تذكّر قصة النائب السابق أحمد الطنطاوي واستقالته من حزب الكرامة بأوضاع الأحزاب المصرية وأزمتها المستعصية والانقسامات التي لا تزال تضربها. فقد استقال “الطنطاوي” من رئاسة حزب الكرامة. وحاول المكتب السياسي للحزب الذي يتبع توجهات ناصرية الضغط عليه ليتراجع عن استقالته. لكنه أصر على استقالته مشيرا إلى ما أسماه “اختلافات التوجهات السياسية”.
أزمة ممتدة
حسب الدكتور صلاح سلام -عضو مجلس أمناء مركز الحوار للدراسات الاستراتيجية- فإن مصر تملك تجربة حزبية ثرية. وتسبق دولا كبرى في هذا الشأن. إذ تمتد جذورها لسبعينيات القرن التاسع عشر وتحديدا عام 1879. وذلك عندما قرر مجموعة من أبرز ساسة هذا العصر -على رأسهم محمد شريف باشا- تدشين الحزب الوطني.
رغم عدم نجاح التجربة الأولى لأسباب عدة على رأسها فشل الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر. لكن بعدها شهد القرن العشرين ميلاد حركة حزبية جديدة وجاءت ثورة 1919 لتنعش الحياة السياسية المصرية.
وتعتبر الفترة من عشرينيات القرن الماضي حتى اندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952 فترة نشاط حزبي ملحوظ في الداخل المصري.
وجاءت “ثورة يوليو 1952” ليطيح ضباط يوليو بالنظام الملكي ككل. فعملوا على تفكيك أسس النظام القديم. وتم ضرب التجربة الحزبية شبه الليبرالية وأقاموا نظاما سياسيا سلطويا لا يسمح بممارسة السياسة إلا بشرط الولاء التام للسلطة.
إجماليا تعطلت الحياة الحزبية في مصر. وطرحت “الناصرية” مشروعها السياسي والاقتصادي. والذى ارتكز على تنظيم الحزب الواحد ونموذج للتنمية الاقتصادية يتبنى شعارات العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. وينفذ خطوات منحازة للفقراء ومساندة لقضايا التحرر عربيا وعالميا.
كارثية الصوت الواحد
صنعت ثقافة الصوت الواحد الناصرية أزمات كارثية. وفيما بعد تركت آثارها على النظام السياسي بعد التعددية الحزبية المقيدة التي دشنها الرئيس السابق أنور السادات عقب اتفاقية كامب ديفيد. وتبعها تغيير على المستوى الاقتصادي والسياسي ـبحسب الدكتور عبد المنعم سعيد المدير السابق لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
يقول “سعيد”: “في منتصف السبعينيات أجرى السادات تغيرات بنيوية تناسب التحالفات الجديدة للحكم مع الغرب. وقسم الإرث السياسي -الاتحاد الاشتراكي- إلى ثلاثة أجنحة. الوحدويون ذوو الميول اليسارية ـ حزب التجمع. والليبراليون ذوو الميول اليمينية ـ حزب الأحرار. والحزب الحاكم الذي أطلق عليه في البداية حزب مصر العربي الاشتراكي ثم أصبح فيما بعد الحزب الوطني الديمقراطي”.
حسب تقرير لمركز ديل كارنيجي حاول السادات صنع نخبة موالية للدولة والجيش تتمركز بشكل ملائم في الحياة السياسية. لكن التطبيقات على الأرض كانت مربكة. فبعض الأحزاب التي تبدو قريبة أيديولوجيًا من الدولة المصرية على أرض الواقع تعارضها بشدة والعكس. المعارض يقف ضمن الذين يحركون الأحداث خلف الكواليس.
وفي عصر الرئيس الراحل حسني مبارك ورغم الضعف الواضح في الأداء الحزبي نتاج تغييب الأسس الديمقراطية صار لدينا 84 حزبا. الغالبية الكاسحة منها لم يمتلك أكثر من مقر وجريدة.
بعد نجاح ثورة يناير في الإطاحة بحكم حسني مبارك تأسست أحزاب جديدة مثل حزب الحركة الوطنية. الذي ينتمي معظم مؤسسيه للنظام القديم. كما أسس الإسلاميون أحزابهم: “الإخوان والسلفيين”. فضلا عمن خرج أو انشق عن عباءتيهما على شاكلة حزب الوسط ومصر القوية. وتم إقصاء اليمين الديني الذي تمثله “الجماعة الإسلامية”.
