اتخذت مصر أخيرًا موقفًا مفاجئًا ابتعدت به كثيرًا عن الموازنات، عندما قررت سحب اعترافها بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وانتهت صلاحيتها رسميًا في يونيو/ حزيران الماضي، بنهاية الاتفاق السياسي الذي جاءت بموجبه. ففي الثامن من سبتمبر/ أيلول الجاري انسحب وفد مصر برئاسة وزير الخارجية، سامح شكري، من الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة 158 لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري بالقاهرة، مع تسليم رئاسة الدورة لوزيرة خارجية حكومة الوحدة نجلاء المنقوش. وهو الموقف الذي أثار الكثير من التساؤلات بشأن التحول الحاد في موقف القاهرة، وتبعات ذلك على المصالح المصرية في ليبيا، التي لا تزال حكومة الدبيبة تتحكم في قطاع كبير منها.

وما يزيد من التساؤلات بشأن الموقف المصري الأخير، هو أنه جاء في توقيت أعادت فيه قوى عربية وإقليمية بوصلتها تجاه الأزمة الليبية بشقيها الغربي والشرقي. وهو ما ظهر في مواقف تركيا وقطر والإمارات الأخيرة. كما جاء في الوقت نفسه الذي تتبنى فيه القاهرة مقاربة بين المجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري -المحسوب على المنطقة الغربية- ومجلس النواب برئاسة المستشار عقيلة صالح شرقي البلاد. ذلك من أجل التوصل إلى القاعدة الدستورية التي تقود إلى الاستحقاقات الانتخابية المعطلة.

من التقارب للابتعاد

في السادس عشر من سبتمبر/ أيلول 2021، وقعت مصر مع حكومة الدبيبة نحو 14 اتفاقية، قُدر إجمالي قيمتها بنحو 33 مليار دولار وقتها. كان ذلك على هامش زيارة الدبيبة إلى مصر، والتي جاءت بدعوة رسمية، ومثلت حينها تحولًا كبيرًا في الموقف المصري تجاه الغرب الليبي.

ومنذ مارس/ آذار الماضي تتنافس على السلطة في ليبيا حكومتان: واحدة مقرها في طرابلس يقودها عبد الحميد الدبيبة، وأخرى بقيادة فتحي باشاغا يدعمها المشير خليفة حفتر في شرق البلاد.

الدبيبة خلال لقائه الرئيس عبدالفتاح السيسي، في 18 فبراير/ شباط 2021
الدبيبة خلال لقائه الرئيس عبدالفتاح السيسي، في 18 فبراير/ شباط 2021

اقرأ أيضًا: الإمارات في ليبيا.. اللعب على التناقضات من أجل السيطرة

وبالنظر إلى انتهاء ولاية حكومة الدبيبة في يونيو/ حزيران، وفقًا لخارطة الطريق، عيّن البرلمان في طبرق باشاغا رئيسًا للوزراء في فبراير/ شباط. فيما تمسك الدبيبة بعدم تسليم السلطة التنفيذية إلا لحكومة تأتي عبر الانتخابات.

كان مقررًا أن تشهد ليبيا انتخابات رئاسية وتشريعية في ديسمبر/ كانون الأول 2021 تتويجًا لعملية سلام رعتها الأمم المتحدة، بعد أعمال عنف في 2020، لكن حتى اليوم، يبدو أنه لا يوجد اتفاق سياسي متماسك يلوح في الأفق لإجراء هذه الانتخابات وإنهاء المرحلة الانتقالية المستمرة منذ 11 عامًا مرت على سقوط نظام معمر القذافي. الأمر الذي يزيد احتمالية اندلاع النزاعات مجددًا.

وقد رحبت مصر، التي دعمت من قبل المشير حفتر، بقرارات البرلمان الليبي في شباط/ فبراير الماضي، وعلى رأسها تولي باشاغا الحكومة. وأكدت في بيان لوزارة الخارجية أن “مجلس النواب الليبي هو الجهة التشريعية المنتخبة، والمعبرة عن الشعب الليبي، والمنوط به سن القوانين، ومنح الشرعية للسلطة التنفيذية، وممارسة دوره الرقابي عليها”.

