في بداية موسم قضائي جديد، وكذلك في بداية عهد نقيب جديد للمحامين، وإن كان سيكمل مدة سلفه الراحل، إلا أن تعاهدته في بداية ولايته أحداث جسام، وكأنها قد أعدت خصيصا لأجل اختبار مدى قوته وحكمة تصرفه حيال أزمات شديدة أخذت بتلابيب نقابة المحامين كاملة، وعلى مستوى محافظات مختلفة، يمثلها مجالس نقابية مختلفة، ولست أدري أية مصادفة قد جاءت بكل هذه الحوادث في يوم واحد أو يومين متتالين، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تأتي هذه الأزمات بشكل عابر، وكما قال المثل لا تأتي الأزمات فرادى.
ففي يوم السبت الماضي وعلى باب محكمة مركز بنها تم الاعتداء على المحامي الأستاذ أحمد إبراهيم خضر، من قبل خصم له في إحدى القضايا، وهو أحد ضباط القوات المسلحة، رفقة شقيقه، ورفقة آخر، كما أنه يقال إن أحد ضباط الشرطة قد اشترك في الواقعة.
اقرأ أيضا.. عن منع التصوير وحرية التعبير
كما أنه وفي ذات اليوم الموافق 10 سبتمبر 2022 قام أحد ضباط الشرطة بإطلاق أعيرة نارية في الهواء، تهديدا للمحامين إثر خلاف مع أحد المحامين لتواصله مع أحد المتهمين المحتجزين، وقام ضابط الشرطة بتهديد جموع المحامين مستخدما سلاحه الميري. كذلك أيضا في محكمة الزقازيق بمحافظة الشرقية تم الاعتداء من قبل أحد ضباط الشرطة على محام أثناء ممارسته لأعمال المحاماة، وكذلك الأمر في ذات اليوم في واقعة مشابهة في قويسنا بالمنوفية.
وإن قبل العقل أن تتم هذه الأحداث جميعها في يوم واحد بالمصادفة، إلا أنها جميعها تنذر بوقوع أزمات وإشعال فتيل خلافات شديدة بين المحامين، وبين الجهات الرسمية التي يتعاملون معها، وإن كان من المحتمل أن تأتي تلك الأحداث بخلافات كذلك بين النقباء وأعضاء مجلس النقابة العامة، والنقيب العام، ذلك على ما يستتبع تلك الأحداث من إجراءات، أو تصرفات وردود أفعال تبين مدى صلابة مجلس النقابة، أو مدى قوة وحكمة النقيب العام الجديد، الذي لم تمر على توليه منصبه أيام قليلة.
ولما كان المحامي في أدائه لمهمته وواجبه لا يخضع لغير ضميره الحر المستقل واستقلالية المحاماة باعتبارها مستمدة من طبيعة وظيفته الاجتماعية كمشارك للقضاء في إقامة العدل تعني حرية ممارسة مهنته واستقلاليته في آلية الدفاع عن موكله يمكن القول إن أهم معوقات استقلال المحاماة هو انتهاك حقوق الإنسان وتغييب الديمقراطية وحكم القانون فالتربة الخصبة لسيادة القانون وضمان استقلال ركني العدالة القضاء والمحاماة هو حماية حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادتهما سيادة لدعائم العدالة.
ومن زاوية النصوص فنجد أنه على المستوى الحقوقي، فقد أكدت المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين، التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، والذي عُقد في هافانا بتاريخ 27 أغسطس سنة 1990 أن هناك ضمانات للمحامي أثناء تأدية عمله، أهمها أن تكفل الحكومات للمحامين القدرة على أداء جميع وظائفهم المهنية بدون تخويف أو إعاقة أو مضايقة أو تدخل غير لائق، عدم تعريضهم ولا التهديد بتعريضهم، للملاحقة القانونية أو العقوبات الإدارية والاقتصادية وغيرها نتيجة قيامهم بعمل يتفق مع واجبات ومعايير وآداب المهنة المعترف بها، وأن يتمتع المحامون بالحصانة المدنية والجنائية بالنسبة للتصريحات التي يدلون بها بنية حسنة، سواء كان ذلك في مرافعاتهم المكتوبة أو الشفهية أو لدى مثولهم أمام المحاكم أو غيرها من السلطات التنفيذية أو الإدارية.
