في أغسطس/آب 2021، حينما انهارت الحكومة الأفغانية وفر الرئيس أشرف غني من البلاد مُعلنا عودة حركة “طالبان” إلى الحكم، بدا أن دولة قطر أكثر المستفيدين من تلك العودة بعدما استضافت قادتها في المنفى لأكثر من عشرة أعوام.

ووسط فوضى الانسحاب الأمريكي، انتهزت قطر الفرصة للاستفادة من الشبكات التي طورتها مع طالبان ولعبت الدور الأهم في إجلاء الرعايا الأجانب. ثم اضطرت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون إلى نقل سفاراتهم من أفغانستان إلى الدوحة، مما جعل العاصمة القطرية البوابة الجديدة لأفغانستان.

وكانت قطر والإمارات والسعودية من أوائل الدول التي فتحت سفاراتها في كابول، وبالمثل، أعادت حركة طالبان إنشاء سفارات أفغانية في تلك الدول الثلاث من أصل 8 دول فقط.

لكن بعد مُضي أكثر من عام على تلك العودة، يبدو أن بساط النفوذ القطري يُسحب تدريجيا من تحت أقدامها لصالح جارتها اللدود الإمارات. وتجلى ذلك -في الثامن سبتمبر/أيلول الجاري- حينما أعلنت إدارة طالبان أنها ستوقع العقد الرئيسي الثالث والأخير لإدارة مطارات أفغانستان مع شركة GAAC القابضة الإماراتية، لمدة عشر سنوات. وهو ما “سيمنح أبو ظبي فوزًا في صراعها الدبلوماسي مع قطر على النفوذ”، بتعبير وكالة “رويترز“. وذلك بعدما فشلت المفاوضات القطرية مع الحركة لإدارة المطار.

اقرأ أيضا: عام على حكم طالبان: بعضٌ من الأمن وقليلٌ من الأمل

“الحقانيون” كمدخل للنفوذ الإماراتي

النفوذ الإماراتي المتصاعد في أفغانستان يقابله بعض من التهميش للنفوذ القطري، إثر سيطرة ما يشار إليهم بـ”الجناح المتشدد” في طالبان على الحكم -يُقصد “شبكة حقاني” التي تصنفها الولايات المتحدة إرهابية- في مقابل تهميش لجناح “المعتدلين” أو البراجماتيين، الذي تزعمه المُلا عبد الغني برادر، قائد مفاوضات الدوحة مع الولايات المتحدة.

وبعدما كان برادر الوجه الإعلامي الأبرز للحركة عند عودتها للحكم وتم وصفه بـ”الزعيم الفعلي” لأفغانستان، فإنه الآن يندر ظهوره وتصريحاته، وذلك منذ منحه منصب نائب رئيس الحكومة.

وكانت تقارير غربية أشارت إلى أن برادر تعرض للضرب على يد أحد قيادات شبكة حقاني العام الماضي خلال المفاوضات الداخلية لتشكيل أول حكومة للحركة. إذ كان يدفع باتجاه تشكيل حكومة “شاملة” تضم قادة من غير طالبان وأقليات عرقية. ودخل في نقاش حاد مع خليل الرحمن حقاني -وزير شؤون اللاجئين و شقيق جلال الدين حقاني مؤسس الشبكة- ليقوم الأخير من كرسيه ويبدأ في توجيه اللكمات لبرادر. وتطور الأمر ليصل إلى اشتباكات بالرصاص بين الحراس الشخصيين للقائدين.

اقرأ أيضا – مشاهدات داخل أفغانستان: المعاني المختلفة لحكم طالبان

أظهرت هذه الواقعة، مدى السيطرة التي تتمتع بها شبكة حقاني، وهي التي قادت تمرد طالبان ضد الاحتلال الأمريكي لعشرين عاما. وذكرت تقارير أن الحقانيين يرون أنهم من تحملوا كُلفة المواجهة طوال تلك الأعوام وتواجدوا داخل البلاد بينما كان المنفيون “متنعمين” في الخارج.. وبالفعل اقتصرت الحكومة على أفراد الحركة فقط ولم تكن “شاملة”.

وهنا، برزت أبوظبي كوسيط آخر في أفغانستان ينافس قطر بطريقة متزايدة. والخطوة الأولى للحفاظ على موطئ قدم كانت تقديم اللجوء لأشرف غني، الرئيس الأفغاني الهارب، في صيف 2021. ثم تبعتها بالخطوة الأهم: إعادة بناء شبكاتها الشخصية مع شبكة حقاني.

يُذكر أن السعودية حاولت مرارًا إقناع الحركة بمتابعة المفاوضات على أرضها، لكن الأخيرة لم تكن متفائلة حيال حيادية الحكام السعوديين وفضلت التعامل مع القطريين. واستنادا إلى تقرير تم تسريبه إلى صحيفة “نيويورك تايمز”، نافست الإمارات بدورها قطر على موقع مكتب حركة “طالبان” السياسي. غير أن المنافسة لم تتوقف عند ذلك الحد؛ ففي العام 2018، استضافت أبو ظبي جولة محادثات (غير مباشرة) بين الحركة ومسؤولين أمريكيين، ولكنها لم تُكلل بالنجاح لاحقا.

