يمكنك تلخيص التاريخ السياسي لمصر المعاصرة في ثورات ديمقراطية تنتصر عليها ديكتاتوريات، ثم الديكتاتوريات تتكفل بتدمير نفسها بنفسها تدميرا ذاتيا من داخلها.

ثورات مصر المعاصرة، مثلها مثل ديكتاتوريات مصر المعاصرة، كلتاهما خبرة علنية يعيشها الشعب، يختارها كما في حال الثورات، أو تُفرض عليه كما في حال الديكتاتوريات، يعيش الشعب هذه وتلك، بوجهيهما المتناقضين، ثم تنتهي هذه وتلك، لكن أيا منهما لا تنقضي، فهي تبقى حية في ذاكرة الشعب وفي ذاكرة الزمن المنقول والمتحول أو في ذاكرة التاريخ بما هو وحدة واحدة، سواء ما مضى منها أو ما هو قائم أو ما هو مستقبل قادم.

لم تتأخر مصر المعاصرة عن ركب الثورات الحديثة، فقد بدأت ضد المزدوج المملوكي العثماني على مدى النصف الثاني من القرن الثامن عشر – في توقيت متزامن للثورتين الأمريكية والفرنسية- حتى مطلع القرن التاسع عشر، حيث فرض المصريون كلمتهم على الجميع، وقرروا أن يتولوا بأنفسهم اختيار من يحكمهم، فكان محمد علي باشا واليا عليهم بإرادتهم. صحيح كانت قيادات الثورة من الأزهريين والتجار ووجهاء القاهرة والمدن، وصحيح أن هذه الوجوه كانت تنتمي للثقافة الموروثة وليس للثقافة الأوروبية المجلوبة أو الوافدة، لكن الصحيح كذلك أن هذه الوجوه عبرت -بصورة تقليدية- عن أربع قيم ليبرالية وديمقراطية حديثة هي: من يملك البلد؟ من يحكم البلد؟ كيف يحكم البلد؟ لمصلحة من يُحكم البلد؟. هذه الأسئلة الأربعة كانت جوهر الثورة في وجه السلاطين من آل عثمان، ثم في وجه الباشوات والخديوية والسلاطين والملوك من محمد علي باشا وسلالته مع رعاتهم من القوى الأجنبية، ثم في وجه الحكام من بكباشية وصاغات وجنرالات الجيش المصري من نجيب إلى عبدالناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي.

ثورة الأزهريين والتجار وأهالي القاهرة عند نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر قامت على أساس فكرة بسيطة جدا، وهي باختصار شديد: حق الرعية -لم يكن مفهوم الشعب قد تبلور بعد- في اختيار من يحكمهم، على أن يحكمهم وفق شروطهم وهي العدل والشريعة، ثم حقهم في عزله إذا خرج عن مقتضى هذه الشروط، كانت فكرة بسيطة لكنها كانت ثورية، كانت نوبة إلهام ثوري أضاءت تاريخ المصريين المعاصرين وأعلنت بزوغ هلال فجر جديد، ومازالت ترسل أضواءها تسير مع خطى الزمن، كان معناها –ولايزال- هو أن المصريين يقررون مصير الحاكم ولا يقرر الحاكم مصيرهم، وأنهم يملكون حق محاسبته وعزله، وأنهم بهذا يملكون وطنهم ومصيرهم وقرارهم، وكل تلك المعاني هي جوهر فكرة السيادة بالمعنى الأوروبي الحديث، وأن المواطن هو السيد وليس الحاكم، وأن الأمة هي مصدر السيادة يعني صاحبة الأمر والنهي وليس الحاكم ومن حوله من الأتباع والمنتفعين. هذه اللحظة كانت هي نقطة البداية لتاريخ مصر الحديثة لا الغزوة الفرنسية ولا تولية محمد علي باشا، هذه اللحظة تأسس عليها تراث مجيد من ثورات المصريين المعاصرين، من ثورة العرابيين في ميدان عابدين 1881 التي توجتها ثورة المصريين في ميدان التحرير 2011، وبينهما ثورة 1919 التي توجتها ثورة 23 يوليو 1952.

