كتب-عبد الوهاب شعبان
اضطرت “ش.ع” -معلمة بالأزهر- إلى نقل أبنائها الثلاثة من مدارسهم التجريبية لمدرسة حكومية بعد أن أثقلها التضخم مع ثبات الدخل.
الأم التي لم تُخفِ حزنها على تبدل مواقع الأبناء وتأثرهم النفسي بترك زملاء دراستهم ردّت نزول أسرتها إلى “طبقة أقل” إلى ارتفاع أسعار الدروس والملخصات واشتراكات أتوبيس المدرسة. فضلا عن تحمل الأسرة أعباء مضافة كملابس الأطفال ونوعية الأطعمة المعتادة داخل البيت. لكنها رغم تبدل أوضاع أسرتها لم تكن تتوقع تأثر الابن الأصغر “آدم” بانتقاله لمدرسة ابتدائية حكومية ذات كثافة عالية في الفصول. من ناحية انطوائه طوال الوقت وشعوره باغتراب تسعى الأسرة لعلاجه على مراحل.
الأبناء يسددون ضريبة التضخم
ويتوزع الأبناء -حسب روايتها- على مراحل التعليم الأساسي “ابتدائي وإعدادي وثانوي”. الابنة الكبرى بعد أن أمضت دراستها الابتدائية والإعدادية بمدرسة تجريبية ألقت بها الظروف العام الماضي لمدرسة حكومية تختلف اختلافًا جذريًا عما اعتادت عليه. والابن الأوسط “محمد” انتقل إلى “مدرسة إعدادية حكومية”. وبدا عليه انعدام التوازن في عامه الأول نظير مفارقة أصدقائه القدامى. إضافة إلى أن الأسرة قللت معدلات الرفاهية واكتفت بفسحة واحدة سنويًا بعد أن اعتاد الأبناء زيارة معالم القاهرة خلال فترة الدراسة شهريًا.
تروي معلمة الأزهر لـ”مصر360″ أنها على انتمائها للطبقة الوسطى شعرت بما أصاب هذه الطبقة من تأثر بموجة التضخم الحالية. لافتة إلى أن التأثر بدأ تدريجيًا منذ سنوات بتنازل الأسرة عن ثوابت يومية تمس الطعام. وموسمية تمس ملابس الأبناء والترفيه.
ومع تزايد الأسعار رضخت الأسرة -حسب قولها- إلى التخلي عن الادخار الشهري كعمود تقيم عليه الطبقة المتوسطة ميزانيتها السنوية خشية تعرضها لمفاجآت حياتية كالمرض والمواقف الطارئة.
وتشهد مصر في الفترة الراهنة تراجعًا للطبقة المتوسطة هو الأكبر عالميًا بحسب الخبير الاقتصادي نادر نور الدين. حيث إن 7 ملايين مصري انتقلوا من الطبقة المتوسطة إلى طبقة الجوعى.
ويعرّف الخبير الاقتصادي “الطبقة المتوسطة” بأنهم الموظفون والتجار وأصحاب المحلات والحرف ممن تتراوح دخولهم بين 6 آلاف إلى 20 ألف جنيه. ما يعني أن الدخول دون ذلك تندرج في منطقة الطبقة الفقيرة.
مع ارتفاع أسعار الوقود وما ترتب عليه من انهيار المنظومة الشرائية للطبقة المتوسطة بسبب الغلاء تآكلت الطبقة الوسطى على حد قول “نور الدين”. لافتًا إلى أن أي زيادة في الأسعار تؤثر في الإنفاق والدخول وتحيل أبناء هذه الطبقة إلى طبقة أقل.
“التعليم”.. وجع الطبقة الوسطى المزمن
وينعكس تردي الطبقة الوسطى إلى أدنى مستويات التصنيف الطبقي على التراجع في أولويات ثابتة لديها. من بينها مثلًا الاقتصاد في شراء الملابس. فضلا عن الاكتفاء بقطعة واحدة للفرد مثلًا في فصلي الشتاء والصيف”. إلى جانب تعثر استمرار الأبناء في المدارس الخاصة وتقليل نسب الأطعمة الصحية داخل الأسرة.