استدارات تستثمر بالمتغيرات

منذ مطلع العام الجاري، شهدت الأزمة الليبية تغيرات في خارطة التحالفات السياسية والعسكرية داخلها. وقد ارتبطت هذه التحالفات مباشرةً بالمصالحات والمقاربات العربية والإقليمية. وكان من بينها المصالحة العربية بين قطر من جهة والرباعي السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة أخرى. وكذلك المقاربات التي تمت بين تركيا ودول الخليج وعلى رأسها الامارات والسعودية.

ومثل تقارب العلاقات بين تركيا والإمارات، وزيارات ولي العهد محمد بن زايد (في هذا الحين الآن أصبح رئيسا للدولة) إلى أنقرة في نوفمبر/ تشرين الثاني، التي تلتها زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأبوظبي في فبراير/ شباط تحولًا مهمًا في الأحداث، مقارنة بالعامين السابقين، حين كانت الدولتان تقفان على طرفي نقيض في النزاع الليبي.

الإمارات

وعلى وقع ذلك التحول، تسربت الأنباء بشأن رعاية أبوظبي اتفاق غير معلن بين حفتر والدبيبة، الممثل لمعسكر الغرب والمناوئ للإمارات في فترة سابقة. وأكد هذه التسريبات تعيين فرحات بن قدور -المقرب من قائد الجيش الليبي في الشرق- رئيسًا للمؤسسة الوطنية للنفط، خلفًا لمصطفى صنع الله -المقرب من أنقرة- فبدا واضحًا الانفتاح الإماراتي على غرب ليبيا، في معادلة جديدة، سعت أبو ظبي لتطبيقها في التعاطي مع الأزمة الليبية.

في المقابل، وأمام انسحاب مختلف الدول المؤثرة في الملف الليبي، في ظل انشغال روسيا بالحرب على أوكرانيا، وعدم تحمّس الولايات المتحدة، والموقف المصري المفاجئ، تحوّلت تركيا إلى قبلة للمسئولين الليبيين الباحثين عن جهة دولية قادرة على جمعهم والاستماع إليهم وفرض التسوية.

تركيا

وقد انفتحت تركيا بشكل كبير على معسكر شرق ليبيا، الذي كانت تحاربه عسكريًا عبر دعمها قوات حكومة الوفاق الوطني إبان الحملة العسكرية التي نفذها حفتر على العاصمة طرابلس، فأعلنت أنقرة إعادة فتح قنصليتها في بنغازي.

وأخيرًا، تحولت تركيا إلى قبلة لزيارات المسئولين الليبيين من مختلف الاتجاهات، بعدما كان التراشق بينها وبين قادة معسكر الشرق شبه يومي. فخلال الأسبوع الماضي فقد، زار طرفا الأزمة ممثلان في الدبيبة وباشاغا تركيا، في أعقاب المواجهات الدامية التي شهدتها العاصمة طرابلس نهاية أغسطس/ آب الماضي. وكانت تلك الزيارة بعد أخرى مماثلة لكل من خالد المشري وعقيلة صالح.

اقرأ أيضًا: كيف تغيرت موازين الصراع في ليبيا بعد مغامرة باشاغا؟

كشفت الزيارتان المتزامنتان للدبيبة وباشاغا أن تركيا صارت تمسك بملف الحل السياسي في ليبيا، وأن الملعب مفتوح أمامها لضبط توليفة حل يراعي مصالحها، خاصة وأن طرفي الأزمة محسوبان عليها، وإن كان أحدهما الآن مدعوما من الشرق الليبي.

وذهب البعض إلى أن تركيا التي أفشلت محاولة دخول باشاغا إلى العاصمة طرابلس والسيطرة عليها بالقوة عبر توظيف الطيران المسير التركي، فيما بدا كأنه انتصار للدبيبة، تريد أن تستقبل الطرفين وهما في وضع العاجز عن فرض أي خيارات دون اللجوء إليها. خاصة باشاغا الذي تحالف مع حفتر، ويحظى بدعم مصر وفرنسا.

قطر

بينما كان وفد مصر ينسحب من اجتماع الجامعة العربية اعتراضًا على تمثيل حكومة الدبيبة، كانت طائرة رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة تحط في الدوحة، الخميس الماضي، للقاء أمير قطر تميم بن حمد.

