رغم مرور نحو 140 عاما على تلك الواقعة، إلا أنها تظل من الوقائع بالغة الدلالة في تاريخ مصر المعاصر، فرغم نجاح ضباط الثورة العرابية في إجبار الخديوي توفيق على القبول بمطالب الأمة، ورغم الدعم الشعبي الواسع لقائد الثورة أحمد عرابي ورفاقه، إلا أن هؤلاء قرروا طوعا عدم التدخل في شئون السياسة والحكم، وتعهدوا ليس فقط بدعم الحكومة المدنية بل باتباع أوامرها وتعليماتها.
بعد أيام قليلة من مظاهرة قصر عابدين التي احتشد فيها عرابي ورجاله وجموع الشعب أمام مقر الحكم في 9 سبتمبر عام 1881، كلف الخديوي شريف باشا بتأليف وزارة جديدة بعد عزل حكومة رياض باشا التي رأى المصريون أنها كانت سببا رئيسيا في تدهور أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية.
في بادئ الأمر تردد شريف باشا في قبول التكليف، فرئيس الوزراء السابق الذي تم تكليفه مجددا كان قلقا من تدخل عرابي في تشكيل الحكومة ومن مشاركة الجيش في أمور الحكم والسياسة، «لو حدث هذا التدخل وصار قاعدة متبعة في إدارة الشئون العامة، فإنه يؤدي إلى فساد الإدارة الحكومية، ويفضي إلى إنشاء ديكتاتورية عسكرية لا يؤمن معها عدل أو حرية أو دستور، لذا اجتهد في وضع حد للتدخل العسكري في شئون الحكم»، يشرح المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» أسباب قلق شريف.
كان شريف باشا من أكثر السياسيين في ذلك الوقت دراية بأمور الحكم، قرأ الرجل المشهد مبكرا وأراد أن يضع النقاط على الحروف قبل أن يتورط في قبول الوزارة، وما هي إلا ساعات بعد تكليفه حتى زاره عرابي ليطلب منه اختيار محمود باشا البارودي لحقيبة «الحربية» ومصطفى باشا فهمي لـ«الخارجية».
صارح رئيس الحكومة المكلف ضيفه بأنه لا يميل إلى إشراك البارودي وفهمي في الوزارة الجديدة، متحججا بأن ثمة خلافات في وجهات النظر بينهم منذ أن كانوا جميعا أعضاء في حكومة سابقة، مع ذلك أصر عرابي على استوزارهما، فقائد الثورة لم ينس أنه حين تولى البارودي الوزارة أُجيبت مطالب العرابيين الأولى وهي زيادة رواتب الجند والضباط وتأليف لجنة لإصلاح القوانين العسكرية، كما لم ينس أنه تم إقصاؤه من الوزارة لإخلاصه للضباط المصريين، أما مصطفى فهمي فكان عرابي يميل إلى تقليده وزارة الخارجية لما كان يتظاهر به من الإخلاص للحركة، على أنه لم يبد منه أي عمل إيجابي يدل على هذا الإخلاص.
عرض شريف على عرابي أن يحتفظ لنفسه بحقيبة «الحربية» إلى جانب رئاسته للحكومة، «أفلا ترضون أن أكون أنا ناظرا للجهادية، فإني قد ربيت معكم في العسكرية»، لكن عرابي أصر على تولي البارودي وزارة الحربية، وقال لرئيس الحكومة المكلف: «لقد اخترناك رئيسا للوزارة، ولابد من مراعاة ميول رجال العسكرية»، فأصر شريف باشا على عدم قبول مرشحي عرابي وانتهت المقابلة الأولى على غير اتفاق، بحسب ما ذكر الرافعي في كتابه.
