مجموع الخدمات التي يحصل عليها المواطن بشكل يومي، في التعامل المباشر مع المواصلات والشوارع والسكن والصرف الصحي والأسواق، هي “المحليات” التي أفرد لها الدستور المصري مواد ونقاطا مطولة للحديث عنها، الغائبة منذ 14 عامًا، والتي عادت للواجهة مع تعيين لجنة خاصة بها في “الحوار الوطني”.

منذ العام 2008، لم تجر انتخابات للمحليات في البلاد. الأمر الذي أثر بحسب خبراء ومتخصصين على 90% من جودة ونوعية الخدمات المقدمة للمواطنين، وألحق الضرر بالبنية التحتية في الشوارع والطرقات وبالوعات الصرف، مع تفاقم هائل في أشكال المخالفات أمام المحال والمناطق التجارية.

ومع الاستقرار منذ أيام قليلة على التشكيل النهائي للجنة المحليات بالحوار الوطني، واختيار مقرر عام ومقرر مساعد للجنة، التي تعد أحد أهم اللجان المتفرعة عن المحور السياسي، تجددت الآمال في أن يدفع ذلك بقانون المحليات إلى النور مرة أخرى، واستغلال انطلاق مرتقب لدور انعقاد برلماني جديد خلال الأسابيع المقبلة، لتعويض غياب “مقاعد المحليات الشاغرة” بقانون ظل حبيس الأدراج طوال السنوات الماضية.

ذكر الدستور المصري الصادر في 2014 المحليات في 9 مواد كاملة، وتطرق في شأنها إلى “الانتخاب المباشر” لأعضاء المجالس المحلية، ممن تكون لهم سلطة الرقابة على عمل الوحدات المحلية ومتابعة أداء القائمين عليها ومحاسبتهم. وأوضح أن “المحافظات والمدن والمراكز والأحياء والقرى”، تمثل جميعها وحدات الحكم المحلي الخاضع لنظام الإدارة المحلية.

14 عامًا من الغياب

شهد العام 2008 آخر انتخابات للمحليات، بعدد مقاعد 52 ألفًا، 44 ألفًا منها حسمته التزكية. بينما أجريت الانتخابات للتنافس على المقاعد المتبقية (8 آلاف)، وتنافس عليها 6 آلاف مرشح للحزب الوطني المنحل وحده، والباقون من مختلف الأحزاب والتكتلات.

ومع قيام ثورة 25 يناير 2011، أقيمت دعاوى قضائية للمطالبة بحل المجالس المحلية. وفي 28 يونيو/ حزيران من العام نفسه قضت محكمة القضاء الإدارى بحلها، فاستمرت البلاد بدون محليات حتى وجه الرئيس عبد الفتاح  السيسي في إبريل/ نيسان 2016 بالبدء في إجراءات الانتخابات. إلا أن الحكومة لم تقدم خلال الدورات البرلمانية منذ ذلك مشروع قانون المجالس المحلية.

وفي العام 2019 وخلال مؤتمر الشباب، صرح الرئيس بأن الدولة تأخرت وكانت تتمنى إجراء الانتخابات المحلية في العامين الماضيين، مشيرًا إلى حرصه على مشاركة 18 ألف شاب في الانتخابات المحلية، التي لم تعقد حتى بعد التصريح الرئاسي، وإلى أن أعلن المنسق العام للحوار الوطني ضياء رشوان، استقرار مجلس الأمناء على تخصيص لجنة فرعية باسم “المحليات”، جرى الاستقرار على اختيار مسئوليها مطلع سبتمبر/ أيلول الجاري. وهم: الدكتور سمير عبد الوهاب مقررا عاما، يعاونه النائب البرلماني علاء عصام عن تنسيقية الأحزاب والسياسيين مقررًا مساعد.

وقد أطلق النائب علاء عصام، تصريحات لافتة حول رؤيته لما هو منتظر من لجنة المحليات بالحوار الوطني. إذ قال: نستهدف تحقيق نظام انتخابي يحقق آمال الشعب المصري في مستقبل أفضل. ومن أجل ذلك سيكون دورنا الأساسي هو الاستماع بحرص لآراء الأحزاب السياسية من مختلف التيارات بشأن رؤيتها لقانون المحليات.