***

ثورة المصريين في 25 يناير 2011 تشبه ثورتهم بين عامي 1803- 1805 من زاوية أن كلتا الثورتين انتهت بمجرد تولي حاكم جديد كان -هو بالذات- من إفراز الثورة، يعني لو لم تكن الثورة قد قامت كان من عاشر المستحيلات أن يرى الحكم ناهيك أن يكون هو الحاكم الفعلي، وفي كلتا الحالتين أعقبت الثورة ديكتاتورية تحكم بالحديد والنار، لا بالعدل ولا بالشريعة كما اشترط الذين عزلوا خورشيد باشا وعينوا مكانه محمد علي باشا، ولا بالدستور والقانون كما تأمل الذين عزلوا مبارك ثم عزلوا مرسي ثم جاءوا بالسيسي، حدث ذلك بعد 1805 ثم حدث بعد 2013، في الدكتاتوريتين، الباشا ثم السيسي، تم التنكر والإنكار والاستنكار الكامل لدور الشعب ومطالبه وشروطه في الحكم ورغباته في الحياة. الديكتاتورية التي أسسها محمد علي باشا دمرت نفسها بنفسها في حياة صاحبها، وعاش السنوات العشر الأخيرة من عمره وهو يراها تتفكك طوبة طوبة كما بناها بالظلم والقهر والسلب والنهب طوبة طوبة، المصير ذاته من التدمير ذاته ينتظر الديكتاتورية الجديدة مع فارق أن الديكتاتورية القديمة لحقها التدمير بعد ربع قرن من قيامها بينما التدمير يتسلل للأخرى منذ وقت مبكر من قيامها.

كذلك ثورة المصريين في 25 يناير تشبه ثورة العرابيين في 1882 من زاوية أن كلتاهما كانت قصيرة العمر ثم كلتاهما أعقبتها ثورة مضادة أو أكثر من ثورة مضادة، في حالة الثورة العرابية كانت الثورة المضادة مصالح أوروبية تحمي الخديو ولأجل ذلك تقرر غزو البلاد بالقوة المسلحة ثم احتلالها ثم إخماد الثورة ثم تمكين الخديو من عرشه ثم استعمار البلاد ثلاثة أرباع قرن. صحيح أن قوات الاحتلال حفظت الحكم يتوارثه سلالة محمد علي باشا لكن الصحيح كذلك أنهم فقدوا من الحكم جوهره فلم تكن لهم قوة ولا هيبة ولا كلمة عليا، كان ذلك كله للاحتلال الذي يملك -وحده- تعيينهم وعزلهم. كانت ثورة العرابيين تهديدا مزدوجا لحكم سلالة محمد علي باشا مثلما كانت تهديدا للمصالح الاستعمارية الأوروبية التي كانت قد هيمنت بالفعل على كل شيء له قيمة في البلد على مدار العقود الثلاثة بين نهاية عصر محمد علي باشا ودخول قوات الاحتلال البريطاني حيث تحولت الهيمنة الأوروبية من احتلال مدني إلى احتلال عسكري مسلح.

هذا عن الثورة المضادة في حالة الثورة العرابية، أما في ثورة 25 يناير 2011 فقد جاءت الثورة المضادة على موجتين، موجة مع حكم الإخوان متحالفين مع مصالح إقليمية ودولية، ثم موجه مع حكم دولة 30 يونيو أو الجمهورية الجديدة، وهي المرحلة الأعتى والأقسى والأغلظ من مراحل الثورة المضادة، حيث تحالفت مصالح محلية مع مصالح إقليمية مع مصالح دولية على محو ومسح وكنس وكسح ودفن كل ما له صلة تعبير من قريب أو بعيد عن ثورة 25 يناير.

ثم تكمل ثورة 23 يوليو ما بدأته ثورة 1919 من جهتين: الأولى خلع الملك ثم إلغاء الملكية، والثانية التفاوض مع الاحتلال ثم جلاؤه عن البلاد، ذلك طريق طويل بدأه العرابيون بشعارهم “مصر للمصريين”، وذهبت به ثورة 1919 شوطا أبعد بشعارها “الدين لله والوطن للجميع” ثم حسمته ثورة 23 يوليو 1952 حين أصبحت مصر لأول مرة وقد تم إخلاؤها من الحكم الأجنبي ومن الاستعمار الأجنبي، ثورة 23 يوليو حصدت كفاح عدة أجيال من المصريين كما حصدت ثمرات ما سبقها من ثورات، لكنها -من زاوية الديمقراطية- تعللت بالديمقراطية الاجتماعية أي حماية الفقراء من استغلال الأغنياء لتنسف الديمقراطية السياسية أي الحكم النيابي والدستوري ومن هنا فإنها من زاوية الديمقراطية لم تكن أكثر من ثورة مضادة لثورة 1919.

