كثيرةٌ هي الأوصاف التي يطلقها البعضُ على البعضِ، فتترسخ بمرور الأيام كأنها حقيقة لا تقبل نقضًا ولا حتى نقدًا، وهي تكتسب مزيدًا من الرسوخ بأن يغض الموصوف طرفه عنها دليلَ رضًا ومُباركة إن لم يكن هو شخصيًا مصدرها والمنبع، ليضحى الوصف بهذا المفهوم هو إنعكاس لرؤية الموصوف عن نفسه.
في الوقت الذي كانت هناك “السلطانة” وكان هناك “مطرب الملوك والأمراء”، اختار صاحبنا الذي غادَرَ في العاشر من سبتمبر الحزين منذ تسع وتسعين عامًا، لنفسه وصفًا مختلفًا ليُذَيل به توقيعه الخالد: السيد درويش البحر “خادم الموسيقى”.
تُعَرَّف الخدمة في اللغة العربية باعتبارها تقديمًا للمساعدة أو المنحة، أو توفير عناية لجهة محددة أو لعموم الناس. ويعني مفهوم الخدمة إصطلاحًا: قيام الإنسان بنشاطٍ ما لصالح غيره من الأفراد أو الجمهور. فما بالك بطبيعة الخدمات التي أداها صاحبنا لجمهورٍ مازالت تتسع امتداداته عبر الزمن.
اتسمت خدمات صاحبنا بطابع إنسانيٍ كَونيٍ شامل اكتسبته من أصالة المَنبت، فتَعَدت بموجبه حدود المكان وكأنها شعلة النار المقدسة التي هَبَطت الدَرَج الفاصل بين كوم الدكة وشارع فؤاد، مَارةً بشارع صفية زغلول صوب البحر الوسيع، ليزداد حضورها وَهَجًا في حلب وبيروت والقدس وعَمَّان والكويت شرقًا، مرورًا بتونس والجزائر، ثم أوروبا وأمريكا غربًا.
أتذكر بإحدى السهرات في عاصمةٍ خليجية حَلَلتُ فيها ضيفًا على صديقٍ -رَحِمَه الله- وقد كان من أعرق عائلات الشهباء حَلْب، أن صَال أحد المطربين الشباب وجَال ما بين القدود الحلبية والأدوار والموشحات إلى أن وصل إلى موشحٍ لم أسمعه من قبل، وهو “يا صاحب السِحرِ الحَلال”، وقد ظننته من ألحان عبقري الموشح المرحوم “عُمر البَطْش” الذي يفخر الحلبيون به فخرًا عظيمًا، فلما سألت مُضيفي -رَحِمَهُ الله- عن صاحب اللحن، ابتسم قائلًا: “لا لا خَيْو، عَن جَدْ ما بتعرِف؟ هادا لحن صاحبك الشيخ سيد”، فأُسقِط في يدي وأنا الذي كنت أزهو بكوني -باعتبارات وَلَهِ المحبة واستحقاقاتِ سَعى البحث- مُحيطًا بِقدْرٍ لا بأس به من العِلم بتراث الشيخ من الموشحات على وجه التحديد.
امتدت السهرة حتى الصباح، حيث استمر المطرب الشاب بعدما عرف بما دار بحواري مع مضيفي في وصلة خصصها لبعضٍ من موشحات الشيخ من “ألا يا مَن سَلَب عقلي، وصحت وجدًا يا ندامى، وهل على الأستار هتك، و يا عُذيب المرشف، ومُنيتي عَزَ اصطباري، وأيا مُرادي، وأهوى قمرًا سهامه عيناه، وحَير الأفكار، وسَل فينا اللحظ هِنديا”.
في بيروت، دار بيني وبين ساحِر “إهدِن” الموسيقار الكبير “سامي حواط” حوارٌ حول أعمال كبار الشعراء المصريين بيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد وصلاح جاهين وزين العابدين فؤاد ونجيب سرور، ثم تطرق الحوار إلى الشيخ إمام وعدلي فخري، فكان أن سألته وماذا بشأن “الشيخ سيد”، فإذا به يَرُد قائلًا: “ولَك يا زَلِمِهِ شو بدك يَانِي قُول، هيدا أسطورتكم ياللي نحنا هون بلبنان بنفخر فيها”، ثم انبرى في شرحٍ تقني مستفيض لفضل الشيخ سيد في تجديد التركيب البنائي للحن العربي حين أخرجه من الطرب البحت دون داعٍ إلى ما يرقى لمستوى ريتشارد فاجنر في الموسيقى الكلاسيكسة، مُدَلِلًا على ذلك بنشيد “أنا المصري كريم العُنصرين، بَنيت المجد بين الإهرمين”.