لم يمر سوى يومين، حتى وصل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والقائد العسكري في قوات شرق ليبيا بلقاسم حفتر، نجل خليفة حفتر، إلى الدوحة، في زيارة قال عنها عضو مجلس النواب الليبي عبد المنعم العرفي، إن الهدف منها “إنهاء الخلاف” بين الجانبين، متوقعًا أن تبدأ الدوحة بلعب دور الوسيط بين الفرقاء الليبيين خلال الفترة المقبلة. فلسنوات مضت، اتهم مجلس النواب الليبي، الحكومة القطرية بتمويل الجماعات المسلحة المناوئة لعقيلة صالح ولقوات حفتر.

الأبواب المواربة واجب

لمصر مصالح متعددة في ليبيا، على رأسها البعد الأمني الخاص بالحدود الغربية، التي تمثل عمقًا استراتيجيًا للقاهرة. ذلك بخلاف أن ليبيا تمثل سوقًا عربيًا كبيرًا للعمالة المصرية، في الوقت الذي تتجه فيه كثير من دول الخليج للاعتماد على العمالة المحلية بدلًا من الأجنبية.

يقدر حجم ما يمكن أن تستوعبه ليبيا من العمالة بنحو 3 ملايين عامل في التخصصات كافة.

أيضًا، يُنظر إلى ليبيا باعتبارها أحد الحلول للأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر حاليًا، بالمشاركة بحصة كبيرة في عملية إعادة الإعمار. وهو ما يفرض على صانع القرار المصري ضرورة إيلاء قدر كبير من الدراسة تجاه المواقف إزاء ما يجري في هذا البلد شديد الصلة بنا. على أن تكون تلك المواقف مصحوبة بالتأني الذي لا يمنح الفرص المجانية لمنافسي مصر في الإقليم، لتوسيع نفوذهم على حساب النفوذ المصري.

من هذا المنطلق، فإن على القاهرة ألا تغلق أفق التواصل مع أي من أطراف المشهد الليبي، وأن تتبع سياسة “الأبواب المواربة” مع الأطراف كافة، وأن تستعيد حلفاءها في شرق ليبيا الذين بدأوا في النزوح التدريجي نحو قطر وتركيا التي تتبنى نهجًا سياسيًا مختلفًا. وقد نجحت في جمع الكثير من الأطراف على طاولتها، بما يسهل نسيان تجاوزات دورها العسكري، ويساعدها في توسيع دورها الفترة المقبلة.

الشرق والغرب

ليس وحده سعي المنافسين لتوسيع نفوذهم في ليبيا على حساب المصالح والنفوذ المصريين، هو ما يحتم على القاهرة تبني سياسة متوازنة. ولكن أيضًا فقدان الأطراف الليبية القدرة على الحسم. ففشل ما خطط له باشاغا من دخول العاصمة أربعة مرات منذ صدور قرار تعيينه من مجلس النواب في فبراير/ شباط الماضي، يمكن أن يكون أثره سلبيًا جدًا عليه. فمن المحتمل أن يخسر بعض حلفائه ضمن جبهة طبرق-الرجمة، ويمكن قراءة تصريح الناطق باسم القيادة العامة للجيش التابع لمجلس النواب والذي يترأسه خليفة حفتر، من أن قيادة الجيش لم تشارك في العملية العسكرية ولم تكن طرفًا فيها، في سياق الأثر السلبي للعملية على باشاغا وحكومته.

كما كان موقف عدد من أعضاء مجلس النواب صريحًا في القطع بأن باشاغا، كرئيس حكومة، قد فشل وانتهى دوره، كما ورد على لسان النائب، علي التكبالي، وأن المجلس قد يعيد النظر فيه وفي الحكومة، كما صرَّح بذلك النائب عبد المنعم العرفي.

وفي المقابل، تنفس الدبيبة الصعداء بعد انتصاره في الجولة الرابعة، وهذا سيكسبه مزيدًا من القوة بين أطراف غرب ليبيا السياسية والعسكرية. كما سيعزز من موقفه أمام الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في الشأن الليبي. خصوصًا أنه على استعداد للتعاون مع الجميع ولا موقف سياسي أو أيديولوجي له حيال علاقات ليبيا مع الخارج.

وإن كان التحدي الرئيسي أمامه يظل في بسط نفوذه على كامل التراب الليبي كشرط للإشراف على الانتخابات. وهو السيناريو المحتمل دومًا في حال تغير موقف الرجمة منه، أو تدخل طرف له كلمة نافذة بمعسكر الشرق.