نظام 30 يونيو.. وإعادة ترتيب السياسة
بعد الإطاحة بالإخوان من السلطة عام 2013 عبر ثورة 30 يونيو 2013 جرى شطب أحزاب خضعت لرؤية الجماعة في التصعيد ضد نظام 30 يونيو. وانتهاج العنف أو التحريض عليه. وتأسست أحزاب أخرى قريبة من السلطة على رأسها حزب الأغلبية البرلمانية حاليا ـمستقبل وطن- الذي تأسس عام 2014.
وحسب إحصاء لهيئة الاستعلامات التابعة للدولة المصرية فإن عدد الأحزاب المصرية صار 91 حزبًا.
الدكتور مصطفى الفقي -السكرتير الأسبق للرئيس الراحل حسني مبارك- يقول إن فاعلية الأحزاب السياسية بعد ثورة 25 يناير لم تزد عمل قبلها. وذلك لعدة أسباب بعضها يعود للأحزاب نفسها وشيوع حالة من التسلط داخلها بما فيها قوى المعارضة. وأكد أن غياب الحوار الديمقراطي الداخلي للحزب ترتب عليه تسلط بعض القيادات. لذا لم تستطيع الأحزاب المشاركة في ما يسمى “ديمقراطية الدولة”.
الأصل في الأحزاب بحسب المدير السابق لمكتبة الإسكندرية أنها مدرسة لتخريج الكوادر السياسية. فكل حزب يجب عليه إنتاج 10 كوادر سياسية على الأقل سنويا. وهذا ما لم يعد موجودًا باستثناءات قليلة متميزة لديها القدرة على النقاش وصياغة رؤية. لكن بشكل عام هناك فقر سياسي واضح والقيادات الحزبية تكرر نفسها وتتحرك من مرحلة لأخرى بالوجوه ذاتها.
القانون هو المشكلة
الحديث مع المعارضة عن طبيعة الحياة الحزبية وإشكاليات الممارسة والصراع الداخلي والأعداد الكبيرة للأحزاب التي يرفض بعضها الدمج مع أخرى تتشابه معها في البرامج يأخذ بعدًا آخر.
يعتبر فريد زهران -رئيس الحزب المصري الديمقراطي- أن العدد الكبير للأحزاب من الظواهر الإيجابية. لكن قانون الأحزاب من وجهة نظره هو المشكلة والعقبة الكبرى.
يوضح “زهران” لـ”مصر 360″ أن القوانين المقيدة للحريات تضع سيفا مصلتا على رقاب الأحزاب. إذ رغم الدعوات المستمرة للدمج بين الأحزاب التي تتشابه في الأيديولوجيا فإن القانون نفسه لا يسمح بذلك. وهذا أحد أسباب تضخم الخلاف داخل الأحزاب.
الخلافات الحزبية من طبائع الأمور برأي رئيس المصري الديمقراطي. ومن يختلف يستطيع عمل حزب آخر لو أن الأحزاب تتشكل بالإخطار. ويوميًا هناك كيانات حزبية تظهر في كل بلدان العالم بخلاف ما يحدث في مصر. لذا تأخذ أي مشكلة داخل الحزب المصري طابعا حادا للغاية وتصبح الخلافات والاستقالات أزمة ضخمة للحزب. وقد ينفرط عقده أو تدفع به لساحات القضاء والتنازع على الشرعية.
يقدم “زهران” تعريفا مختصرا للحزب. فهو ببساطة كيان يجمع عددا من الناس بشكل طوعي على مجموعة برامج وأهداف وتوجهات. وخلال مسيرة العمل وسياقها اليومي تحدث خلافات قد تزيد على الحد. فإما الاستمرار في إطار صراع سياسي سلمي داخل الحزب أو الانقسام.
هنا يصبح الحل لمن يشعر بالاختلاف بمفرده عن المحيطين هو الاستقالة. بينما البعض الآخر يستطيع حشد مجموعة والسعي بها لتأسيس حزب جديد. لكن المعضلة أن القانون في البلدان الأخرى يعطي الفرصة ليصبح الخلاف طبيعيا. فالانقسام يؤكد بالإخطار. وكذلك التأسيس الجديد أو الاندماج. لكن في مصر القانون لا يسمح بذلك -بحسب “زهران”.
