ليس ثمة وصفة سحرية للخروج من أزمات الاقتصاد، لو أنها وجدت لما كانت الحاجة إلى الاقتصاديين ولا لعلم الاقتصاد. بل إن اختلاف الرؤى الاقتصادية وتعددها هى السبيل الوحيد لتحقيق التوازن طويل الأجل في الاقتصادات المتقدمة. لكن بالتأكيد هناك مبادئ عامة يجب ألا يشذ عنها الأداء الاقتصادي وعدد من المسلمات التي من العبث أن تكون موضوعا للجدل.
في البداية، يجب أن يصح التشخيص قبل الإسهام بأي اجتهاد للتغلب على المرض. العديد من أزماتنا الاقتصادية تتفاقم تبعاتها بسبب سوء التشخيص. بل ان قرارات السياسة النقدية والمالية كثيرا ما تأتي بنتائج عكسية لأنها انطلقت من مقدمات خاطئة.
مثلًا لا يجوز أن تتجه الدولة الى التقشف لعلاج التضخم، إذا كان ذلك التضخم مشفوعا في الأساس بأزمة في العرض لا في الطلب. أزمة العرض ناتجة ربما عن ضعف النشاط الإنتاجي الذي ينخفض معه المعروض السلعي عن الطلب، فترتفع أسعار ذلك المعروض كنتيجة طبيعية لآليات عمل العرض والطلب.
من هنا، يتسبب التقشف في تفاقم الأزمة، ومثله سياسات التشديد النقدي للبنك المركزي (برفع أسعار الفائدة لامتصاص فائض السيولة وكبح التضخم) فكلاهما يستهدف العرَض التضخمي دون نظر إلى المرض الإنتاجي على مستوى الاقتصاد الحقيقي. التقشف والتشديد يتسببان في مزيد من التضخم من خلال تغذية ركود النشاط الاقتصادي، إما بتخفيض الانفاق المحفز للإنتاج والمثبّط للطلب الفعّال (المدعوم بالقوى الشرائية) أو بتثبيط الاستثمار من خلال رفع تكلفة الاقتراض التي تنعكس على تكلفة إقامة المشروعات وتوسعها.
هذا مثال واحد على سوء التقدير والأمثلة كثيرة في كل زمان ومكان. منها أيضا التصدّي لمعالجة عرَض الشح الدولاري، في الوقت الذي ينبغي البحث عن أسباب إفراط الحاجة إلى العملة الصعبة في المقام الأول. تلك أيضا بديهية لا تشترط معرفة بعلم الاقتصاد. الإفراط في دعم العملة الوطنية بإهدار الدولار لدعم قيمة غير حقيقية ولا واقعية للجنيه المصري، يتسبب في مشكلة كبيرة متعددة التبعات؛ فها هو المستثمر بأمواله الساخنة في أدوات الدين الحكومي يدخل بسعر شبه عادل للعملة الوطنية ثم يخرج محوّلا أمواله إلى الدولار “المدعوم” بالاحتياطي المستهلك في هذا الغرض العجيب، ليحصل على مكسب مضاعف، مرة من الفائدة المرتفعة للغاية، ومرة من فرق سعر الصرف الذي يجعله يحصل على دولارات أكثر بجنيهات أقل.
ثم ها هي حصيلة النقد الأجنبي تتراجع فتصبح الدولة في حاجة إلى واردات ضرورية لتشغيل المصانع، لكن الاحتياطي لا يسمح، فيتعرض النشاط الإنتاجي للشلل. وها هي التزامات أقساط الدين الخارجي يمكن أن تتأخر الدولة عن سدادها بسبب عدم كفاية موارد النقد الأجنبي، التي ربما لم يتم إدارتها من قبل البنك المركزي على نحو كفء.
المكاشفة دائما تعد البداية الصحيحة لتعبئة الجهود الوطنية خلف هدف تنموي واحد، أو لصد خطر حقيقي أيا كان مصدره. الاقتصاد المصري أثبت في الأزمتين العالميتين الأخيرتين (الوباء والحرب) قدرة على التعافي السريع من آثار الصدمات الخارجية، والبيانات الخاصة بمؤشرات الاقتصاد الكلي تعكس بدورها تحسناً ملحوظاً بالمقارنة بالمتوسط العالمي.
