المقارنة بين النظام الملكي البريطاني ونظام ولاية الفقيه الإيراني تبدو مستحيلة لأنهما نمطان من الحكم والسلطة مختلفان جذريا، وربما أهمية “مغامرة المقارنة” بينهما تكمن في “النظرة الديناميكية” لتطور النظم السياسية، وأن الملكية بدأت كسلطة زمنية ودينية مطلقة واستبدادية، وانتهى كثير منها مثل الملكية البريطانية إلى نظم ملكية دستورية تنظمها دولة قانون وقواعد الديمقراطية.

إن نظرية القطيعة وإسقاط النظم القائمة ليست وصفة سحرية حدثت في كل التجارب ومع كل النظم، بما يعني أن نظام ولاية الفقيه رغم أبعادة الدينية، إلا إن مواجهته ربما ستكون بصيغة بريطانية تحول الولي الفقيه من حاكم فعلي للنظام القائم، إلى قائد معنوي ورمز روحي، وهو مسار تاريخي بالمعني الثقافي والسياسي لن يحسم في يوم وليلة، إنما يمكن أن يكون خيارا أكثر ملاءمة للواقع الإيراني والثقافة السياسية الشيعية أكثر من مسألة القطيعة الكاملة مع النظام ونسخ نظام غربي.

فوق السلطة

في بريطانيا -مثل ملكيات دستورية كثيرة- ينظر إلى السلطة الملكية باعتبارها “فوق السلطة” الحاكمة، تتسع فيها صلاحيات الملك في وقت الأزمات والحروب الكبرى وهو ضامن للنظام القائم من انحراف الحكومة والسلطة التنفيذية.

والحقيقة أن الوصول إلى صيغة “الملكية الضامنة” التي لا تحكم لم تكن بين ليلة وضحاها، إنما كانت نتاج تراكم طويل لم تعرفه كثير من النظم الملكية في داخل العالم العربي وخارجه، فلنا أن نتصور أن  بريطانيا عرفت بدايات التراكم في اتجاه بناء دولة القانون والملكية الدستورية عقب صدور “الماجنا كارتا” أو الميثاق الأعظم، في 1216، وطالبت الملك بأن يمنح حريات معينة وأن يقبل بأن تصبح حريته غير مطلقة وخاصة تجاه النبلاء، وأن يوافق علنا على عدم معاقبة أي “رجل حر” إلا بموجب قانون الدولة، وأنها تكاد تعتبر أول وثيقة سلمية تُفرض على ملك في العالم من قبل مجموعة من رعاياه (وهم البارونات)، للحد من نفوذه وحماية امتيازاتهم في نفس الوقت وأسست للملكية الدستورية.

وقد تحول هذا النص إلى قانون في عام 1225، ثم أصبح بعد ذلك ضمن كتب لوائح الأنظمة الداخلية لإنجلترا وويلز حتى الآن.

ورغم “بريق الهدوء” الذي ظهرت عليه الخبرة البريطانية والتراكم التاريخي المتدرج، إلا إنها أعدمت ملكها تشارلز الأول بقطع رأسه في 30 يناير 1649 أي بعد قرون من “الماجنا كارتا”، وكنتاج للنزاعات السياسية والعسكرية بين الملكيين والبرلمانيين. فقد أعلنت محكمة البرلمان العليا أن الملك تشارلز مذنب وإنه “تمسك بسلطة غير محدودة وطاغية، وأطاح بحقوق الناس وحرياتهم” وحُكم عليه بالإعدام.

ورغم الفوضى والعنف التي شهدتها البلاد عقب إعدام الملك تشارلز واعتبرها كثيرون نقطة سوداء في التاريخ السياسي البريطاني، إلا أنها لم تؤد إلى تحول بريطانيا نحو النظام الجمهوري إنما جعلتهم يتمسكون بالتحول التدريجي نحو النظام الملكي الدستوري الذي يحدد صلاحيات الملك في جوانب محدودة ويكون رمزا للأمة وموحدا لها ويتمتع بحضور روحي وثقافي بصورة عابرة للانقسامات الحزبية والخلافات الأيديولوجية.

