في تقديمه لهذا الملف يوم 16 أغسطس/آب الماضي حدد الصديق العزيز النابه هشام جعفر، أوائل ستينيات القرن الماضي بوصفها بداية الأزمة البنيوية لجمهورية يوليو 1952، والعابرة لجميع طبعاتها حتى اليوم، وأوضح -بحق- أن سبب الأزمة كان تجاوز تكلفة السياسات العامة بنسب كبيرة موارد الدولة المالية، مما أدى إلى قصور معدل النمو الاقتصادي عن مواجهة تحديات الدولة، وعن تلبية توقعات القوى الاجتماعية التي شكلت العمود الفقري للنظام الجمهوري.

هذا المدخل الاقتصادي لتشخيص أزمة الدولة المصرية، ومن ثم لاقتراح (أبواب الخروج) يتفق مع إجماع أساتذة وخبراء التنمية الاقتصادية في الداخل والخارج على إدمان مصر للجمود في فئة الدول متوسطة النمو فترة أطول بكثير مما كان ينبغي، ومما كان ممكنا، فضلا عن صعوبة توقع الصعود من هذه الفئة إلى فئة النمو فوق المتوسط في أجل منظور، غير أنه -وكما أشار الصديق هشام في السطور المنقولة عنه أعلاه- فإن السبب الأصلي كان هو زيادة تكلفة السياسات العامة على موارد البلاد بنسب كبيرة، والمعنى أن السياسة تبقي هي المبتدأ، وهي المنتهى، أو أنها هي الداء وهي الدواء. ولذا أشعر بالحاجة الي شيء من التفصيل في شرح المدخل السياسي لتلك الأزمة البنيوية في كيان الدولة المصرية (الجمهورية)، دون إغفال أن الأستاذ جعفر تطرق إليها بوضوح عدة مرات، أبرزها حين قال إن دولة يوليو دأبت على احتكار التمثيل السياسي للقوى الاجتماعية، التي يعتقد النظام أنه يعبر عنها.

من المنظور السياسي سوف تكون بداية أزمة نظام يوليو 1952 أسبق من أوائل الستينيات التي شهدت بدايات الأزمة المالية/الاقتصادية، ذلك أن احتكار تمثيل السلطة للمجتمع بدأ بحسم أزمة مارس 1955 لمصلحة الجناح السلطوي في تركيبة النظام الانتقالي للضباط وحلفائهم المدنيين، بعد الإطاحة بالنظام الملكي، وإسقاط دستور سنة 1923، وهو الانتصار الذي تجلى في إسقاط مشروع دستور لجنة وحيد رأفت، وإقرار دستور 1956، الذي جمع كل السلطات في يد رئيس الجمهورية، وكان ذلك هو التقنين الدستوري لمبدأ الاحتكار السلطوي للتمثيل السياسي للمجتمع، بل لمجمل الحياة السياسية في البلاد.

ليس مهما في هذا السياق التوقف لمناقشة ملابسات وصراعات الفترة الانتقالية تلك، ومبررات هذا الطرف أو ذاك، ولا حتى تبرئة أو إدانة أحد، ولكن المهم هو النتائج التي لاتزال تحكم حتى الآن حياتنا السياسية، ومن ثم الاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية، والتي يمكن أن توصف -باختصار ودون اخلال بالمعني- بأنها حالة تطبيع للاستثناء، بوصفه هو الأصل، وهو استثناء يصادر أو يجهض التطور الطبيعي للحياة السياسية للبلاد، نحو اكتمال سعي المحكومين للتحرر والمشاركة، ذلك السعي الذي شكل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر جوهر الصراع والتطور السياسيين في المجتمع والدولة المصريين، طبقا للوصف البليغ الذي صاغه في سبعينيات القرن الماضي الدكتور وليم سليمان قلادة.

لم يكن تجاوز تكلفة السياسات العامة لموارد الدولة، والذي أشارت إليه مقدمة صديقنا هشام جعفر، بوصفه أصل أزمة مصر المزمنة ومصدرها، إلا أحد تطبيقات الاحتكار السلطوي للقرار والموارد، وهذا الاحتكار بدوره هو التطبيق العملي لما نسميه نحن بتطبيع الاستثناء، ذلك أن هذه الأزمة بدأت بتورط مصر في حرب اليمن، والتي تحولت إلى حرب استنزاف دامت خمس سنوات، فبددت ثمار الخطة الخمسية الأولى للتنمية، والتي كان يُعول عليها لتحقيق الدفعة القوية، كما حالت دون تنفيذ الخطة الخمسية الثانية، والتي كان يعول عليها لتحويل الدفعة القوية إلى تنمية مستدامة، تنقل مصر من خانة الدول متوسطة الدخل القومي إلى مصاف الدول ذات الدخل القومي فوق المتوسط، ثم الدول الغنية.

