باعتبارها قضية أمن قومي تحركت مصر في أزمة سد النهضة منذ خطت إثيوبيا خطوات متقدمة في مشروعها ذاك متجاوزة قواعد القانون الدولي والاتفاقيات التاريخية الموقعة بينها كدولة منبع وبين مصر والسودان كدولتَي مصب.
واختارت مصر المسار الدبلوماسي المستدام. لكن السؤال المطروح دائما على ألسنة المصريين: إلى أي مدى كانت فاعلية هذا التحرك في مواجهة سياسة الأمر الواقع الإثيوبية حيال حقوق مصر التاريخية والمستقبلية المتعلقة بحق الأجيال القادمة في حصة مياه؟
“مصر 360” حاولت أن تجيب عن السؤال المتقدم عبر هذا الملف الذي يقف عند اللحظة الراهنة وما آلت إليه تحركات مصر حيال هذا الخطر الوجودي.
موازين جديدة
تحت عنوان “تأثير تحركات مصر في شرق أفريقيا على سد النهضة” قالت الدكتورة أماني الطويل -الباحثة المتخصصة في الشأن الأفريقي- إن الصعود الإقليمي لإثيوبيا يمثل تغيرا مهما ومؤثرا في المصالح المصرية المرتبطة بالقارة السمراء.
ولفتت إلى صعود ميليس زيناوي إلى حكم إثيوبيا عام 1991 كأب لمشروع قومي يتجاوز معضلة التعدد العرقي والإثني والديني. فتم اعتماد مشروع سد النهضة لحشد الدعم الداخلي في بيئة منقسمة لإيجاد رابط قومي في بلد يفتقد الاندماج الوطني.
وقد وحدت إثيوبيا خلفها غالبية دول منابع النهر. مع تحييد السودان مرحليا بفك تحالفها مع مصر. وهنا أعادت مصر تموضعها -حسب “الطويل”- في شرق القارة. مع تنشيط أدوات التعاون الاقتصادي في عموم أفريقيا وشرقها وحوض النيل خصوصا.
التموضع العسكري الجديد لمصر بدا في إنشاء الأسطول الجنوبي في قاعدة سفاجا البحرية عام 2017. فضلا عن تمركز أربع سفن حربية مصرية في إحدى جُزر باب المندب. وبدأ مسار تغيير موازين القوى عبر آليات إقليمية. بدعم السودان لوجستيا في مجالات البنية التحتية والنقل والصحة. ومساعدة سلاح المهندسين السوداني لضمان سيطرته على كامل ترابه مع فيضان نهر القاش بين الحدود السودانية والإثيوبية. فضلا عن التوسع في الاتفاقات العسكرية المصرية مع كل من كينيا وأوغندا وبوروندي. فيما لم تنجح مساعٍ مشابهة مع الصومال وجنوب السودان بسبب تدخلات خليجية وتركية.
للاطلاع على الملف كاملا برجاء اضغط هنا
تحركات رئاسية
بدأ هذا المسار بزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي دولة جيبوتي. وهو أول رئيس مصري يزور جيبوتي -البلد المحوري على خليج عدن ومناطق وجزُر باب المندب- باعتبارها بوابة ضرورية لأمن البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس.
اقتصاديا تحركت مصر عبر إنشاء صندوق مخاطر الاستثمار في أفريقيا. وذلك تحسبا لتوقف مشروعات أو حدوث خسارات نتيجة ظروف سياسية تكتظ بها القارة كالنزاعات المسلحة. فضلا عن استحواذات بنكية وفتح فروع لبنوك مصرية في دول أفريقيا. ما يدفع قطاع الاستثمارات المصرية لينطلق في القارة. وكان الاستهداف الأكبر هنا لدولة كينيا. التي تعتبر مدخلا لتجارة دول الإقليم عبر ميناء مومباسا. خصوصا دول أوغندا وبوروندي ورواندا وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية.
موت السياسة
الدكتور حمدي عبد الرحمن -أستاذ العلوم السياسية- يلخص الموقف التفاوضي بين مصر والسودان وإثيوبيا في أزمة سد النهضة بـ”يبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء”. لكن وضع السد يتغير كل يوم بالبناء والملء دون توافق دولتي المصب. وبالتالي تربح إثيوبيا الوقت والأمر الواقع.