ظل شريف مترددا في قبول الوزارة حتى عاهده العرابيون في كتاب معلن بألا يتدخل الجيش في السياسة وأن يكون خاضعا لأوامر الحكومة المدنية، فقبل بتشكيل الحكومة، ورضى بإسناد «الحربية» إلى البارودي و«الخارجية» إلى مصطفى فهمي، بعد تسلمه لكتاب العرابيين الذي جاء فيه:
«نحن ضباط الجيش المصري، نعتقد الاعتقاد التام في حسن صداقة وغيرة دولتكم وخلوص طويتكم، وسلامة نيتكم في خدمة الوطن العزيز، والمحافظة على حقوقه، والعمل على رفاهية أهله، ولهذا وكوننا جميعا نحب تقدم وطننا العزيز، فنلتمس من دولتكم قبول مسند رئاسة مجلس النظار، ونسترحم من دولتكم انتخاب نظار الدواوين ممن يكونون موصوفين بالصفات الحسنة، والعرض عنهم للحضرة الفخيمة الخديوية للقيام بأعباء خدمة الوطن العزيز، وإعلانا لصداقتنا وانقيادنا لأوامر الحكومة التي تصدر في صالحها العمومي فقد أمضينا هذه العريضة، ونحن على يقين أن تقع لدى دولتكم موقع القبول أفندم».
وفي ذات اليوم قدم أعيان البلاد ونقباء المهن التماسا مماثلا إلى شريف باشا يقترب من عريضة الضباط تعهدوا فيه بأنهم كافلون ضامنون ألا يقع في المستقبل شيء من الحوادث التي تنسب إلى رجال العسكرية، وأعلنوا فيه أنهم واثقون من أمتهم ومن رجال العسكرية الذين هم أبناؤهم وإخوانهم.
قبل شريف باشا تأليف الوزارة بعد أن حصل على العهود والمواثيق من ممثلي الجيش والشعب، فألفها في 14 سبتمبر سنة 1881، على النحو الآتي: شريف باشا رئيسا للحكومة ووزيرا لـ«الداخلية»، والبارودي لـ«الحربية والبحرية»، وعلى حيدر لـ«المالية»، وإسماعيل باشا أيوب لـ«الأشغال»، ومصطفى باشا فهمي لـ«الخارجية»، ومحمد زكي باشا لـ«المعارف والأوقاف»، ومحمد قدري بك لـ«الحقانية».
كانت تلك هي ثالث وزارة يشكلها شريف باشا، ورفع رئيس الحكومة الجديد إلى الخديوي توفيق كتابا يفيد بقبوله الوزارة، حدد فيه المبادئ العامة لبرنامج وزارته، واعدا ببذل الجهد في «إزالة ما هو قائم من اضطراب ومنع وقوع نوازل كالتي ألمت بمصر في هذه الأيام». وتعهد بالتزامه احترام نظام الرقابة الثنائية (التفتيش المالي)، قاصدا بذلك ألا يستهدف معاداة الدول الأجنبية، خاصة بعد سقوط وزارة رياض باشا موضع ثقة تلك الدول.
رد توفيق على تعهدات شريف، بخطاب يعلنه فيه بموافقته على ما جاء في كتابه، ويطالبه فيه بإجراء إصلاحات إدراية وقضائية، وتوسيع دائرة المعارف ونطاق الأشغال العمومية والزراعة والتجارة وعقد ما يلزم من المعاهدات بشأن الجمارك والتجارة.
ابتهج الشعب بانتصاره المؤقت في إرغام الخديوي على تشكيل وزارة تعبر عنه تطالعته، وشعر المصريون بأنهم نجحوا في فرض إرادتهم للمرة الأولى بعد مرور 8 عقود على خروجهم لفرض محمد علي باشا حاكما لمصر رغم أنف الأتراك والمماليك والإنجليز.
