يكشف الخطاب الدوري لرئيس البعثة الأممية في السودان والموجه للأمين العام للأمم المتحدة عن عمق الأزمة التي يعيشها السودان حاليا، حيث يقول فولكر بيرتس إن الحل السياسي في السودان تتلاشي فرصه، وأن البلاد بلا حكومة منذ فترة طويلة بينما يتدهور الاقتصاد وحياة الناس معا.

فولكر دعا المكون العسكري لتقديم تنازلات، ودعا المكون المدني لبلورة توافق سياسي قبل أن ينفرط عقد الدولة.

المشهد الذي يرصده بيرتس يعد تحذيرا قويا من رجل يعايش حالة التراشق السياسي السوداني منذ أكثر من عام بينما كانت مهمته المستدعي إليها من جانب رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك هي حماية تحولا ديمقراطيا كان مأمولا إنجازه خلال الفترة الماضية.

ويبدو أن خطاب بيرتس يطرح أسئلة بشأن موقف الأطراف السودانية السياسية والعسكرية الراهن من حالة الانسداد السياسي، ومدي استعداد كل طرف لتقديم أي نوع من التنازلات للخروج من نفق يهدد مستقبل البلاد وربما يدخلها في صراعات مسلحة واسعة النطاق، بعد عدد من البروفات لهذه المواجهات العنيفة التي تمت على أسس قبلية في ولاية النيل الأزرق ودارفور، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

علي المستوى السياسي هناك إعادة تموضع في القوى المدنية قد يقود إلى متغيرات جوهرية في أوزان القوي بين المكونين المدني والعسكري لصالح الأول في حال تحوله إلى موقف عام للجان المقاومة خلال الفترة المقبلة ذلك أن عددا من لجان المقاومة الشبابية تقترب من عشرة في ولاية الخرطوم قد أعلنت عن موقف جديد لها وهو قبول التنسيق مع القوي السياسية والنقابية الديمقراطية، وهو تطور طالما نادينا به طوال الفترة الماضية، من شأنه أن ينهي خصومة سياسية كان لها تجليات في الشارع بين لجان المقاومة والقوي الشبابية، تأسست على قبول السياسيين في مرحلة ما شراكة مع المكون العسكري.

وربما يكون تحرك الحزب الشيوعي تجاه قوى سياسية أخرى مؤشرا إيجابيا، ذلك أنه يزيد من وزن القوى المدنية في المشهد السياسي، كما أنه يقلل من حدة التطرف لدى بعض تنسيقيات لجان المقاومة ويضمن انضمامها لحالة التوافق الأولية هذه، وهو ما يعني في الأخير تقليل حدة الاستقطاب السياسي الداخلي في السودان.

وفي هذا الإطار أعلن القيادي في الحزب الشيوعي صديق يوسف، أن “الحزب بصدد عقد لقاءات مع حزب الأمة وحركة حق للتشاور حول الأزمة السياسية، وذلك دون تنازل عن إقامة دولة مدنية كاملة تضمن عودة الجيش إلى الثكنات مع حل قوات الدعم السريع بزعامة حميدتي، والنقطة الأخيرة هي من الأهمية والخطورة بحيث لابد وأن يطرح بشأنها الحزب الشيوعي آليات محددة وخطاب مفصل حتى لا يكون ذلك بوابة الجحيم التي قد تنفتح على السودان وأهله.

حالة الانقسام لم تبارح بعد المشهد السياسي السوداني بعد، خصوصا فيما يتعلق بمسألة التوافق على إعلان دستوري ينقذ المرحلة الانتقالية ويمهد للانتخابات حيث بلورت القوى المدنية الديمقراطية مشروع إعلان دستوري من 76 بندا لإدارة فترة انتقالية لعامين، وقد تأسست ملامح هذا الإعلان بناء على مخرجات ورشة عمل امتدت عدة أيام عقدتها نقابة المحامين السودانيين، الشهر الماضي، وشارك فيها طيف واسع من مكونات المجتمع السوداني وبحضور كثيف لرؤساء وممثلي البعثات الدولية والدبلوماسية.

وشملت أهم بنود الإعلان الدستوري الجديد إقامة دولة مدنية تتبع نظام الحكم الفدرالي وتنأى بالمؤسسة العسكرية عن العمل السياسي والحكم ودمج القوات العسكرية في جيش مهني واحد.