اكتمل 80% من بناء السد -وفق بيانات إثيوبية- فضلا عن الاستعداد لتشغيل أول توربينين لإنتاج الكهرباء. فتحتفل إثيوبيا وتواصل مصر تحذيراتها المعلنة بأن مياه النيل “خط أحمر“.
إثيوبيا -بحسب “عبد الرحمن”- ترفع شعار “المياه مياهنا والسد سدنا”. وترى مشروع السد متعلقا بسيادتها الوطنية ولا تعترف باتفاقيات تمت “في وقت الاستعمار” حسب قولها. أما رواية المصريين فلا تعترف إلا بأن النيل مسألة حياة أو موت لمصر. إنها قضية أمن قومي. أما فنيا فتعتبر مصر أن سد النهضة له أثر بيئي واقتصادي سلبي على تدفق المياه سنويا إلى أراضيها. اعتمادا على سيناريوهات ملء خزان السد.
ويشير “عبد الرحمن” إلى فكرة “موت السياسة والتفاوض حول السد”. خاصة مع استشهاد أحفاد منليك/أول إمبراطور للحبشة باقتباسات من وثائق في عصور قديمة. ومنها الكتاب المقدس تزعم أن “الله قد أعطى مياه النيل لإثيوبيا فأصبحت خالصة لهم”.
وربما يكون سبب فشل الحلول الدبلوماسية للأزمة منذ 2011 حتى اليوم سعي إثيوبيا لهيمنة إقليمية وتغيير خريطة توازنات القوى في حوض النيل.
للاطلاع على الملف كاملا برجاء اضغط هنا
الصدام العسكري
يؤكد “عبد الرحمن” أن من المستحيل وقوع صراع عسكري في المستقبل القريب بسبب الأزمة. فالسودان متعثر في فترته الانتقالية. والتوافق السوداني الإثيوبي ليس بعيدًا. وعليه يمكن أن يشهد نزاع السد “تجميدا” ولو إلى حين. بما أن كل الوسطاء من أمريكا حتى الاتحاد الأوروبي لم يتمكنوا من صنع اختراق تفاوضي في الأزمة. فضلا عن فشل ذريع يقوده الاتحاد الأفريقي عبر وساطة غير مُجدية. حتى الوساطة الجزائرية التي طلبتها إثيوبيا -بحسب الباحثة زينب مصطفى- لا يمكن تخيل مصيرها وسط تعنت إثيوبي مستدام لإفشال أي تفاوض. إذ أظهرت قضية السد افتقاد إثيوبيا إرادة سياسية لإنجاح أي جهود دبلوماسية حتى من الجزائر التي ينطبق عليها وصف “الوسيط المثالي”. والذي يتمتع بعلاقات ممتازة مع الأطراف الثلاثة لا تخلو من حيادية وخبرة طويلة في حل أزمات عبر أنحاء مختلفة من القارة، وإن كانت هذه العلاقات لا تخلو من منغصات بين حين وحين مع مصر.
حرب باردة
إجماليا يبدو أن حوض النيل سيشهد ما يمكن تسميته “حربا باردة” للاستقطاب والنفوذ والمصالح. وقد يطول مداها نظرا لسعي الجميع للاستفادة وتعظيم مصالحه. أما وقد وصلت الحلول التفاوضية إلى طريق مسدود -وهذا ما تبدو الأمور تسير إليه- فلن يكون أمام مصر والسودان إلا البحث عن بديل لحفظ الأمن المائي لشعبَي وادي النيل. وهذا من شأنه زعزعة استقرار الإقليم وإعاقة التنمية في أفريقيا وإثارة موجات من اللاجئين.
الخليج وتركيا
القوى الإقليمية لم تُفد مصر في أزمة السد أمام إثيوبيا. حتى من تسميهم القاهرة “حلفاءها الاستراتيجيين”.