ويعد الحق في الدفاع من أهم ركائز المحاكمات العادلة، إذ لا تتحقق فاعلية العدالة والغاية من المحاكمات إلا بضمان حماية الحق في الدفاع وكفالة حرية المدافع في القول والمرافعة وعدم جواز مؤاخذته عما يبديه أمام المحكمة أثناء مرافعته، إذ يمثل الحق في الدفاع ضمانة لحسن سير مرفق العدالة ويدعم الحق في التقاضي بشكل عام، ولكن إذا ما تم تكبيله بالعديد من القيود، أو عدم إتاحة الفرصة للمحامين في الترافع وحمايتهم من الناحية الواقعية من المؤاخذة بما يقولونه أثناء ممارستهم لواجبهم في الدفاع فإن ذلك يعد إرهاقا لحقوق الأفراد ذاتهم في الحصول على المحاكمات العادلة والمنصفة، وهي غاية المحاكمات ذاتها، إذ إن التقاضي ذاته دون حماية حقوق المحامين في أداء أعمالهم بحرية يكون مبتورا وقاصرا عن تحقيق غايته، وهو الأمر الذي يخل بهيبة القضاء أمام المتقاضين، ولا يحقق الغاية من وجوده. وفي هذا المعنى قالت محكمة النقض المصرية في حكمها رقم 20238 لسنة 84 قضائية إن حق المتهم في الدفاع عن نفسه أصبح حقا مقدسا يعلو على حقوق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها ويؤذي العدالة معا إدانة برئ.
وإذ إن حق الدفاع يمثل أو يعبر عن الطريقة الاجتماعية لرد العدوان سواء كان ذلك عن طريق موقف مادي مباشر كما هو الحال بالنسبة لحق الدفاع الشرعي، أو موقف قولي جدلي كما هو الحال بالنسبة للدفاع في الخصومات، فحق الدفاع إذا مبدأ مقدس وحق طبيعي للإنسان استمده تلبية لنداء الغريزة البشرية في صراعها من أجل البقاء ويجد أساسه في حق الدفاع المشروع عن النفس، كما يعد الحق في الدفاع أصلا ثابتا من أصول الحق في التقاضي ذاته، وسمة أساسية من سمات وجود القانون، تكون له غاية في تفعيل مبدأ المساواة بين الخصوم في المراكز الإجرائية، ولا يمكن تحقيق العدالة دون مراعاة الحق في الدفاع وتفعيل كافة أدواته، وهذا ما أكدته كافة المواثيق والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وأفردت له اتفاقيات بذاتها متعلقة بممارسة المحامين لمهام عملهم بشكل مستقل وكامل، كما أولت الاهتمام بدور المحامين وأماكنهم كذلك عناية فائقة.
أرى أن الأمر قد فاق وتعدى كل ما هو منصوص عليه في كافة المدونات القانونية والدستورية والاتفاقية الحقوقية، إذ كيف لا يؤمن المحامي على نفسه أثناء تأدية مهام عمله، الذي يُقال عنه أنه أحد مقومات العدالة، فهل هناك تعمد في هذه الأحداث فيما يدلل على إهدار قيمة النقابة، أو اختبار قوة النقيب الجديد، إلا أن كل ذلك لا قيمة له أمام إهدار قيمة أهل الحق في الدفاع، أيا ما كانت الدوافع خلف تلك الأحداث، ويجب ألا ينتهي الأمر عند حد البيانات والشجب والإدانة، بل يجب أن تلتفت السلطة المصرية كاملة على مغبة تلك الحوادث وخطورتها على مرفق العدالة ذاته، الذي لا يمكن أن يوجد أو تقوم له قائمة دون أن يكون هنالك حضور لأهل الحق في الدفاع.