وتم تحديد مهام المؤسسة العسكرية في هذا الإعلان بالدفاع عن سيادة وحماية حدود البلاد وحماية الدستور الانتقالي وتنفيذ السياسات العسكرية والأمنية للدولة، وتنفيذ السياسات المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري وفق خطة متفق عليها من جميع الأطراف كما نصت على تبعية جهازي الشرطة والأمن إلى السلطة التنفيذية على أن يكون رئيس الوزراء هو القائد الأعلى لها.

ولعل أهم نقاط هذا الإعلان هو التوافق على (وجود مجلس أعلى للقوات المسلحة ومجلس للأمن والدفاع يكون برئاسة مدنية ومجلس سيادة مدني ومجلس وزراء من كفاءات وطنية مستقلة، وكذلك مراجعة اتفاق جوبا للسلام الموقع في أكتوبر 2020، وصولا إلى سلام عادل يشمل جميع الحركات غير الموقعة، وهو الأمر الذي قد يعني مد الجسور مع كل من عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور في كل من أعالي النوبة ودارفور بما قد يمهد -على نحو ما- لإعادة ترتيب المشهد السوداني برمته.

الإعلان اتخذ موقفا مبدئيا من نظام البشير ونعته بنظام الإخوان بما يضع التحالفات مع عناصر النظام القديم من جانب أي من أقسام المكون العسكري في حالة حرج بالغ، وخصوصا وأن حضور الورشة المنبثق عنها هذا الإعلان كان حضورا دوليا، وأن التأييد من جانب رموز تحالفت مع المكون العسكري قد بدأ التعبير عنها مثل موقف رئيس لجبهة الثورية الهادي إدريس عن دعمهم لمشروع الدستور الانتقالي المعد من اللجنة التسييرية لنقابة المحامين.

اقرأ أيضًا: في السودان: هل يمكن النجاة من اتساع دائرة العنف؟

في المقابل فإن قوى التوافق الوطني بزعامة جبريل إبراهيم والتي تضم عددا من الحركات المسلحة بينهم حركة العدل والمساواة، إضافة إلى زعماء عشائر وقبائل، طرحت مؤخرا إعلانا دستوريا تحدث عن تقاسم السُّلطة مع قادة الجيش، وهو الأمر الذي يعني أنه مطلوب مزيد من الجهد الإقليمي والدولي لبلورة وحدة موقف سياسي بشأن الإعلان الدستوري السوداني.

الجهود الخارجية:

ربما يكون مشهد استلام السفير الأمريكي لمهامه بعد خلو هذا المنصب لثلاثة عقود تقريبا مؤشرا على مجهود أمريكي مميز في المرحلة القادمة لإقرار حل سياسي في السودان، خصوصا وأن هناك شراكة معلنة بين واشنطن والرياض في إطار آلية كانت رباعية وكانت تضم كل من دولة الإمارات وبريطانيا ولكن تم إعلان انسحاب الأولى، بينما لا يبدو أن هناك دورا بريطانيا نشطا.

وبطبيعة الحال لا تبدو مهمة الوصول إلى بلورة توافق بين الأطراف السودانية سهلا أمام العاصمتين المتبقيتين في الآلية الرباعية خصوصا وأن الجلسة المتفق عليها للتوفيق بين الأطراف السودانية مؤخرا قد انسحبت منها قوى الحرية والتغيير (المركزي) بعد اكتشاف أن القوى المتحالفة مع المجلس السيادي (التوافق الوطني) مدعوة لذات الجلسة وذلك بسبب طبيعة الدور التمهيدي الذي قامت به قوى التوافق الوطني في ٢٥ أكتوبر الماضي

إجمالا يبدو أن توازنات المشهد السياسي السوداني حرجة حتى هذه اللحظة، وأن نضج الظرف الموضوعي للتوافق السياسي مازال بعيدا نسبيا وسوف يكون رهن بعدد من الشروط منها إنهاء حالات انقسامية داخل بعض الأحزاب السياسية الكبرى كحزب الأمة بشأن طبيعة الانحيازات المبدئية للتحول الديمقراطي، أو القفز على تشظي الحزب الاتحادي بين أصل وفروع، وكذلك دعم اتجاهات الحزب الشيوعي في حركته إزاء القوى السياسية الأخرى وربما يكون التوافق بين لجان وتنسيقيات المقاومة الشبابية والقوى السياسية والنقابية الديمقراطية بداية الطريق نحو استعادة المكون المدني لوزنه المفقود خلال العام الماضي بما يجعله وازنا في المعادلة السياسية لحد يقود إلى توافق مأمول.