الفوز بعقد المطار كدليل على سحب البساط

مصادر قالت لشبكة “يورونيوز” في يوليو/تموز الماضي، إنه بعد شهور من المحادثات، التي شهدت في وقت ما احتمال إبرام صفقة مشتركة بين الإمارات وتركيا وقطر، سلمت طالبان العمليات برمتها إلى الإمارات فقط، والتي سبق لها إدارة مطارات أفغانية.

وأضافت المصادر أنه بموجب الاتفاق مع الإمارات، سيتم توظيف الأفغان في المطارات، وذلك يشمل أدوارا أمنية، وهو معيار مهم لطالبان التي تعارض بشدة وجود قوات أجنبية. وأن متعاقدا إماراتيا مرتبطا بالدولة سيقدم أيضا خدمات أمنية.

وفازت الهيئة العامة للطيران المدني في الإمارات، التي شاركت في إدارة الخدمات الأرضية والأمن في المطارات الأفغانية قبل سيطرة طالبان، بعقد الخدمات الأرضية في مايو/أيار بعد فترة وجيزة من زيارة مسؤولي طالبان لأبوظبي.

اقرأ أيضا: طالبان كرافعة لـ”الجهاد المحلي”: هيئة تحرير الشام نموذجًا

وأضافت المصادر أنه في الأشهر التي سبقت إرساء عقد الخدمات الأرضية، أجرت طالبان مرارا تغييرات غير مبررة على فريقها الذي يتفاوض مع قطر وتركيا. وقالوا إن طالبان سعت بعد ذلك إلى تغيير الشروط المتفق عليها من خلال زيادة رسوم المطارات والضرائب وإضعاف سيطرة قطر وتركيا على تحصيل الإيرادات.

يرى مسئولون غربيون أن أبوظبي تنظر إلى أفغانستان، التي تشترك في حدود برية كبيرة مع إيران جارتها على الجانب الآخر من الخليج، على أنها “جزء من فنائها الخلفي الأوسع”. ولذا تعتقد أن لها مصالح مشروعة في الاستقرار السياسي والاقتصادي للبلاد.

كما يقول المسئولون إن الإمارات حريصة على مواجهة النفوذ القطري في أفغانستان، حيث نالت قطر إشادة من الدول الغربية لكونها بوابة لطالبان لكنها تعد خصما لأبوظبي في الصراع على النفوذ الإقليمي.. “يبدو أن علاقة قطر بطالبان متوترة الآن.. المتشددين أصبحوا قلقين من الاعتماد المفرط على دولة واحدة”، تشير الشبكة الفرنسية.

كيف نسجت الإمارات علاقاتها مع “الحقانيين”؟

بحسب أندرياس كريج، أستاذ مساعد في قسم الدراسات الدفاعية في “كينجز كوليدج لندن” ومستشار مخاطر استراتيجية، فإنه “على عكس قطر التي يقتصر نفوذها على طالبان على الأفراد الأكثر براجماتية، فللإمارات علاقات طويلة الأمد مع حقاني تعود إلى الثمانينيات”.

وتولى سراج الدين حقاني، نجل مؤسس الشبكة، وزارة الداخلية ويتحكم في المناصب الوزارية الرئيسية للأمن الداخلي والاستخبارات. ويتزامن صعود سراج الدين، الذي لا يزال على قائمة المطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، مع تراجع النفوذ القطري على سياسات طالبان. إذ تم تهميش العديد من عناصر الحركة ممن عاشوا في قطر، لصالح الجهات الفاعلة الأقرب إلى الشبكات القبلية في شمال شرق وجنوب شرق أفغانستان.

ويقول كريج على موقع “ميدل إيست آي“: “كانت أبو ظبي حريصة على تنمية شبكاتها الخاصة بالقرب من صانعي الملوك الجدد في كابول. منذ أوائل الثمانينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اعتمدت شبكة حقاني على الإمارات كمركز لغسيل الأموال والتجنيد. ومن خلال شركات وهمية وشبكة من المغتربين الأفغان الموثوق بهم، قام حقاني ببناء بنية تحتية صلبة في الإمارات لتمويل عملياتهم لتحويل مجموعة طالبان الفرعية إلى القوة القتالية الأكثر فاعلية للتمرد”.

وفي حين استجابت الإمارات للضغوط الأمريكية في سنة 2014 من خلال إدراج شبكة حقاني في القائمة السوداء، “من المحتمل أن هذه العمليات ظلت تعمل في كنف السريّة” مع تكهن بعض المحللين بأن عمليات غسيل الأموال غير الرسمية لشبكة حقاني عبر الإمارات لم تتوقف أبدًا.

سراج الدين حقاني

سراج الدين حقانيويلفت الباحث البريطاني إلى أن التعاطف الشخصي مع الإمارات -التي كانت بين 3 دول فقط اعترفت بطالبان في فترتها الأولى- عميقًا لدرجة أن مؤسس الشبكة جلال الدين تزوج امرأة عربية من الإمارات وأنجب منها ابنا واحدا على الأقل، وهو سراج الدين وزير الداخلية الحالي. ويُعتقد أن سراج الدين قضى فترات طويلة في الإمارات في زيارة والدته وتعلم اللغة العربية والتفاعل مع المجندين الأجانب.

