في 29 أغسطس/ آب، أعلن رجل الدين الشيعي العراقي البارز مقتدى الصدر انسحابه من الحياة السياسة. وذلك بعد أشهر من المحاولات الفاشلة لتشكيل حكومة جديدة. عندها، خرج الآلاف من أنصار الصدر -الذي برز كمعارض قوي للميليشيات المدعومة من إيران في العراق- غاضبين إلى الشوارع.

اشتبك أنصار الصدر مع قوات الأمن العراقية، وخرقوا الحواجز الخرسانية حول المنطقة الخضراء في بغداد، واقتحموا مقر الحكومة. بدا وكأن الفوضى في طريقها للعودة إلى العراق، بعد مقتل العشرات من الأشخاص. لولا أن ظهر الصدر على الشاشات، وأصدر تعليماته لمؤيديه بالعودة إلى ديارهم.

يدعي الصدر أنه تقاعد من السياسة لكنه قد يعمل على الاستفادة من سياسة حافة الهاوية واحتجاجات الشوارع، للسيطرة على منافسيه

منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بدا أن النظام السياسي العراقي وصل إلى طريق مسدود. عندما أجرت البلاد انتخاباتها البرلمانية الخامسة، منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. لم تنجح أية كتلة في تشكيل حكومة. بينما لم ينشب الصراع بين الطوائف أو الجماعات العرقية المتنافسة، ولكن داخل أكبر مجتمع في العراق، الشيعة المنقسمون حول علاقة بلادهم بإيران.

في تحليله، يلفت محمد بازي، مدير مركز هاكوب كيفوركيان لدراسات الشرق الأدنى، وأستاذ الصحافة المشارك بجامعة نيويورك. إلى أن الصدر “يدعي أنه تقاعد من السياسة، لكن من المرجح أنه يعمل على الاستفادة من سياسة حافة الهاوية، واحتجاجات الشوارع، للسيطرة على منافسيه”.

اقرأ أيضا: العراق.. مران مصغر لصدام “شيعي – شيعي”

يدلل بازي على وجهة نظره بالتصريحات المماثلة التي أصدرها الصدر في الماضي “لكنه لم ينسحب قط من المجال السياسي. ويسعى إلى ترسيخ نفسه كوسيط سلطة شيعي بلا منازع في العراق. والهيمنة على نظام تقاسم السلطة الطائفي، الذي كان قائماً منذ فترة وجيزة، بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين البعثي”.

يقول: على الرغم من أن الصدر قد صاغ لعبته في السلطة على أنها حملة لا هوادة فيها ضد الطبقة السياسية الفاسدة. التي تدين بالفضل لإيران والقوى الأجنبية الأخرى، فإن مناورته تشكل خطرًا آخر على الدولة العراقية الهشة.

على خطى والده

ظهر الصدر، الذي وصفه بازي في بدايته بأنه كان “رجل دين متهور وغير معروف”، لأول مرة في عام 2003 في النجف. وهي مركز العقيدة الشيعية في العراق، حيث أصبح سريعا أحد أكثر أعداء واشنطن إثارة في العراق. بعد أن قاتلت ميليشياته “جيش المهدي” ضد القوات الأمريكية لسنوات، وقتلت مئات الجنود الأمريكيين.

أثبت الصدر مهارته بشكل ملحوظ عندما استطاع تحويل نسبه الديني -بصفته وريثًا لإحدى العائلات الدينية الشيعية الأكثر شهرة في العالم-إلى قوة صلبة. جعلت خصومه يجب أن يفكروا مرتين قبل أن يحاسبوه. بعد ان عمل على مدى عقدين من الزمن لملء فراغ في السلطة داخل المجتمع الشيعي. أوجده آية الله العظمى علي السيستاني -رجل الدين الأكثر احتراما في البلاد- وعلماء الدين الشيعة الآخرون، الذين يتجنبون المشاركة السياسية المباشرة.

يقول بازي: سعى -الصدر- منذ البداية إلى الجمع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. على الرغم من امتلاكه لمؤهلات دينية محدودة، وازدراء واضح لسنوات الدراسة تحت إشراف كبار رجال الدين للحصول على لقب “آية الله”. بدون هذه المؤهلات، لا يمكن للصدر أن يصدر فتاوى دينية أو أن يكون مرجعا، أي مثالا يحتذي به المؤمنون الشيعة.

