصالح آنية، حتى وإن كان المقصود بالتعددية القطبية فكرة إشاعة “الديمقراطية” في العلاقات الدولية، أو بالأحرى بين الدول “المهمة” كما تقول روسيا!!

في حقيقة الأمر، يتم الترويج لكذبة التعددية القطبية، استنادا إلى أوهام استعادة عصر روسيا الذهبي في قيادة الاتحاد السوفيتي، بكل ما كان فيه من شعارات وضلالات لم يتحقق منها أي شيء، أو في أحسن الأحوال بعض القشور. فالدور الأهم للاتحاد السوفيتي كان في حياة المواطنين الأوروبيين والأمريكيين لأنه شكَّل أداة ضغط على الأنظمة الرأسمالية الغربية في مجال الحقوق الاجتماعية والتأمينات الصحية والعديد من المزايا المعيشية المهمة. بينما كان المواطن السوفيتي يعاني الأمرين في طوابير الفراخ والفودكا والخيار المخلل. أي أن المواطن الأوروبي تمتع بفوائد “الاشتراكية السوفيتية” أكثر من المواطن السوفيتي، لأن موسكو كانت تريد إطلاق ثورة عالمية شاملة للقضاء على الإمبريالية والرأسمالية العالمية. ولكن الغرب، بما لديه من احتياطيات وأرصدة وتراكمات مالية، وبما يملك من قدرات علمية تقنية، دفع روسيا السوفيتية إلى وهم الانتصار، ووهم قدرتها على تشكيل ضغط عليه، ودفعها لتبديل أولوياتها، من حيث التنمية والرخاء والتقدم في ظل “الاشتراكية!” إلى سباق التسلح والتورط في نزاعات مسلحة في أماكن مختلفة وغزو دول مثل المجر وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان.

اليوم تحاول روسيا استعادة أمجاد “الحرب الباردة” والوعود بالتنمية والرخاء والقضاء على الرأسمالية العالمية للتغطية على صعود التطرف القومي والأفكار الفاشية لديها. إن النخب القومية الروسية الحاكمة تحاول إقناع العالم كله، بما في ذلك مواطنوها، أن الحرب على أوكرانيا، أو غزو أوكرانيا، هما استعادة العصر الذهبي للبشرية إبان أكذوبة “القطبية الثنائية”، واستعادة أحلام التنمية والعدالة الاجتماعية والانتصارات القومية. إن هذا الطرح لا يجرد الأمور فقط، وإنما يفرغها أيضا من مضامينها. إن الآلة الدعائية لأكذوبة “التعددية القطبية” وتآمريتها تداعب أحلام الفقراء، وطموحات المغامرين، وأطماع النظم والنخب الفاشية بشعارات قديمة مثل العالم، وبنماذج سابقة فاشلة يحاولون فيها التغطية على القمع والاستبداد والفقر الذين صاحبوا هذه النماذج.

إن تعبيرات “الثنائية القطبية” و”التعددية القطبية” ما هي إلا صور ذهنية مباشرة للتغطية على فكرة أهم تتمحور حول “منطق السيادة” و”حدود المشاركة”. هذه الفكرة تأكدت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وصعود الصين ليس كقطب اشتراكي، وإنما كقطب رأسمالي يحكمه حزب شيوعي! وفي الواقع، لم تصبح الولايات المتحدة قطبا أحاديا على الإطلاق بعد انهيار أكذوبة “الثنائية القطبية” بانهيار الاتحاد السوفيتي. كل ما في الأمر أن “منطق سيادة” المنظومة “الإمبريالية العالمية” المتمثلة في الولايات المتحدة، هو منطق سيادة “نظامها الاقتصادي” و”نمط إنتاجها” عبر إجراءات وابتكارات مهمة على رأسها العولمة الاقتصادية، وصعود الرأسمالية المتوحشة في روسيا وظهور الوجه الرأسمالي الإمبريالي للصين. هنا ساد منطق المنتصر الذي لا يستغنى إطلاقا عن “الشركاء” وليس الأقطاب. هنا توجد قوة ذات “منطق سائد” وإلى جابها شركاء كل منهم بقدر حجمه الاقتصادي أو العسكري أو السياسي أو العلمي- التقني. لكنها ليست أقطابا إطلاقا بالمعنى الذي تريد روسيا أن تروج له من أجل مصالح قومية حصرية لا علاقة لها بأوهام الأنظمة والنخب والتنظيمات التي تستقطبها، ولا بأحلام بعض المثقفين والأشخاص السذج والمغامرين الذين يعيشون الماضي على أمل استعادته واستعادة عصوره الذهبية.

إن الجبروت الاقتصادي والعسكري والعلمي التقني للولايات المتحدة يؤكد، على الأقل حتى الآن، أنه لا يوجد طرف آخر يجمع بين هذه العناصر الثلاثة غير الولايات المتحدة. وبالتالي، فالصراع ليس على تعدد الأقطاب والتعددية القطبية، وليس على أكذوبة “القطب المعارض” أو “القطب المكافئ”، الأمر يتلخص في سيادة وهيمنة نمط إنتاج اقتصادي يتضمن العناصر الثلاثة المذكورة أعلاه مجتمعة. غير أن الأهم والأخطر هو نمط الإنتاج الاقتصادي المسيطر والمهيمن والذي يعتبر هو “القطب الحقيقي”. إن هذا يفسر لنا ما حدث من تحولات في السنوات الأربعين الماضية، وكيف انتقل العالم إلى نمط إنتاج اقتصادي معين تقوده الولايات المتحدة، وبات أهم أهداف الدول “الكبرى” الأخرى “مشاركة” الولايات المتحدة في هذا النمط، حتى وإن كان ذلك تحت دعايات وأكاذيب معارضتها والوقوف أمامها كقطب مكافئ أو مساوي.