شعر عرابي أن وجوده في القاهرة يضع الحكومة ورفاقه الضباط في حرج، فقرر الابتعاد، «اجتمع عرابي عدة مرات بالخديوي، وكانت خطته ودية، كما أظهر لشريف باشا ومحمود سامي الذي عاد فتقلد وزارة الحربية، أنه وقد تم عمله ونالت البلاد حريتها يريد أن يتنحى جانبا ويترك أمر ترقيتها لأصدقائه المدنيين، وكل الخطب التي ألقها في ذلك العهد مشبعة بهذا المعنى الحكيم»، على ما يقول المستشرق الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت في كتابه «التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر».
ويضيف بلنت: «لم يمض أسبوعان على تقلد وزارة شريف أزمة الحكم حتى صار عرابي في طليعة فرقته إلى رأس الوادي بين هتاف سكان العاصمة المعترفين له بالجميل».
كانت أول مهام وزارة شريف هي «إعادة النظام إلى الجيش، فالثورة العرابية باعتبارها ثورة عسكرية قد أخرجت الجيش من مهمته الأصيلة، وهي حفظ النظام وجعلته أداة سياسية للسيطرة والحكم، وهنا موضع الخطر، إذ بذلك يختل النظام العسكري ويفقد الجيش روح النظام والقيام بالواجب، ويتسرب الانقسام إلى صفوفه ثم تقع الحكومة فريسة الفوضى، فبذل شريف جهده في الحيلولة بين الجيش والسياسة».
استقبل شريف بعد يومين من تكليفه عدد من كبار الضباط، وألقى عرابي بين يديه كلمة جاء فيها: «أننا نعلم واجباتنا والفروض التي تحتمها علينا وظائفنا العسكرية، وأعظمها حفظ البلاد ومن فيها، ولذلك فإننا نقر بأننا القوة المنفذة لما يصدر من الأوامر التي تكون إن شاء الله في خير وقاضية بإصلاح شئون البلاد».
اغتنم شريف الفرصة لينبه الضباط على واجبهم في إبعاد الجيش عن السياسة فقال: «في علمكم ما قاله الأقدمون: آفة الرياسة ضعف السياسة، ولا حكومة إلا بقوة، ولا قوة إلا بانقياد الجنود انقيادا تاما، وامتثالهم امتثالا مطلقا».
وأضاف: «كل حكومة عليها فرائض وواجبات، من أهمها صيانة الوطن وحفظ الأمن، وهذا وذاك لا يتأتيان إلا بطاعة رجالها العسكرية، فترددي في قبول الرئاسة ما كان إلا تجافيا عن تأسيس حكومة غير قوية تخيب بها الآمال ويزيد معها الإشكال، فأكون عرضة للملامة بين إخواني في الوطن.. وحيث أغاثتنا الألطاف الإلهية وحصل عندي اليقين بانقيادكم، فقد زال الاضطراب من القلوب، ورتبت الأمة الجديدة من رجال ذوي عفة واستقامة، فأوصيكم بملاحظة الدقة في الضبط والربط، لأنهما من أخص الشئون العسكرية وأساس قواها وأعرف أنكم مقلدون وظيفة وطنية، فقوموا بأداء واجباتها الشريفة».
وكان عرابي بعيد النظر بانقياده هو ورفاقه إلى حكومة شريف المدنية، فقد كانت القوى الاستعمارية تخطط لاحتلال مصر بذريعة سيطرة الضباط على شئون الحكم.
استقبل شريف باشا بعد ذلك وفد الأعيان الذي قدم إليه عريضتين وقع على كل منهما 1500 من عمد البلاد وكبار الأهالي، تتضمن مطالب الأمة وعلى رأسها إنشاء مجلس للنواب يمثل الأمة وله الحق في مراقبة الحكومة نيابة عن الشعب.
كيف أُجهضت تجربة تأسيس أول دولة مدنية ديمقراطية في تاريخ مصر؟ وما هو مآل أول برلمان له صلاحيات واسعة؟ ولماذا عاد الضباط إلى الواجهة؟ وإلى أي حد تآمرت إنجلترا وفرنسا على الثورة والشعب؟.. هذا هو موضوع المقال المقبل.