فتركيا أعطت بعضا من التوازن والاتزان لأديس أبابا. خاصة بعد تقدم القاهرة في خطوات مشروع غاز شرق المتوسط. فقد دعمت أنقرة -كما يوضح الدكتور محمد عبد الكريم المختص بالتاريخ الأفريقي- أديس أبابا بالخبرات اللازمة لبناء سد النهضة. أما الرياض فكانت صاحبة الموقف الخليجي الأكثر وضوحًا (نظريا بالأخص) في دعم مصر والسودان. وذلك عبر بيان في نهاية يونيو/حزيران 2022 بتأييدها جميع الإجراءات التي تقوم بها القاهرة لحفظ أمنها المائي. داعية أديس أبابا للتفاوض بحُسن نية مع مصر والسودان في أزمة سد النهضة. فيما كان بيان دولة الإمارات صادما للدوائر المصرية بتجاهل تام لجوهر مطالب القاهرة. إذ حثت أبوظبي مصر على الانتظار إلى ما بعد الملء الثالث لإطلاق جولة استكشافية للتفاوض. كما أقرت بأن السد “فرصة للتكامل الاقتصادي”. في إشارة إلى مشروع مقايضة المياه بالطاقة الذي أشار إليه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
وتبقى الإمارات في مقدمة معضلات الموقف الخليجي والإقليمي المواجه لمصر في أزمة سد النهضة. وتتمحور الجهود المصرية هنا حول إقناع الإمارات بخطورة استمرار تبنيها الرؤية الإثيوبية على مجمل العلاقات المصرية الإماراتية. وربما على الأقل الاتفاق على موقف إماراتي محايد في مجلس الأمن حال طرح مصر الأزمة هناك مرة ثانية. ويبدو أن القاهرة تحركت في هذا المسار في “قمة العلمين” في أغسطس/آب الماضي. والتي حضرها محمد بن زايد، رئيس الإمارات.
التوجه لقطر
تظل الورقة الأقرب للقاهرة في مواجهة التخاذل الإماراتي والتربص التركي في ملف سد النهضة هو تعميق العلاقات مع قطر. الدولة ذات الخبرة السابقة في ملف القرن الأفريقي والسودان.
ويبدو أن المنافع الاقتصادية صارت المحرك الرئيسي لدول الخليج. فبالنسبة لها منطقة القرن الأفريقي مورد اقتصادي وسياسي وأمني ولا يمكن التخلي عنها والانحياز لصالح مصر.
لقد عجزت القاهرة عبر مراحل تفاوض مختلفة مع إثيوبيا عن جذب الرأي العام العالمي لموقفها. إذ انحازت والصين وروسيا لموقف إثيوبيا ولم تمارس على أديس أبابا أي ضغوط، (فيما لم تبد الولايات المتحدة موقفا ذي تأثير حاسم في القضية). ولم يُبد أعضاء مجلس الأمن استجابة للمطالب المصرية. حتى حينما أعلنت مصر بوضوح أن جسم السد به شقوق خطيرة. علاوة على أزمات فنية أخرى تشير إلى مخاطر حقيقية على دولتي المصب. لكن إدانة واحدة من المجتمع الدولي لم تَلْقَها إثيوبيا. التي قدمت مشروع السد للقوى الدولية على أنه “مشروع تنموي”. وسيكون صعبا على القوى الكبرى الوقوف في وجه مشروع تنموي في ظل ما تعانيه دول العالم من أزمات غذاء وطاقة.
الخلاف المصري الإثيوبي حول السد لا يتمحور حول بنائه. بقدر ما هو حول مفهوم الحصص التاريخية من مياه النيل. إذ تتخوف دولتا المصب من محاولة إثيوبيا التلاعب في هذا الأمر وعدم الاعتراف أصلا بحصص مصر والسودان من مياه النيل.
إبطال المظلومية
يقول الباحث في العلاقات الدولية سمير رمزي إن القاهرة تحاول موازنة المظلومية الإثيوبية بمظلومية دولية أخرى. تؤكد عدم احترام أديس أبابا اتفاقاتها مع دول حوض النيل. وتُظهر هذه السردية حكومة إثيوبيا كجهة لا يمكن الوثوق بها. ما يمنح القاهرة دعما دوليا ومساندة لموقفها إزاء الأسطورة الإثيوبية القائلة بأن سد النهضة مشروع تنموي لا يضر أحدا.