في يناير/كانون الثاني 2017، قُتل السفير الإماراتي وأربعة دبلوماسيين إماراتيين آخرين بقنبلة في قندهار. و يُعتقد أن وكلاء حقاني هم المنفذون ما أدى إلى تراجع العلاقات بين الإمارات وحقاني حتى لو لم يستهدف الهجوم الدبلوماسيين الإماراتيين على الأرجح.

ومع ذلك، عاودت الإمارات الانخراط في الشأن الأفغاني في 2021 من خلال المساعدات الإنسانية بعد استيلاء طالبان على السلطة. وأجلت الإمارات آنذاك 9 آلاف أفغاني كانوا في طريقهم إلى دول ثالثة، إضافة إلى تخصيصها “مدينة الإمارات الإنسانية” في أبوظبي مكانا لإقامتهم.

وحين ضرب زلزال مدينة بكتيكا جنوب شرقي أفغانستان في يونيو/حزيران 2022، ما أدى إلى مقتل المئات، سارعت الإمارات إلى تقديم مساعدات عاجلة. كما قدمت حتى الآن مئات الأطنان من المساعدات الغذائية والطبية.

ووفقا لعدة مصادر في كابول -تحدثت مع كريج- تواصلت سفارة الإمارات بشكل منهجي مع الحماة الرئيسيين لشبكة حقاني في معقل قبيلتهم شرق أفغانستان في خوست ولويا باكتيا. وهناك مزاعم بأن دبلوماسيين إماراتيين أقاموا علاقات وثيقة مع حاكم ولاية خوست الذي يُعتقد أيضا أنه صديق شخصي لسراج الدين حقاني. وتزعم مصادر أخرى أن سفارة الإمارات لها اتصالات كذلك بالمساعد الشخصي لسراج الدين منذ السنة الماضية.

أفغانستان كجزء من استراتيجية الإمارات التجارية

مع فشل المفاوضات القطرية التركية مع طالبان بشأن إدارة مطار كابول في وقت سابق من هذه السنة بسبب المطالب القطرية والتركية لمواصلة إدارة أمن المطار، كان لدى الإمارات التواصلات للتأثير والضغط على وزارة الداخلية من خلال سراج الدين لتظفر بالعقد، وفقا للباحث البريطاني. وعلى عكس منافسيها، لم تضع أبو ظبي أي شروط على العقد، مما سمح لشبكة حقاني بإدارة أمن المطار.

ونظرًا لأن آسيا الوسطى أصبحت أرضية رئيسية لبناء شبكة تجارية في الإمارات والتعاون الصيني الإماراتي، فإنه من المنطقي أن تصبح طموحات أبوظبي محاورا صينيا رئيسيا في المنطقة. “بعد كل شيء، على عكس قطر التي عملت كوسيط محايد في النزاع تقع أفغانستان في قلب استراتيجية الإمارات التجارية الكبرى لربط المصالح اللوجستية وسلاسل التوريد في آسيا الوسطى -وهو أمر تديره شبكة حقاني الآن ما يُسعد طالبان بالاستفادة منها”.

اقرأ أيضا – الصين وطالبان: شراكة لا تبدو بهذه المثالية

تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” إنه في أعقاب وصول طالبان للحكم، كثفت الإمارات والسعودية من انخراطهم مع طالبان. واستأنف كلا البلدين عمليات سفارتيهما في كابول. وقد سمحت الإمارات، على وجه الخصوص، برحلات تجارية متكررة إلى كابول بهدف العودة إلى وضعها السابق كبوابة رئيسية إلى أفغانستان.

وفي محاولة لكسب الثقة مع طالبان، أكدت الإمارات أن الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني لن يُسمح له بالمشاركة في أي نشاط سياسي. وقال المتحدث باسم طالبان إن “هذه الرسالة أوضحها الإماراتيون بشكل خاص للسيد غني في وقت مبكر”.

ومع وجود عدد كبير من الأفغان في الشتات بالدول الخليجية وروابطهم التاريخية بأفغانستان، يقول عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية الإماراتي البارز (المقيم في دبي التي تبعد ثلاث ساعات بالطائرة من كابول): “الأشياء التي تحدث هناك يتردد صداها هنا. هذه المخاوف توحدنا جميعا في الخليج”، مشيرا إلى المصالح الأمنية والمالية والإنسانية.

وتضيف الصحيفة الأمريكية أن النخبة الأفغانية الجديدة -في أعقاب سقوط طالبان عام 2001- استثمرت أموالها في العقارات في دبي، ولا سيما الفيلات الفاخرة في جزيرة نخلة جميرا الاصطناعية. فيما قال أحد الأشخاص الذين شاركوا في محادثات السلام الخاصة بطالبان: “كان المكتب السياسي في الدوحة، لكنهم كانوا يسافرون كل شهر إلى دبي”.