يطمح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في أن يحفر اسمه في التاريخ الحديث. باعتباره الرجل الذي خرج بالمملكة من فقاعة الاعتماد على البترول، كوسيلة للثراء والنفوذ. إلى دولة ذات اقتصاد حديث وقوي، تعتمد على تكنولوجيا غير مسبوقة في المنطقة، وربما العالم. مستغلا التغيرات الجيوسياسية في المنطقة، واختلال النظام العالمي ذي القطب الواحد.

مستندا إلى برجماتية بحته، سعى الأمير الشاب، الذي ينتظره عرش أكبر دولة في العالم الإسلامي. إلى تجاوز الصراعات القديمة التي نشأت عليها دول الشرق الأوسط، وتوطيد علاقته بالعدو التاريخي، إسرائيل، حتى وإن خشي هذه العلاقة الجديدة علانية. لكن ذلك لم يمنع من تعاون مفتوح في مشروعه الأضخم على الإطلاق “نيوم/Neom “.

يطمح ولي العهد السعودي في أن يحفر اسمه في التاريخ الحديث

ضمن رؤية 2030 -خطة التنمية التي تزيد قيمتها عن 7 تريليون دولار للمملكة- يخطط ولي العهد السعودي، عبر “نيوم”. لإنشاء مجموعة من المشاريع المبنية على مساحة بحجم بلجيكا. بهدف “مواجهة التحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجه الإنسانية. عبر بناء نموذج جديد للحياة المستدامة”. وفق الدعاية الحالية.  بينما ستعمل مدينة “تروجينا” الفرعية على “إعادة تعريف السياحة الجبلية”. وستعيد “مصانع المستقبل” التابعة لأوكساجون “تحديد نهج العالم في التنمية الصناعية”، وستظل المدينة الضخمة “ذا لاين/ The Line” بمثابة “ثورة حضارية”.

رغم الحديث الوردي، إلا أن الصحفي الإسرائيلي سيباستيان كاستيلير، لم يبد واثقا من رؤية الحليف الجديد، الذي أظهر وجها داخليا غير رحيما على الإطلاق، منذ أخذ البيعة كولي للعهد. بل، شكك في قدرته على تنفيذ هذه الطموحات. التي إما تجعله حاكما فريدا، أو تلقي به إلى نفس المصير الذي واجهه شاه إيران في السبعينات من القرن الماضي.

وتساءل كاستيلير في صحيفة هآرتس/ Haaretz، العبرية: هل ستؤدي مغامرة محمد بن سلمان العظيمة إلى إفلاس المملكة؟

اقرأ أيضا: “بن سلمان” والعرش: طريق الأمير الشاب لحكم السعودية يمر عبر إسرائيل

ثورة إيران البيضاء

في16 يناير/كانون الثاني 1979، غادر شاه إيران الراحل، محمد رضا بهلوي، بلاده دون عودة. بعد أن أصبح مقتنعاً بأن فرص بقائه في الحكم باتت ضئيلة، في ظل تصاعد المظاهرات والاحتجاجات الشعبية الكبيرة في مختلف أنحاء البلاد ضد حكمه.

كان الشاه قد شرع، بمساعدة الولايات المتحدة، في تنفيذ برنامج تنمية وطني على نطاق واسع. أطلق عليه اسم “الثورة البيضاء”، وشمل بناء شبكة طرق برية وسكك حديدية، ومطارات والعديد من السدود ومشاريع الري، وتم القضاء على أمراض مثل الملاريا، وتشجيع ودعم التنمية الصناعية، واستصلاح الأراضي. كما تم تشكيل فرق لمحو الأمية، وأخرى لتقديم الخدمات الصحية لسكان الريف في المناطق النائية.

أيضا، تبنى الشاه سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الغرب وأقام علاقات عمل مع الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية.

عززت الثورة البيضاء شعبية الشاه في الداخل، لكنه واجه معارضة من قبل من رأوا أن الإصلاحات التي قام بها لم تكن كافية. ومن قبل رجال الدين الذين كانوا يرون أن “الاصلاحات تسير بالبلاد على خطى الغرب وتنافي الإسلام”. وبالطبع، واجه حكم الشاه معارضة قوية، بسبب طبيعة حكمه الاستبدادية، والفساد، والتوزيع غير العادل للثروة النفطية، وفرض قيم الحداثة، وقمع جهاز السافاك (الشرطة السرية).