ولكن، باعتباره الابن الوحيد الباقي لآية الله العظمى محمد صادق الصدر. وهو رجل دين شيعي بارز تحدى النظام البعثي حتى اغتياله في عام 1999، تمكن الصدر الأصغر من أن يسير على خطى والده كزعيم سياسي للتيار الصدري.

ويضيف: منذ الغزو الأمريكي، كان الصدر الزعيم العراقي الأكثر مهارة في التنقل بين السياسة والسلطة الدينية، وهي حقيقة يمكن أن تفسر مناورته الأخيرة.

اقرأ أيضًا: مقتدى الصدر.. براجماتية متقلبة المسارات.. والسلطة من وراء القصد

تحدي طهران

لم يشرع الصدر في احتجاجات دموية في الشوارع حتى واجه تهديدًا يتجاوز السياسة. وهو تهديد لشرعيته الدينية، التي اكتسبها بالوراثة، وعمل على تضخيمها.

قبل يوم واحد من إعلان الصدر عن تقاعده من السياسة، أعلن آية الله العظمى كاظم الحائري -المقيم في إيران والذي كان بمثابة مرشد روحي لكثير من أعضاء التيار الصدري- عن تنحيه بسبب تدهور صحته. ولكن، بدلاً من دعوة أتباعه إلى نقل ولائهم لشخص قد يكون متعاطفًا مع الصدر. نصحهم الحائري باتباع المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي.

يؤكد بازي أن هذه كانت خطوة غير عادية “معظم آيات الله العظمى يأمرون أتباعهم بتقليد كبار رجال الدين الآخرين فقط بعد وفاتهم. وعادة ما تمتلئ تصريحات آيات الله العظمى بالادعاءات الدينية، في حين أن تصريحات الحائري كانت انتقادية ضمنيًا للصدر. من دون أن يسميه، قال الحائري إن الصدر خاطر بتمزيق العراق والأغلبية الشيعية فيه. كما أشار إلى أنه يفتقر إلى المؤهلات اللازمة للقيادة الدينية”.

وأضاف: تحدى الحائري مكانة رجل الدين الأصغر باعتباره وريثًا لإرث عائلته. لذلك، في خطابه الذي دعا فيه إلى إنهاء التظاهرات الأخيرة، زعم الصدر أن المسئولين الإيرانيين، وخصومه الشيعة المدعومين من إيران، كانوا وراء انتقادات الحائري.

يعكس هذا الطعن بالظهر فراغ السلطة المتنامي داخل المجتمع الشيعي في العراق، وهو فراغ انفتح مع تضاؤل ​​النفوذ الإيراني في البلاد. قبل هذا، ولسنوات، أرسل المرشد الأعلى الإيراني الجنرال قاسم سليماني -قائد وحدة العمليات الخارجية في الحرس الثوري- إلى العراق لإبقاء أنصار طهران في الصف. لكن، بعد أن قتلت الولايات المتحدة سليماني، في غارة بطائرة بدون طيار في عام 2020. فقدت إيران قوة مهمة على حلفائها العراقيين.

يقول مدير مركز هاكوب كيفوركيان لدراسات الشرق الأدنى: كان خليفة سليماني أقل نجاحًا في منع الفصائل الشيعية في العراق -وخاصة الصدريين- من تحدي طهران.

استطاع الصدر تحويل نسبه الديني إلى قوة صلبة جعلت خصومه يجب أن يفكروا مرتين قبل أن يحاسبوه

اقرأ أيضا: لماذا لا يحتاج العراق إلى انتخابات مبكرة أخرى؟

ثورة عاشوراء

في تقدير موقف  بعنوان “العراق: من الانسداد السياسي إلى الاحتراب الأهلي”. وصف هذا “التقدير” قرار نواب الصدر بالاستقالة في 12 يونيو/ حزيران، امتثالًا لقرار زعيمهم. الذي برر انسحابه بـ “عدم رغبته في المشاركة مع الساسة الفاسدين في إدارة شؤون البلاد”، هذه الخطوة بأنها “مقدمةً لانتقال الصراع من الإطار المؤسسي إلى الشارع”.