المحاولات لإعادة التوازن في ملف سد النهضة دوليا لا تزال متاحة أمام القاهرة. فقد نجحت مصر في إبريل/نيسان 2014 في وقف تمويل البنك الدولي للسد. وهو الموقف الذي لم يتغير حتى الآن.
القاهرة لا تزال تتمسك بمسار تدويل الأزمة خارج الإطار الأفريقي الذي تجد فيه إثيوبيا كل دعم بعكس مصر.
ويجب على القاهرة تقديم أدلة مقنعة حول أضرار السد وممارسات إثيوبيا الأحادية التي ستزعزع أمن الإقليم.
هنا تبدو الإجابة هي أمريكا. فالولايات المتحدة أقرب طرف يمكنه ممارسة ضغوط على إثيوبيا.
وبناء على ذلك يجب على القاهرة -بحسب الباحث سمير رمزي- أن تسعى لتخفيف التناقضات في علاقتها بواشنطن إذا رغبت في لعب الأخيرة دورا في أزمة سد النهضة. مضيفا أنه يمكن للقاهرة رهن تنفيذ مبادرات مع روسيا والصين بإعلان تأييدهما لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل. فيما اتفق “رمزي” على أن سيناريو توجيه ضربة عسكرية للسد “مغامرة غير محسوبة”. لكنه فضّل التلويح باستخدام القوة للفت انتباه المجتمع الدولي لخطورة الأزمة. وهو ما أكده الدكتور طارق فهمي -المستشار بمركز الدراسات بأكاديمية ناصر العسكرية العليا. والذي استبعد الخيار العسكري لدى صانع القرار المصري. وذلك لأسباب منها تركيز مصر على حفظ حقوقها دون تشويه علاقاتها مع دول القارة.
للاطلاع على الملف كاملا برجاء اضغط هنا
خيارات مصر
بإعلان إثيوبيا الملء الثالث بإجراء أحادي كالعادة دون توافق مع دولتي المصب تكون أزمة سد النهضة سارت في طريق اللا عودة. وذلك بانتهاك إثيوبيا الاتفاقيات الموقعة وقواعد القانون الدولي لإدارة الأنهار العابرة.
الدكتور حمدي عبد الرحمن يرى أن الموقف الإثيوبي سيزداد تشددًا. خاصة مع تزعزع السلطة الانتقالية في السودان. وانشغال المجتمع الدولي بحرب روسيا-أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية على أوروبا وأمريكا. فيما يؤكد الدكتور محمد نصر الدين علام -وزير الموارد المائية الأسبق- أن السد يعترض أمن مصر المائي. لكن يمكن لمصر تعويض العجز في الموارد المائية عبر تقليل زراعة محاصيل شرهة للمياه كالأرز والقصب. فضلا عن ترشيد استهلاك المياه في قطاعات السكان والصناعة والتوسع في أساليب الري الحديثة. مع استمرار نهج الدبلوماسية الهادئة بحسب السفير جمال بيومي -مساعد وزير الخارجية الأسبق. والذي أشار إلى إخفاق الحبشة في عمليات ملء خزان السد. وهو ما أسفر -حتى الآن- الحفاظ على حصة مصر المائية.
ويؤكد الدكتور طارق فهمي أن المسار التفاوضي طويل الأجل ويستلزم وقتا ويجب أن يتحلى الجانب المصري بالصبر لحلحلة الأزمة تدريجيا دون اللجوء لمنطق القوة.
لقد حددت مصر أنها أمام أزمة أمن قومي تفرض عليها التعامل بحرص مع كل الحلول الممكنة للتعاطي مع أزمة السد الإثيوبي. فتحركات مصر تبدو في خطوط متوازية لمحاولة جذب الأطراف الدولية لموقفها. وشرح المخاطر التي تنطوي عليها تصرفات إثيوبيا بشكل أحادي. فضلا عن مخاطر السد نفسه فنيا. بالإضافة إلى المحافظة على خطاب دبلوماسي لا يستعمل مصطلحات القوة العسكرية. انتظارا لبدء وساطات جادة إقليميا أو دوليا لبلوغ حل يرضي جميع أطراف الأزمة.
للاطلاع على الملف كاملا برجاء اضغط هنا