بقلبِ عَمَّان القديمة، حيث كان يحلو لى التسكع في أزقتها التي تشبه تجاعيد الزمن على وجوه نشامى الشيوخ من بني هاشم، دخلتُ مكتبةً ذَكَرَتْني بمكتبات سور الأزبكية أيام الشباب، لأجد بها رُكنًا قصيًا حَوى أسطواناتٍ اصفَرَّت أغلفتها الورقية وإن حَظِيت بعناية لا تلمح معها ذرةً واحدةً تعتريها من تُراب. تَوَجهتُ صوب هذا الركن لأجد كنزًا حرص صاحب المكتبة الثمانيني العجوز على استعراض محتوياته بفخار.
حدثني عن أسطوانات أشار إليها بأصوات محمد عثمان وصالح عبد الحي وزكريا أحمد، ثم توقف أمام مجموعة أخرى في إجلالٍ يليق، قائلًا: “يا عمي هَادُول كانوا لَبَيي (لأبي) اشتراهُن لما كان بْسَافِر بالقطار من القدس للقاهرة، تركنا إشيا كتير لما تْهَجرنا، إلا مفتاح بيتنا وهادول الأسطوانات، هادول بصوت الِمعَلِم ياللي ما بتشوفوا مِتلُه، والله تستاهل يا قلبي، يا فؤادي ليه بتعشق، الحبيب للهجر مايل، ضيعت مستقبل حياتي، أنا عشقت، أنا هويت وانتهيت. إذا بِدك بْسَجِل لك يَاهُن على شرايط (نعم، من زمن شرائط الكاسيت أنا) بس ما ببيعُن مِتِل ما ببيع مفتاح بيتنا”.
بحفل افتتاح قاعة سيد درويش في العام 1967، قام المؤلف الموسيقى اليوجوسلافي (وقت أن كانت هناك دولة تسمى يوجوسلافيا) “بوريس باباندوبلو” بتقديم “المارش العربي” الذي صَاغَه على لحني “اقرأ يا شيخ قفاعة” و”بلادي بلادي” ليستمع العالم لإعجازات الشيخ بصيغة أوركسترالية أظن -وليس كل الظن إثم- أنه لو أتاح القدر له من العمر مزيدًا، لفعلها هو شخصيًا على نحو أفضل مما أتى به اليوجوسلافي الكبير. منذ بضعة أعوام وعلى ساحل سان فرانسيسكو بأقصى غرب العَالَم، قام فريق موسيقي ضم عازفين هواة من المهاجرين من لبنان وفلسطين بتقديم حفل غنائي لموسيقى بلادهم فكانت “ع النْدَّة والميجانا والعتابا ويا بو الزلف” و”وين عا رام الله ويا طَلة خيلنا وحيفا عربية” ثم “الحلوة دي قامت تعجن، وسالمة يا سلامة والقلل القناوي وأهو ده اللي صار وكان الخِتام المِسك هو بلادي بلادي”.
اللافت في هذا الحفل، بالإضافة طبعًا إلى أن اللبنانيين والفلسطينيين اعتبروا أعمال الشيخ ضمن تراثهم الشعبي، وهذا محل تقدير عظيم الشأن، هو تجاوب الحضور من ذوي الأصول غير العربية مع ألحان الشيخ، فكانوا يرددونها أثناء أداء الفريق دون الكلمات -بالطبع- وإن فهموا مضامينها من خلال ترجمةٍ بالإنجليزية قُدِمَت لهم في نشرةٍ مطبوعةٍ قبل الحفل.
هكذا امتدت أعمال خادم الموسيقى التي تجاوزت الـ 427 لحنًا بين القصائد والموشحات والأدوار والطقاطيق والمونولوجات والديالوجات والمواويل والأناشيد والألحان الوطنية، أنجزها فقط في سبع سنوات، لتسرى عَبر الزمان والمكان، فهكذا تُخَلَدُ الخدمات وهكذا يبقى صاحبها “سيدًا” وتاجًا فوق الرؤوس.