سياسيا كان قرار إرسال الجيش إلى اليمن قرارا فرديا من الرئيس جمال عبد الناصر، ولا ينفي تحمس بعض زملاء عبد الناصر في مجلس الثورة القديم للقرار طبيعته الفردية، ففي هذه الحالة سيكون الفرد الواحد هو متخذ القرار، ويكون صانعوه بضعة أفراد، في تجسيد بالغ الدلالة على الاحتكار السلطوي لصنع وتطبيق السياسات العامة، وبالطبع نعلم أن هذا تكرر بالضبط في سلسلة القرارات التي أدت إلى حرب يونيو/حزيران 1967، والهزيمة النكراء في تلك الحرب، غير أن الطبيعة الفردية الاحتكارية لصنع السياسات العامة وتنفيذها لم تقتصر في مجمل تجربة نظام يوليو 1952 على قضايا الحرب والسلام والأمن القومي بمفهومه الاستراتيجي، فقد شملت أيضا كل جوانب حياة المصريين، ومن ذلك تأميم مشروعات الرأسمالية الوطنية الصغيرة لأغراض أمنية وسياسية في العهد الناصري، وقرار الانفتاح الاقتصادي الساداتي (الاستهلاكي) وكذلك كانت قرارات دمغ وإهمال وتخسير القطاع العام، وقرارات أو سياسات إهمال التصنيع، ثم قرارات الخصخصة وبيع الأصول المستمرة حتي يوم المصريين هذا ناهيكم عن شيوع الفساد، ثم سياسات الإنفاق والاقتراض والاستدانة.. إلخ.

وبالرغم من كل ذلك فلم تبدُ الدولة في كل عهود يوليو قادرة على الخروج من أزمة قصور الموارد عن تلبية حاجاتها، أو الحد المعقول من حاجات المجتمع الاستهلاكية وخاصة الغذاء والإسكان، وحاجاته الخدمية خاصة التعليم والصحة.

في أزمة مزمنة ومستحكمة كالتي نتحدث عنها يصبح الحل هو إشراك المجتمع ككل في البحث عن الحلول وتنفيذها، ليس بالمعني السياسي المباشر فقط (وهو مهم وسنعود إليه) ولكن أيضا بمعنى حرية المبادرة الفردية، والجماعية بصيغها العديدة، من تعاونية، أو شركات مساهمة، أو عمل أهلي خيري وإنتاجي، في كل المجالات وبلا استثناء.

ولعلها مفارقة تدعو إلى الرثاء، أن المجتمع المصري الذي هُزمت ثورته الديمقراطية (العرابية)، فرزح تحت الاحتلال العسكري والسياسي البريطاني سرعان ما لجأ إلى قدراته الذاتية، فانطلق في التنظيم والعمل الأهلي الانتاجي والخدمي والتعاوني بل والتثقيفي، ليصبح قادرا بعد جيل واحد أو جيلين على تفجير ثورة حداثية بكل معني الكلمة هي ثورة 1919، أفضت هي نفسها إلى مزيد الانطلاق في كل تلك المجالات، ويكفي ذكر نماذج من تلك الإنجازات لكي نتبين بجلاء أن المجتمعات قادرة -ليس فقط- على النهوض، ولكن أيضا على أن تكون هي الرافعة للدولة من الحضيض، بشرط تحريرها من القفص السلطوي، من تلك النماذج سلسلة المدارس والمستشفيات الأهلية والخيرية التي عمت القطر، تتويجا بالجامعة الأهلية، والمشروعات الاقتصادية التي كان بنك مصر تتويجا لها، والجمعيات العلمية المتخصصة الجغرافية والتاريخية وجمعية الاقتصاد السياسي والتشريع، وجمعيات الكيميائيين والفيزيائيين وعلماء الرياضيات والأطباء بتخصصاتهم الفرعية ونوادي أعضاء هيئات التدريس الجامعية إلخ، فضلا عن النقابات المهنية والعمالية والاتحادات الصناعية، والغرف التجارية.

لقد كان تفكيك كل هذه المؤسسات، أو تحويلها إلى مسوخ شرطا لقيام السلطوية، أو إنشاء حالة الاستثناء المانعة من تطور حياة سياسية وفقا لقوانين الجدل الاجتماعي والصراع السلمي، تلك الحالة التي قلنا إنها تحولت لتكون هي طبيعة الأمور في إدراك النظام، بل وللأسف في إدراك قطاعات لا يستهان بها في المجتمع ذاته.

وإذن فإن أول أبواب الخروج لمصر والمصريين من الأزمة المستمرة لأكثر من ستين عاما هو تطبيع الحياة السياسية، وذلك لكسر القفص الحديدي حول المجتمع، وحول التطور، فتظهر وتنشط الطاقات والموارد والمواهب، على نحو ما رأينا توا في تجربة المجتمع المصري نفسه في سالف العصر والأوان. ولكن كيف؟

طبعا الوصفة المباشرة هي إطلاق الحريات السياسية في إطار الدستور والقانون، لإطلاق المنافسة بين الأفكار والحلول والبرامج، لكننا سنكون واهمين إذا تصورنا أن ذلك يمكن أن يحدث غدا، أو أنه سيتحقق بسهولة، فلابد من مرحلة انتقالية طويلة لبناء الثقة بين السلطوية وبين المجتمع، يجري التركيز خلالها على تحرير العمل الأهلي، والتعاوني، والقطاع الخاص والمحليات من السطوة والمزاحمة السلطوية، ومن سبق الهاجس الأمني لكل الاعتبارات في تعامل الدولة مع الأفراد ومع المجتمع، خاصة مؤسساته الجامعية والبحثية، والأنشطة النقابية، بل سيكون مطلوبا تقديم تيسيرات وحوافز في كل تلك المجالات، من الضرائب إلى تخصيص الأراضي، ثم تعزيز عقيدة أو ثقافة أن كل تلك المؤسسات والجهات هم شركاء، وليسوا منافسين للدولة والسلطة.