ففي 27 يوليو/ تموز، اقتحم عشرات الآلاف من أتباع الصدر مبنى مجلس النواب العراقي. كما دخلوا في اعتصام مفتوح في مبنى المجلس ومحيطه. ثم اقتحموا مقر مجلس القضاء الأعلى في بغداد، واعتصموا أمامه في 23 أغسطس/ آب 2022. وقد عبّر أنصار التيار الصدري بتحركهم هذا عن رفض ترشيح الإطار التنسيقي (تجمع شيعي مناوئ للصدر) -الذي أصبح الكتلة الأكبر في مجلس النواب- بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، محمد شياع السوداني، لرئاسة الحكومة الجديدة.

وأشار “التقدير” إلى أن انسحاب نواب الكتلة الصدرية “يشكّل جزءًا من استراتيجية يعتمد فيها زعيمها -الذي يستمد جزءًا مهمًّا من قوته من كونه سليل عائلة سياسية ودينية عراقية مؤثّرة- على قدرته على الحشد والتعبئة داخل الشارع الشيعي”. وهو يستند إلى الاستياء العام في الشارع العراقي، الناجم عن فشل الحكومات المتعاقبة في التصدي للأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة.

استعمل الصدر هذه الاستراتيجية في احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، عندما طلب من أنصاره دعم الاحتجاجات ومطالبها بتغيير “الطبقة السياسية الفاسدة”، والعمل على تشكيل حكومة جديدة. قبل أن يعود ويطلب من مؤيديه الانسحاب من ساحات التظاهر في ساحة التحرير والساحات الأخرى في المحافظات العراقية، لدعم مقترحه “تجديد الثورة الإصلاحية السلمية”.

لذلك، يُعتقَد أن الصدر ربما يسعى إلى الإطاحة بالنظام السياسي الذي تأسس عام 2003. ومن هنا، أطلق التيار على حراكه الاحتجاجي الجديد اسم “ثورة عاشوراء”.

كراهية المالكي

تنبع الأزمة السياسية الحالية في العراق من فشل الصدر في تشكيل الحكومة. بعد فوزه بأكبر حصة من المقاعد في البرلمان المكون من 329 مقعدًا. فتاريخيًا، اندمجت الفصائل الشيعية في العراق بعد الانتخابات -غالبًا بمساعدة إيران- لتشكيل كتلة كبيرة، وتوزيع الوزارات الحكومية العليا. وفي نهاية المطاف انضمت الأحزاب السنية والكردية.

لكن بدعم من 73 نائباً فقط، حاول الصدر تشكيل حكومة ائتلافية مع الفصائل السنية والكردية وتجميد خصومه الشيعة.

يقول بازي: لو نجح، لكان أنصاره ادّعوا أن الصدر قلب نظام تقاسم السلطة العرقي والطائفي الذي لا يحظى بشعبية كبيرة -المعروف باسم المحاصصة- الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها العراقيون بعد الغزو. لكن الصدر يحاول في الواقع تعزيز هذا النظام تحت سيطرته، وليس تدميره.

يكره الصدر بشكل خاص التحالف مع نوري المالكي، الذي فازت كتلته بـ 33 مقعدا في انتخابات العام الماضي. وهي ثاني أعلى نسبة بين الفصائل الشيعية بعد الصدريين. كان المالكي -الذي شغل منصب رئيس الوزراء من 2006 إلى 2014- مسئولاً عن العديد من السياسات التي أبعدت السنة وأضعفت قوات الأمن العراقية وسمحت لتنظيم لدولة الإسلامية “داعش” بالسيطرة على ما يقرب من ثلث البلاد.

لكن، يوضح الباحث الإيراني أن منافسة الصدر مع رئيس الوزراء السابق لا تتعلق فقط بسجل المالكي، بل هو أمر شخصي. ففي عام 2008، أمر المالكي -بدعم من المسئولين الأمريكيين- قوات الأمن العراقية بمحاربة ميليشيا الصدر في جنوب العراق “ولم يغفر رجل الدين للمالكي الإضرار بحركته في ذروة الحرب الأهلية في العراق”.