……………………

ثورة 1919 كانت ثورة مدنية محضة، خاض غمارها الفلاحون والطلبة، ثم حصدها الأعيان من كبار الملاك مع الأفندية المتعلمين مع التجار من الطبقة الوسطى، أنتجت استقلالا صوريا عن الاحتلال، كما أنتجت ملكية دستورية لم تفل يد الملك عن الحكم فاستمر يملك ويحكم إلا ما كان من كفاح الحركة الوطنية التي مثلها الوفد بالدرجة الأولى، كذلك أنتجت كل شيء حديث من دستور إلى برلمان إلى انتخابات منتظمة إلى صحافة إلى قضاء حديث، ثم هي حققت ما حققت بالكر والفر، تتقدم قوى الثورة ثم تتوقف ثم تتراجع تحت ضغط قوى الثورة المضادة أو قوى الرجعية من الملك ومن معه من أحزاب، ثم تعود لتتقدم ثم تتراجع وهكذا، تتقدم إذا أجريت انتخابات غير مزورة ثم تتراجع إذا تآمر عليها الملك وحلفاؤه من الاحتلال وقوى الرجعية، وهكذا كان مكتوبا عليها -بحكم طبيعتها المدنية السلمية الديمقراطية- أن تتعايش مع خصومها تحت مظلة الدستور، أي الملك، ثم تتعايش مع خصومها تحت مظلة البرلمان، أي أحزاب الأقلية والرجعية وقوى الثورة المضادة، ثم تتعايش مع الاحتلال نفسه تحت مظلة المفاوضات التي ألزمت بها نفسها كسبيل وحيد لإجلاء الاحتلال، هذا التعايش السلمي بين الثورة وخصومها أعاق نموها عدة مرات: أعاق نموها عندما تم إقصاؤها عن الحكم ما مجموعه ثلاثة وعشرين عاما من إجمالي ثلاثين عاما أو أقل قليلا، ثورة 1919 ممثلة في حزب الوفد لم تحكم إلا قريبا من سبع سنوات، ثم أعاق نموها عندما بث في داخلها تكرر الانشقاقات ثم انضمام الانشقاقات إلى قوى الرجعية، ثم أعاق نموها بما بث فيها من الوهن وضعف العزم بمرور الزمن فاضطرت لعقد اتفاقية 1936 التي كرست الاستقلال الصوري ولم تكن لها من فائدة غير إلغاء الامتيازات الأجنبية، ثم أعاق نموها حين انحرف بها التعايش السلمي مع أعداء الثورة إلى التقارب معهم -الملك تحديدا- وقد حدث ذلك في آخر حكومات الوفد التي جاءت في ديسمبر 1950 وطردها الملك -الذي كانت تهادنه- من الحكم بعد حريق القاهرة 26 يناير 1952، ثم انحرف بها في التعامل مع عدوها الأكبر -الاحتلال- حين قبلت الحكم تحت تهديده للملك وحصار الدبابات الإنجليزية لقصر عابدين، ثم وصلت الإعاقة ذروتها حين قررت حكومة الوفد الأخيرة الغاء اتفاقية 1936 في أكتوبر 1951 دون أن يكون لديها رؤية بديلة لكيف تتعامل مع الاحتلال. باختصار شديد: ثورة 1919 لم تكن تملك غير التأييد الشعبي بحيث تفوز في الانتخابات ثم تشكل الحكومة ثم تواجه الملك وتفاوض الاحتلال، لكن بموجب الدستور هي مضطرة للتعايش مع أعداء الثورة ثم هذا التعايش أجهدها ثم أنهكها ثم أعجزها عن مواصلة الكفاح.

……………………

عندما تحركت دبابات الضباط الأحرار عند منتصف ليل 23 يوليو 1952 كانت ثورة 1919 قد خبت نارها، وهنت قوى الثورة ممثلة في الوفد، كما وهنت قوى أعداء الثورة، وهن الملك بفساده وسقوط هيبته، ووهن الاحتلال بغروب شمس الإمبراطورية البريطانية ثم بانسحابها من الهند الذي كان استعمارها له المبرر لاحتلالها مصر، ثم ظهور واقع إقليمي ودولي مختلف، حيث الانقلابات العسكرية تملأ الإقليم والعالم، ثم حيث قوة عظمى بازغة لها مصلحة في الاقتراب من هذه الانقلابات على أمل رسم خرائط جديدة لموازين القوى في العالم.