غادر الشاه البلاد، وتولى الإمام الخميني، العائد من منفاه، زمام الأمور. ورغم أن الشاه لم يتنازل عن العرش رسميا، إلا أن الاستفتاء الذي جرى لاحقاً، مهد السبيل لإنشاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في 1 أبريل/نيسان 1979.

لذا، نقل الكاتب الإسرائيلي عما وصفه بـ “مصدر مطلع على ديناميكيات العائلة المالكة في المملكة”. والذي تحدث مشترطا ألا يتم ذكر اسمه. أن هناك قلقا من أن ولي العهد الشاب يخطو إلى مصير الشاه “حيث يتم تطوير مخططات تصبح منفصلة بشكل لا يصدق عن الواقع

وأضاف المصدر أن بن سلمان “نقل نظام المملكة من نظام إجماع داخل الأسرة إلى حكم الرجل الواحد”.

وهم النمو

في يوليو/ تموز، أوضح ولي العهد كيف يتوقع تمويل المشروع الضخم المستقبلي. حيث سيتم تمويل حوالي نصف المرحلة الأولى من المشروع البالغة 1.2 تريليون ريال سعودي (320 مليار دولار) -والمقرر أن تستمر حتى عام 2030- من قبل صندوق الاستثمارات العامة. وهو أداة مالية حكومية داخل الدولة بقيمة 620 مليار دولار، استحدثت في عهد محمد بن سلمان لتنويع اقتصاد المملكة الذي يحركه النفط. بينما ستقوم الإعانات الحكومية، وصناديق الثروة السيادية الأخرى في المنطقة، بتمويل النصف الآخر.

أيضا، سيتم تشجيع المستثمرين السعوديين من القطاع الخاص على المشاركة خلال الإدراج العام المحتمل لشركة نيوم في عام 2024. هنا، يشير الصحفي الإسرائيلي إلى معلومات متواردة حول أن “المملكة تقوم بـ “تخويف” عدد من أغنى العائلات لتصبح مستثمر أساسي خارج “الواجب السياسي”. وهو ما بدا في الاكتتاب العام لشركة الطاقة السعودية/ أرامكو في عام 2019.

يقول: بعبارة أخرى، فإن جزءًا كبيرًا من الأموال السعودية التي تم تخصيصها بعناية لعقود من الزمن لتمويل الانتقال إلى حقبة ما بعد النفط ستدفع ثمن نيوم الفلكي.

هكذا يخوض الأمير الشاب رهان على رؤية غير مثبتة. يمكن أن تحقق نيوم عوائد طويلة الأجل للسعودية، لكن غالبًا ما تبدو المشاريع العملاقة جيدة من الناحية الاقتصادية على الورق. إنها “تخدع العين بالتأكيد، لكنها لا تقدم أي شيء مثل الضجيج في الحياة الواقعية”، وفق كاستيلير.

تنقل هآرتس عن مايكل بيتيس، أستاذ المالية بجامعة بكين في الصين. والخبير في النمو الاقتصادي العالمي. تحذير صارخ، هو: “يجب أن يكون الإنفاق على البنية التحتية هو تكلفة للنمو، وليس سببًا”. لافتا إلى أن “أزمة الإسكان في الصين هي تذكير صارخ بأن الإنفاق على البنية التحتية يمكن أن يخلق وهمًا للنمو. حتى عندما يكون مدعومًا باقتصاد صناعي كبير”.

وأوضح: “في بداية التسعينيات، كانت الصين ريفية بنسبة 75%. لكن المصانع في أماكن مثل شينزين كانت بحاجة ماسة إلى العمال، لذلك ساعد الإنفاق على البنية التحتية في نقل مئات الملايين من المزارعين منخفضي الإنتاجية إلى المصانع. حيث أصبحوا أكثر إنتاجية بكثير.

يقول بيتيس: الإنفاق على البنية التحتية يشبه صنع خطوط الكوكايين. عليك أن تفعل خطوطًا أكبر وأكبر فقط لتشعر بالنشوة.

يخوض الأمير الشاب رهان على رؤية غير مثبتة وهو أن نيوم يمكن أن تحقق عوائد طويلة الأجل

اقرأ أيضا: سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم

أرباح مستقبلية

على عكس الصين، تخطط نيوم لجذب تسعة ملايين شخص بحلول عام 2045. والذي يراه الأستاذ الأمريكي “سيخلق قدرًا هائلاً من النشاط الذي قد يبدو وكأنه طفرة. لكن هذا لن يجعلهم أكثر ثراءً، بل سيأخذ فقط أرباحًا مستقبلية ويعيدها إلى الأمام.”