إلى ذلك ومع هشاشة أصابت أصحاب الدخول الثابتة مع ارتفاع تكلفة السلع تزايدت -حسب “نور الدين” أمراض سوء التغذية والتقزم الذي يظهر بوضوح في الطبقات الفقيرة.
واستطرد: “إلى جانب ظهور أمراض السمنة لدى الأطفال تزايدت في الريف نسب تسرب الأطفال من التعليم لعدم مقدرة الأسر على نفقات الدروس وباقي المطالب”.
ومع تحول أولويات الطبقة الوسطى في الإنفاق على تعليم أبنائها مع تقليل ميزانية أولويات أخرى داخل الأسرة ارتفعت أسعار القبول بالجامعات الخاصة والأهلية. لذلك لجأ “ع.ص” -موظف بشركة قطاع عام ومن سكان الجيزة- إلى إلحاق ابنته الحاصلة على 90% في الثانوية العامة -علمي- بكلية التمريض جامعة القاهرة. وقال لأنها البوابة الأضمن لحصولها على فرصة عمل سريعة وأكيدة دون حاجة لمزيد من المصروفات شهريًا أو سنويًا.
“ع.ص” الذي يعول أسرة من 5 أبناء “3 بنات وولدين” بمراحل التعليم المختلفة بدخل لا يتجاوز 5 آلاف جنيه لم يعد قادرًا على عمل إضافي بعد بلوغه سن الخمسين. إذ يستعيض عن ذلك بتقليل نفقات الأسرة في بنود الملابس والترفيه على حساب توفير ما يمكن لفواتير الكهرباء والمياه المتصاعدة بمتوالية ضاغطة على كاهل الطبقة الوسطى. وتكليف ولديه بالعمل خلال فترة الإجازة لادخار ما يمكنهما من امتلاك مصروفات كليتي التجارة والحقوق بجامعة القاهرة –قدر المستطاع.
معاناة الأسرة حسبما يروي الموظف لـ”مصر360″ تجاوزت فكرة الإنفاق اليومي على الطعام للتفكير المزمن في كيفية تجهيز الفتيات للزواج مستقبلًا. مما دفعه إلى إلحاق ثلاثتهن بمعاهد وكلية التمريض.
سوء تغذية اضطراري.. وتخبط أولويات
تقلل الأسرة كميات اللحوم والدواجن أسبوعيًا بعد أن كانت قبل سنوات تنظم غذاءها على نحو يرتقي لدرجة التوازن. وتجعل من “النشويات” بديلا للبروتين مرتفع السعر بشكل تصاعدي نصف سنوي حسب اتفاقات التجار.
ويضيف “ع.ص” أن زيادة أسعار الوقود وما تبعها من زيادة المواصلات دفعه إلى التأكيد لأبنائه بالبقاء في القاهرة قرب جامعتهم لفترة أطول بدلًا من رجوعهم أسبوعيا ما يستلزم ميزانية خاصة.
وعن تخبط الأولويات داخل الأسرة المصرية المتوسطة قال الدكتور كريم العمدة –أستاذ الاقتصاد الدولي: “الطبقة المتوسطة هي الأكثر تضررًا من الأزمة الاقتصادية الراهنة”. مشيرًا إلى أن تآكلها –رغم أنها الأكثر إنتاجًا- يضر بالاقتصاد ويزيد معدلات الاستدانة -سواء قروض أو غيره-لمواجهة أعباء الحياة.
وأضاف لـ”مصر360″ أن رفع الدعم التدريجي عن الكهرباء والوقود تسبب في أزمات لحقت بمستوى التعليم والصحة. وأحال الطبقة المتوسطى إلى مصاف الطبقات الفقيرة.
لم تعد الأسرة المصرية المتوسطة تفكر حاليًا في “الرفاهية”. وذلك لانشغالها بحاجاتها الأساسية في ظل سعار الأسعار على حد قول الخبير الاقتصادي. حيث إن تراجع هذه الطبقة باعتبارها الأكثر قوة شرائية أحدث ركودًا عامًا. داعيًا إلى منظومة حماية اجتماعية توقف نزيف الطبقة المتوسطة.