لذلك لم تستغرق المغامرة أكثر من ثلاث ساعات كان الضباط قد استولوا بالفعل على قيادة الجيش واعتقلوا قادته وأودعوهم سجون الكلية الحربية، ثم اتصلوا باللواء محمد نجيب في بيته يدعونه ليتولى قيادتهم أمام الشعب والعالم وأرسلوا له سيارة تحمله ومصفحة لحمايته، ثم عند الساعة الرابعة أبلغوا السفير الأمريكي على أمل أن يتكفل هو بإبلاغ السفير البريطاني، لتعلم أمريكا أولا ثم بريطانيا ثانيا أن تحرك الضباط إنما هو شأن داخلي، وهو الموقف الذي اتخذته القوتان العظميان وكان له أثر عظيم في تمرير الانقلاب كأن شيئا لم يحدث على الإطلاق، ثم عند الساعة السابعة صباحا تم إبلاغ الشعب بما قد جرى عبر بيان كتبه الضباط وتمت إذاعته بصوت أنور السادات.

– الفرق بين ثورة 1919 وثورة 23 يوليو 1952 يمكن إيجازه في عدة نقاط، غير أن الأولى شعبية مدنية والثانية انقلابية عسكرية نخبوية مسلحة:

1- ثورة 1919 تدرجت في الخطوات، بدأت بالحصول على الاستقلال المنقوص، ثم الدستور الذي فرض عليها التعايش مع خصومها تحت سقف واحد، ثم تكوين الأحزاب، ثم الانتخابات، حيث كان سعد زغلول رئيس أول حكومة ثورية وفدية في 1924 وهي الحكومة التي تآمر عليها الإنجليز والرجعية حتى سقطت قرب نهاية العام، وقد وصل الوفد للحكم ست مرات، كلها عبر انتخابات، فلم يكن له من ظهير غير الشعب، ولا من سلاح غير الصوت الانتخابي. لكن اختلف الأمر مع ثورة 23 يوليو 1952 فكل خطواتها تمت بالقوة العسكرية وليس بالعودة إلى الشعب، ولا بمشاركة من أي نوع للشعب غير التأييد من بعيد أو الرفض من بعيد، وقد تأسس على ذلك أن إلغاء الملكية تم بقرار وإعلان الجمهورية تم بقرار وتعيين أول رئيس للجمهورية (نجيب) تم بقرار عسكري وليس باختيار شعبي، هذه البداية أي مجيء الرئيس لهذا المنصب الهام دون اختيار شعبي هو السمة الرئيسية المميزة لحكم كل الضباط الذين توارثوا السلطة في دولة 23 يوليو، فكلهم دون استثناء واحد من نجيب إلى ناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي إما جاءوا بقرار وخرجوا بقرار مضاد من عشرة ضباط هم كل مجلس قيادة الثورة وإما جاءوا باستفتاءات مزورة مثل ناصر والسادات ومبارك أو انتخابات مزورة مثل مبارك في آخر عهده والسيسي في انتخابات 2014 ثم انتخابات 2018، معنى هذا أنه بقدر ما كان الشعب هو سيد الموقف باعتباره من يحسم المعركة بصوته الانتخابي بين ثورة 1919 وأعدائها من احتلال وملك وأحزاب أقلية وقوى رجعية فإن الدبابة -وليس الشعب- أصبحت هي سيد الموقف، لهذا السبب لم يحفل رئيس واحد من حكام دولة يوليو بنزاهة الانتخابات لأنه على يقين أنه يصل للرئاسة بقوة الدبابة حتى لو كانت في خلفية المشهد واختفت من الصورة.