بعبارة أخرى، فإن الاندفاع الأولي للنشاط الاقتصادي لنيوم، إذا لم يكن مستدامًا بوتيرة مماثلة. سيكون ببساطة “سرقة” للفوائد الاقتصادية المستقبلية، لخلق وهم النمو في الوقت الحالي. أو، بعبارة أخرى، يشبه بناء القلاع على الرمال. لذلك، يشكك المحللون في إمكانية أن تحفز نيوم النمو الذاتي بعد طفرة البناء الأولية. وأن يصبح انتقال السعوديين إلى المدينة الجديدة أكثر إنتاجية مما كانوا عليه في المدن الحالية، وبالتالي دفع النشاط الاقتصادي بشكل مستدام إلى أعلى.

ويرى أندرو ليبر، الباحث السابق في جامعة هارفارد، أن حجم وطموح نيوم قد يكون مختلفًا، ولكن فيما يتعلق بفكرة وجود مشروع ضخم جديد يعيد ترتيب الاقتصاد السعودي بشكل أساسي، يتم تنفيذه كل جيل”.

لكن، يشير الصحفي الإسرائيلي إلى أن دافع ولي العهد السعودي من كل هذا الحراك “ربما لا يكون النمو المستدام على الإطلاق”. بل، خلق ما يسميه بيتيس “التأثير الهرمي”.

بعبارة أخرى “ستكون هذه محاولة لنسخ ملوك مصر القديمة، الذين أعادوا توزيع الثروة على السكان من خلال الوظائف”. أو كما يوضح كاستيلير “على الرغم من إعادة توزيع الثروة النفطية السعودية بالفعل على السعوديين العاديين، من خلال وظائف القطاع العام والإعانات. يتم الاحتفاظ بشريحة كبيرة، وتخزينها في صناديق الثروة السيادية، وسندات الخزانة الأمريكية”.

لذلك، من الناحية النظرية، فإن تدفق الأموال على المواطنين السعوديين من شأنه أن يحفز الاقتصاد المحلي غير النفطي. ولكن من الناحية العملية، من المرجح أن يتسبب التأثير الهرمي أولاً وقبل كل شيء في حدوث تسريبات اقتصادية. حيث تستورد المملكة معظم ما تستهلكه محليًا، بما في ذلك العمالة، على الرغم من أن “سعودة” سوق العمل هي إحدى الأولويات الرئيسية لرؤية 2030.

مع هذا، يمثل العمال المهاجرون حوالي 77% من وظائف القطاع الخاص في المملكة. وفي نيوم، يعمل المستشارون الغربيون ذوو الأجور المرتفعة على تلبية مطالب محمد بن سلمان. ويعمل العمال الآسيويون ذوو الدخل المنخفض على بنائها، وتحويل الأموال السعودية إلى الوطن.

صورة لامعة

يجادل المتحمسون لخطة الإصلاح في السعودية بأن المال ليس كل شيء. فقد حاز المشروع، ومقاطع الفيديو الترويجية الخاصة به، على تغطية صحفية بقيمة المليارات. وهي مساهمة كبيرة في خطة محمد بن سلمان لتجديد الصورة العالمية لأرض الإسلام. والتي ارتبطت منذ فترة طويلة بالتحفظ الشديد والإقصاء والقمع.

لذلك، قامت الرياض بتلطيف حفل إطلاق المشروع بإضافة موجة من الإصلاحات الاجتماعية. مثل رفع الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارة. لكن لم تكن الفكرة مجرد إثارة ضجة بين المستثمرين والجمهور العالمي، بل لزيادة الزخم والطموح بين السعوديين.

يتساءل كاستيلير: ماذا على المحك؟ بالنسبة للمملكة، خسارة مالية هائلة محتملة، لا يمكن تعويضها للوقت الذي تقضيه في التخيلات بدلاً من الحلول الملموسة لمستقبل ما بعد النفط، وفقدان الثقة في النظام، مما يعني فرصة عدم الاستقرار السياسي.

وهذا هو المكان الذي قد يضطر فيه محمد بن سلمان إلى دفع تكاليف الإفلاس. سواء من خلال الاعتراف بالمسؤولية الكاملة، أو من خلال نشر متجدد لأساليب استبدادية لسحق المعارضة. المسار الأخير، بالطبع، هو ما اختاره شاه إيران الراحل.