ولم يُبدِ “العمدة” اندهاشًا من رضوخ العديد من الأسر المتوسطة لـ”نقل الأبناء” من مستوى تعليمي مناسب لمستوى أقل. رغم ما يسببه ذلك من أثر نفسي مدمر للأبناء على المدى القريب.
تفاؤل الحكومة لا يكفي
ورغم تفاؤل حكومي جاء في تقرير نشره مركز معلومات مركز الوزراء بنمو دخل الأسر المصرية “الطبقة المتوسطة” واستقرار معدل التضخم بنسبة 58% بحلول عام 2025. مقارنة بنحو 34.3% في عام 2012. ومحاولات رئيس الجمهورية في تكثيف مظلات الحماية الاجتماعية -“مبادرة تكافل وكرامة” نموذجًا- لدعم الطبقات الفقيرة في مواجهة أعباء المرحلة الاقتصادية الراهنة. ودعم السلع التموينية بقيمة تزيد على ثمانين مليار جنيه. فإن أستاذ الاقتصاد الدولي يدعو منظمات المجتمع المدني للدخول على خط منظومة الحماية الاجتماعية لمنع تآكل الطبقات الفقيرة وتحولها إلى معدومة.
وطالب “العمدة” بإعادة الدعم لقطاعات الكهرباء والمياه والوقود على الأقل للأسر المتوسطة. مع تحسين الخدمات الحكومية -خاصة الصحية في الريف المصري. الذي يعاني أبناؤه بشكل يفوق التوقعات في الحصول على الخدمات عموما.
معاناة التضخم.. ماذا يفعل الإحباط بالطبقة الوسطى؟
لا يمكن عزل أثر انكماش وتآكل الطبقة المتوسطة على الاستقرار المجتمعي. لأن هذه الطبقة على حد قول الدكتور حاتم عبد المنعم -الخبير الاقتصادي- تمثل نقطة التوازن في المجتمع. بما يعني أن زيادة الضغوط عليها يهدد الاستقرار.
وفي دراسة أعدها “عبد المنعم” فإن هذه الضغوط التي تعانيها الطبقة المتوسطة تؤدي لأمراض اجتماعية بالغة الخطورة. من بينها الانحرافات غير المتوقعة والرشوة والإحباط الذي يأتي بعد مقارنة الأسر بين طموحاتها المشروعة ودخولها الثابتة.
الخبير الاقتصادي ألمح إلى أن محاولات الحكومة المستمرة لرفع المرتبات وتوفير حزم حماية اجتماعية يقابلها في الجانب الآخر ارتفاع في أسعار الخدمات -كهرباء وماء وبنزين- مما أظهر أثرًا مجتمعيًا غريبًا تبلور في استغلال التجار وأصحاب المدارس الخاصة وقطاع من الأطباء والصنايعية. وذلك لحصد مكاسب مادية أكبر على حساب أبناء الطبقة المتوسطة.
وانتهت دراسة أعدها الخبير الاجتماعي جمال حماد –أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة المنوفية- إلى أن التضخم تسبب في عجز مُهين للأسر الفقيرة في الوفاء بمتطلباتها. لافتًا إلى أن الأسرة المتوسطة الآن لم تعد لديها قدرة على التنبؤ بمستقبلها أو التخطيط له. وذلك بسبب وقوعها في دائرة من الحرمان والتخبط. ما ينذر بكوارث اجتماعية –على حد تعبيره.
ولفتت الدراسة إلى تفضيلات الأسر الفقيرة والمتوسطة في السنوات الأخيرة إلى السكن بالإيجار وانتشار “الموتوسيكل” كوسيلة انتقال. إلى جانب الإقبال على الأثاث المستعمل في تجهيز الشقق وعزوف الشباب أصلا عن الزواج. فضلا عن ارتفاع معدلات الطلاق.
وأوضح أن تدهور الأوضاع الصحية لدى الطبقتين الفقيرة والمتوسطة نتج عن ارتفاع أسعار الكشف لدى الأطباء. ما دفع إلى لجوء قطاعات واسعة للأعشاب الطبية. وجعل “الصحة” في أولوية متأخرة بجانب اعتياد تناول الأطعمة الرديئة التي تسبب في مدى قريب الضعف والعجز.