وأضاف -في تصريحات نقلتها الوكالة الرسمية “أنباء الشرق الأوسط”، أن ملف المحليات يحظى بأهمية كبرى لتحقيق الرقابة الشعبية وتنمية المحافظات والقرى، وأنه يأمل في الفترة المقبلة أن يكون هناك انتخابات محلية تنتج عن توافق بين كل القوى السياسية.

اقرأ أيضًا: الفريضة الغائبة في الحوار السياسي ومصير الأوعية الشعبية المنتخبة

تضخم الفساد 

«خبرتي بالمحليات تجاوزت الـ 33 عامًا. ترأست مجلس محلي محافظة القليوبية لعقود، قبل أن أصبح نائبا برلمانيا بلجنة الإدارة المحلية للسنة الثامنة على التوالي”، يقول النائب محمد عطية الفيومي، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الحرية، الذي يشير إلى غياب المحليات بوصفه عمل لا يتسق مع الدستور، ويخالف ما نص عليه في 9 مواد واضحة وكاملة.

يضيف “الفيومي” أنه حتى بغض النظر عن الحكم على هذا الغياب بمنظور دستوري وقانوني، فإن عدم وجود المحليات يعني ترسيخ المركزية، في وقت يعيش فيه المواطن في كرب شديد لقضاء احتياجاته. على سبيل المثال بدلًا من أن تتولى المحليات التواصل مع مديرية الصحة لقضاء أمر يتعلق بشأن صحي لديه، يقضي الأيام بحثا عن عضو مجلس نواب، الذي يبحث هو الآخر عن إمضاء شخصي من الوزير أو نائبه، لقضاء مسألة المواطن. “أمر غير مقبول، أن تكون مصر مليون كيلو متر مربع، يتم حكمها مركزيًا في مسألة الصحة، من مقر الوزارة فقط”.

يقول “الفيومي” إن المحليات تعني 90% من احتياجات المواطن وتعاملاته اليومية في السكن والصحة والتعليم والشوارع والمحلات وكل شيء. بينما الفساد الناتج عن المركزية وغياب الرقابة الشعبية على الإدارات المحلية يتضخم حجمه. في ظل انتشار الرشوة علانية لقضاء المصالح للمواطنين. وهو سمت واضح للفساد، يختفي بمجرد وجود رقابة من المحليات المنتخبة على المسئولين والموظفين التنفيذيين في الأحياء والمدن والمحافظات.

وقد سبق وأن تقدم “الفيومي” بمشروع قانون كامل للمحليات، يقول عنه إنه يحقق المتطلبات الدستورية، ويضم نصوصًا تقضي بإمكانية تمتع عضو المحليات المنتخب بسحب الثقة من المحافظ حال أثبت بحقه التقصير في مهام عمله. لافتًا إلى أن هذا المشروع بقي “حبيس الأدراج”، متمنيًا أن يغير الحوار الوطني ووجود لجنة للمحليات فيه الوضع الراهن.

الإصلاح أولوية

يقول محافظ الإسكندرية الأسبق محمد عبد الظاهر إن الإصلاح المحلي يقلل الضغط على الحكومة المركزية ويمنع التشابك بين الوزارات والمحافظات، الأمر الذي ينسحب بدوره إلى إصلاح كل الملفات الأخرى من تعليم وصحة وتموين وإسكان. ومن ثم تحسين جودة الحياة وتدبير الموارد المالية اللازمة للتطوير في المحافظات.

شغل عبد الظاهر سابقًا منصب أمين عام الإدارة بوزارة التنمية المحلية، وهو يرى أن إصلاح المحليات لا يحتمل التأجيل؛ لأنه وثيق الصلة بالمحافظة على المشروعات الكبرى التي تنفذها الدولة. لذا يجب الإسراع في إصدار قانون المجالس المحلية الجديد، وأن يكون متوافقًا تمامًا مع الدستور، بما يحقق اللامركزية المالية والإدارية في المحافظات، ما من شأنه أن يوفر الرقابة والمتابعة اللازمة لأداء المسئولين والتواصل مع المواطنين لنقل مطالبهم والاستجابة لاحتياجاتهم، وتعديل الأولويات بما يحقق لهم الرفاه اللازم.