2- ثورة 1919 ممثلة في الوفد لم تبرأ من الأخطاء، كما أن أعداء الثورة لم يتورعوا عن ارتكاب الجرائم السياسية مثل تزوير الانتخابات والتلاعب بإرادة الشعب ومثل كل صنوف الفساد الإداري من محسوبيات ووساطات وتفضيل ناس على ناس دون وجه حق في الكثير من المهن والمناصب مثل الجيش والقضاء والبوليس، كذلك جرائم مثل إلغاء الدستور، وحل البرلمانات، وتعطيل الصحف، واعتقال المعارضين، وملاحقتهم وتعذيبهم في السجون، كل ذلك وأكثر منه حدث في العقود الثلاثة التي أعقبت ثورة 1919، لكنه -رغم فداحته- يظل هينا ويسيرا بما تجرأت عليه ثورة ثم دولة 23 يوليو 1952 في كل طبعاتها منذ قامت إلى أن أخذت اسم الجمهورية الجديدة من منتصف 2014 وما بعدها، ساعد على هذه الجرأة أن ثورة يوليو لم تكن مضطرة للتعايش مع خصومها بما يضعه ذلك من قيود على حريتها المطلقة في التصرف، تخلصت بالقوة من كل الخصوم، فلم تعد مضطرة لأي توازنات ولا مضطرة لقبول حلول وسط ولا مضطرة للعودة إلى الشعب، بقدر ما كانت ثورة 1919 ليس عندها من خيار غير الالتزام بالدستور والدفاع عنه والتمسك بالقانون والتحصن واللجوء إلى الشعب والاحتماء به، هذا فرق جوهري بين الثورتين.

3-  ثورة 1919 لم تحسم هدفيها الكبيرين: الاستقلال والدستور، لكنها أخلصت لهما، وشكلت حقبة مشرفة ومضيئة في تاريخ التطور الديمقراطي حصوصا والحضاري على وجه العموم، ثورة 23 يوليو حسمت مطلب الاستقلال في الداخل ثم كانت قائدا مهما لثورات التحرر الوطني ومكافحة الاستعمار ومقاومة الأحلاف الأجنبية في الخارج، لكنها من زاوية الدستور والديمقراطية وحكم القانون واحترام الحريات لم تكن أكثر من ثورة مضادة ليس فيها ما يشرفها ولا يشرف مصر والمصريين، وتحت ستار الزعم أن الديمقراطية الاجتماعية ممكن بناؤها دون ديمقراطية سياسية تم تأسيس ديكتاتورية عميقة ربما تحتاج مصر أحقابا من الزمن حتى تتخلص مما تركته من آثار سيئة في مفاصل الدولة والمجتمع، ويحكي سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة -الذي كتب مع السنهوري باشا- وثيقة تنازل الملك عن العرش، يحكي في كتابه “ذكرياتي عن الثورة” الصادر عن دار الشروق في طبعة 2008، في ص 89 إذ اعترض مجلس الدولة على أحد مطالب الضباط الأحرار، فقال أحدهم: “لن نقبل أن يتحكم فينا مجلس الدولة” فرد عليه سليمان حافظ بالقول: “هذا ما كان الملك فاروق يقوله وكنا نأخذه عليه ونعتبره أبشع أنواع الطغيان”. انتهى الاقتباس من كتاب سليمان حافظ. باختصار شديد: ثورة 23 يوليو ورثت الفكر الوطني عن مدرسة الوفد مع مذاق شعبوي غير ديمقراطي من مدرستي الإخوان ومصر الفتاة، لكنها ورثت ديكتاتورية الملك عن أبيه الملك فؤاد عن جده الخديو إسماعيل عن جده إبراهيم باشا عن جدهم الأكبر محمد علي باشا، جمعت ثورة 23 يوليو بين وطنية الثورات التي سبقتها، لكنها احتفظت بديكتاتورية محمد علي باشا وسلالته، فانتهت خديوية قديمة، وحلت محلها خديوية جديدة مستمرة حتى كتابة هذه السطور، وهنا سقطت الديمقراطية من اعتبار ثورة يوليو ودولتها وكل حكام مصر من ضباط الجيش دون استثناء.

***

لم يكن الملكان فؤاد ثم فاروق ولا من حولهما على دراية أن نزوعهما الديكتاتوري هو نواة التدمير الذاتي للسلالة الحاكمة بكاملها.

لم يكن ضباط ثورة يوليو ومن ورثهم من حكام دولة يوليو على دراية أن نزوعهم المضاد للديمقراطية هو نواة تدمير ذاتي.

لم يكن مبارك ومعه نجله يدريان أن تخليد الأب وتوريث النجل هو نواة تدمير ذاتي.

غفلت، ومازالت، تغفل الجمهورية الجديدة من 2014 وما بعدها أن عداءها للديمقراطية يحمل لها بذرة الدمار الذاتي.

الديكتاتورية رغم قوتها تظل بيتا من زجاج أهم خصائصه قبول الكسر وإذا انكسر فقد انكسر.

***

تفصيل ذلك في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.