معدل النمو الذي بلغ 6.6% عام 21/ 22 يصل الى نحو ضعف المتوسط العالمي، وهذا الأداء الذي يعكس في جانب منه أثر سنة الأساس بالطبع (العام السابق هو عام المقارنة كان عام إغلاقات وركود عالمي كبير) يتضمن أيضا توزيعا أفضل لعائدات النمو، إذ يقترن بانخفاض في معدل البطالة، ومن ثم يحقق تشغيلاً أفضل. للعمالة وللاقتصاد. لكن المالية العامة التي مازالت تهيمن على السياسة النقدية وتهدد بالتأثير في استقلالية تلك السياسة، أصبحت تعاني بشكل متزايد من خدمة الدين العام التي تلتهم ثلث الموازنة وحدها!
بل إن خدمة الدين شاملة الأقساط تأكل كل إيرادات الدولة. هذا الأمر يترك السياسة المالية شبه مقيّدة، وغير قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة للسكان، وفي مقدمتها احتياجات التعليم والصحة. صحيح أن هيكل الدين العام يميل إلى القروض طويلة الأجل، وإلى مؤسسات التمويل الدولية وهذا أفضل من سيطرة الديون قصيرة الأجل والمستحقة للبنوك التجارية وحاملى السندات على هيكل المديونية. لكن معدّل النمو في الدين الخارجي (على وجه الخصوص) يحتاج إلى إعادة نظر وتقدير للموقف.
كنت أحذر الحكومات السابقة وتحديدا وزيرة التعاون الدولي من الاقتراض لمجرد اننا نستطيع الاقتراض، وأن نستبدل هذا بمبدأ الاقتراض لأننا نستطيع السداد. فإذا ما أضفنا ذلك إلى القاعدة الذهبية التي وردت ببعض التحليلات المتخصصة، والتي مفادها الاقتراض من أجل الاستثمار لا الاستهلاك وسداد الأجور، تلك التي تشير الادبيات انها اخترقت منذ عام 2005 في ظل ظرف سياسي مشحون، ورغبة في اكتساب التأييد الشعبى على حساب قاعدة هامة لم تتغير على مدى قرون. اليوم يشير السيد وزير المالية إلى إنه قد صدم في الأموال الساخنة، وهذا دليل جديد على أن الإنصات إلى الآراء المخالفة مبكراً هو أمر شديد الأهمية.
في دعوة القيادة للحوار المجتمعي، وانفتاح الأفق السياسي على آراء اقتصادية متعددة أمل في تخطي أبرز العقبات الناشئة عن العمل في جزر منعزلة. الحلول الناجعة تخرج من رحم الاختلاف، والنظرية الاقتصادية التي تصمد أمام تحديات التجربة، تتحوّل بعد حين إلى طريق جيد مختبر.
يجب أن تخرج الدولة من تلك الظروف وحالة الحوار المجتمعي بنتائج إيجابية على الصعيد الاقتصادي. يجب أن “تبارك” الدولة النشاط الصناعي الذي ظلت سنوات لا تقدّره (وفقا لتقديرات وزراء صناعة سابقين ولتجربتي الشخصية) كذلك يجب أن تتحول الوزارات والهيئات من العمل لتعظيم المصالح الفردية لمؤؤساتهم إلى العمل في فريق يحقق عائدا صافيا موجبا للاقتصاد الكلي. هان يجب أن تستخدم الدولة نماذج التوازن العام للتنبؤ بالآثار الاقتصادية للقرارات والسياسات على الاقتصاد ككل، وأن تتخذ تلك القرارات في ضوء المصلحة العامة والقيمة المضافة للاقتصاد في عمومه.
والحديث في تلك المسائل يطول وربما نتناوله في مقالات أخرى..
د/ مدحت نافع: كاتب ومحلل اقتصادي