السلطة الرمز تحكم

في إيران، السلطة الرمز تحكم وتدير وتقود، وهي سلطة قائد الثورة ومرشدها الولي الفقيه، وهو أقوي مركز للسلطة في إيران ويرتبط بنظرية ولاية الفقيه التي وضعها قائد الثورة الإيرانية (1979) الإمام الخميني، فهو القائد العام للقوات المسلحة بأفرعها، وله إعلان الحرب والسلم، وتعبئة القوات المسلحة، وتعيين وعزل 6 أعضاء من علماء الدين في مجلس صيانة الدستور، ورئيس السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، والقائد الأعلى للحرس الثوري الإسلامي والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن. وتتبع المرشد مؤسسة تسمى مكتب الإرشاد الأعلى الذي يتولى إطلاع المرشد الأعلى على آخر التطورات السياسية ويتولى تسيير هذا المكتب 4 من كبار رجال الدين.

كما يملك المرشد الأعلى تحت إمرته نظاما يجعله على اطلاع بمجريات الأمور في كافة أرجاء إيران، وهو نظام ممثلي المرشد الذين يعينهم في كل وزارة أو مؤسسة حكومية مهمة، ويتدخلون في كافة شؤون الدولة.

وترتكز السياسة الخارجية الموازية التي يمارسها المرشد الأعلى على المكاتب الثقافية للسفارات الإيرانية والتي تتبعه مباشرة. وتتولى إيصال الدعم المالي للحركات الإسلامية “الصديقة” حول العالم، متخطية بذلك الرئيس ووزير الخارجية.

أما من حيث المجالس الدستورية، فتنفرد إيران بعدد من المجالس لا مثيل لها في أي دولة أخرى، بالإضافة إلى المجالس المعروفة كالبرلمان، هناك مجلس صيانة الدستور، الذي يتكون من 12 عضوا يحددون مدى توافق القوانين مع الشريعة الإسلامية، نصفهم من فقهاء الدين ويعينهم المرشد الأعلى لفترة 6 سنوات، ويكون النصف الآخر فقهاء قانون يعينهم البرلمان بتوصية من رئيس السلطة القضائية. وبموجب هذه السلطة يتمتع المجلس بصلاحيات المجلس البرلماني الأعلى في بعض الدول الغربية.

أما مجلس الخبراء فيتكون من 86 رجل دين ينتخبهم الشعب لمدة 8 سنوات، ويقوم مجلس الخبراء بانتخاب المرشد الأعلى للثورة من بين صفوفه، كما يستطيع خلع المرشد إذا فقد مؤهلاته التي اختير على أساسها.

أما مجمع تشخيص مصلحة النظام، فقد أسسه الخميني في عام 1988 لحل الأزمات الناشئة بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، فضلا عن إبداء النصح والمشورة للمرشد الأعلى.

هذا النظام وهذه المؤسسات المتعارضة ليس بينها وبين النظام البريطاني أي تقارب، ولكنها تتقاطع معه في نقطة محورية هي وجود مركز ديني وسياسي في كل خبرة أحدهما يسمي ملكا في الخبرة الملكية والثاني يسمي الولي الفقيه في الخبرة الإيرانية، والأول أسس نظامه على السلطة المطلقة وتحول عبر تراكم زمني إلى ملكية دستورية، والثاني لازال يحكم ويقود منذ ما يقرب من نصف قرن كرمز ديني وسياسي مطلق.

يقينا مع التطورات التي شهدها العالم متمثلة في ثورة الاتصالات وحرية نقل المعلومة، والعولمة بأنماطها المختلفة، وغيرها جعلت تغير أي نظام سياسي لا يحتاج لتراكم “القرون البريطانية” إنما يمكن أن يتم في خلال عقود.

ولذا سنجد أن بعض المثقفين الإيرانيين غير المعارضين جذريا للنظام القائم مثل “محسن كديفار” وآخرون بدأوا يتحدثون علنا عن سلطة ولي الفقيه الروحية وأن سلطاته السياسية ليست في أصل المذهب الشيعي.

لقد صارت مسألة استمرار احتكار الولي الفقيه للسلطة الدينية والسياسية محل نقاش ولو هامس في إيران، وأن احتفاظه بسلطة قائد روحي لا يحكم وفق الثقافة السياسية الشيعية قد تكون مقابلة لسلطة الملك الذي يملك ولا يحكم في الملكيات الدستورية، وقد تحتاج لسنوات وليس قرون للوصول إليها.