ما يقوله “زهران” يترجمه الواقع السياسي المصري. إذ شهدت الأحزاب المصرية من اليسار لليمين انشقاقات ضخمة وصراعات على الشرعية والقيادة.
حدث ذلك في حزبي التجمع والناصري ذوي الاتجاه اليساري، والمصري الديمقراطي قبل أن يستعيد توازنه مرة أخرى. والوفد والجبهة الديمقراطية والمصريين الأحرار في اليمين. وكذلك الأحزاب التي حملت لواء أهداف ومبادئ ثورة 25 يناير خاصة حزب الدستور.
بعض الأحزاب انتهت تمامًا من الحياة السياسية وبعضها لا يزال يعاني بشدة. بينما جرى إخماد وهج البعض الآخر كما حدث في “المصريين الأحرار”. الذي انقسم لجبهتين يتنازعان على الشرعية حتى الآن. فانتهى أثر الحزب تماما ولم يحصل ولو على مقعد واحد في الانتخابات النيابية الأخيرة.
هناك مشكلات جوهرية في التجربة الحزبية المصرية بحسب الدكتور عمرو علي -المستشار السياسي لرئيس حزب المؤتمر. يقول إن تجربة الأحزاب المصرية تقول إنها “بنت سبعة”. حيث يغيب الفكر المؤسسي ولا يوجد تدريب والقيادات نخب دخيلة على عالم السياسة. ولم تخرج من قواعد أساسية حقيقية لتعلم ما هو العمل الحزبي بالأساس.
يحمّل “على” خلال حديثه لـ”مصر 360″ الدولة بمؤسساتها المعنية 70% من مسئولية أزمة الأحزاب في مصر. إذ ينبغي أولا أن تكون هناك رغبة في إقامة نظام حزبي حقيقي وليس ديكوري. فضلا عن إعادة النظر في قانون الأحزاب السياسية على عدة مستويات منها التمويل.
دعاوى الاندماج تفتقد الأساس القانوني
يقلل الخبير السياسي من دعوات الاندماج بين الأحزاب المشتركة في الأيديولوجيا على الأقل. إذ لا يوجد أصلا قانون للاندماج الحزبي. بل السائد أن يتنازل حزب عن اسمه ويسلم رخصته وينضم لحزب آخر. وهذه مشكلة كبرى. فقد يتم الاتفاق على خارطة طريق وأسلوب في الإدارة وتوزيع مهام ومناصب ويتم التراجع عنها أو عدم تنفيذها. ليفقد بذلك أحد الحزبين رخصته وهويته من أجل لا شيء.
ويوضح أن الاندماج يحتاج غالبا إلى عدة سنوات من أجل تحقيق الأهداف المشتركة. وقد يبدأ بمستويات أقل منها كالتعاون حتى يتم تذويب الخلافات والاختلافات. أو يتم التراجع عن الاندماج بمجرد الإخطار على أن يضمن القانون ذلك. وهو أمر غير متوفر في مصر.
الاستقلال والولاء والتمويل
ضمن أخطر نقاط ضعف الأحزاب أيضا أزمة التمويل. فالقانون بحسب “علي” يحجم تمويل الأحزاب بقوة. ويقصره على طرق تقليدية لا تكفي احتياجات الأحزاب. لهذا يبقى كل حزب يدور في دوامة البحث عن أموال إيجارات المقرات ورواتب الموظفين كل أول شهر. بينما تختفي تمامًا الأنشطة. وهنا يظهر أحد رجال الأعمال لدفع فواتير الحزب مقابل السيطرة عليه تمامًا وتغيير أيديولوجيته حسب اتجاهاته وقناعاته ومصالحه.
يشدد المستشار السياسي لرئيس حزب المؤتمر على أهمية الاستقلالية المالية للأحزاب. وذلك من خلال تدشين صندوق حكومي للتمويل الحزبي من ميزانية المجالس النيابية “البرلمان-الشورى”. بجانب إعطاء الأحزاب مكانة متقدمة في أولويات الدولة خلال المرحلة المقبلة حتى تكون هناك حياة حزبية حقيقية في مصر.