أثار نادي “عيون مصر” الذي أعلنت كنائس وسط القاهرة عن تأسيسه جدلًا حادًا طوال الأسبوع الماضي. فانقسم المتابعون بين من يرى أحقية الأقباط في مداواة استبعادهم الطائفي بتأسيس ناد، وبين من يرى أن في ذلك تكريسا للاحتراب في ساحات الرياضة. غير أن النادي الذي لم يتأسس بعد قد جاء ضمن سلسلة مشروعات تحمل الاسم نفسه، يديرها المكتب البابوي للمشروعات، وتحظى بإشراف البابا تواضروس الثاني شخصيًا.
ويكمل النادي -الذي جاء ليحمل اسم تلك السلسلة- عدة مشروعات انخرطت فيها الكنيسة مؤخرًا، بينها مدرسة سان جوزيف بمحافظة الجيزة، ومدرسة سان أرساني بوسط القاهرة، إضافة لمشروع مدارس سان مارك بمصر الجديدة، ومدرستين بالإسكندرية. بالإضافة إلى مشروعات أخرى في الطريق لمدارس دولية انخرطت فيها الكنيسة القبطية بشكل واسع مع بداية عصر البابا تواضروس، توسعًا فيما يسمى البيزنس الديري، أي منتجات الأديرة، التي كانت قد تأسست قبل سنوات طويلة في حبرية (عصر) البابا شنودة الثالث وواصلت ازدهارها.
أقباط وبروتستنت وكاثوليك
لا تقدم الكنيسة القبطية تفسيرًا لتلك النهضة الرأسمالية والتوجه نحو الاستثمار بكثافة في مجالات خدمية مثل المدارس والنوادي، أو ربحية مثل منتجات الأديرة. غير أن سعي الكنيسة لتأسيس مدارس دولية ولغات إنما يأتي بعد أن أصبحت المدارس مشروعات ربحية في مصر تدر دخلًا على أصحابها. وهو ما يختلف عن المدارس الكاثوليكية والبروتستانتية التي أسستها البعثات التبشيرية في القرن التاسع عشر، مثلما يقول بيشوي القمص الكاتب المهتم بشؤون الكنيسة.
القمص يفرق بين نوعين من المدارس الكنسية: الأولى تأسست بغرض تقديم خدمات مجتمعية. وهي مدارس غير هادفة للربح كتلك التي أسستها البعثات البروتستانتية التبشيرية في الصعيد. وكان ذلك بغرض نشر التعليم العام بالتوازي مع استقطاب رعايا جدد. وكذلك كانت المدارس الكاثوليكية جزءًا من رسالة الرهبنة الكاثوليكية وإرساليتها في بعض الدول. بينما مدارس الكنيسة القبطية تأتي وكأنها قفزة على الواقع. فالكنيسة تستغل السمعة الطيبة للمدارس المسيحية وتؤسس مدارس هادفة للربح كمشاريع استثمارية لتدخل بها سوق البيزنس الواسع. وهو ما لا يمكن فهمه في ظل عدم وجود رقابة حكومية على أموال الكنائس.
السعي للربح
يتبنى مارك فلبس، الباحث الأرثوذكسي، رأيًا مغايرًا. يقول: كأحد أنصار ضرورة لعب الدين دورًا فاعلًا ورئيسًا في الحياة العامة داخل المجتمع المصري، أشجع جدًا استثمارات المؤسسة الكنسية المصرية الهادفة للربح سواء في مدارس أو نوادي عامة.
ويستكمل: نحن نعاني منذ سنوات من ضعف عام داخل المؤسسة الكنسية المصرية وفي القلب منها المؤسسة البطريركية، لأسباب تتعلق بقوة الحرس القديم داخل الكنيسة وبفلسفة المركزية التي تنتهجها البطريركية نفسها، وبعض من مظاهر قوة المؤسسة الكنسية يُصلح قليلًا جدًا مما أفسدته تلك السنوات.
يشير فلبس إلى أن دعاوى الاشتراكية المتطرفة داخل الكنيسة، ومنذ ستينيات القرن الماضي، جاءت من الصحراء على أيدي رهبان قديسين أتقياء أرادوا أن تستعيد الكنيسة رسالتها الروحية الخالصة البعيدة عن أمور العالم الحاضر، في كتابات مثل “الكنيسة والدولة”، و”الاشتراكية، وجهة نظر مسيحية”. بل وكتاب “الخدمة” ذو الثلاثة أجزاء. وكلها كتابات للأب متى المسكين، كانت تشجع هذا المنحى القائم على التقشف الاقتصادي والزهد المسلكي الكنسي، بلا أدني مراعاة لمتطلبات الرعاية ووجود الكنيسة في العالم.
ويضيف فلبس: أولئك الذين نادوا بمسلك اشتراكي-نسكي داخل الكنيسة، هم أنفسهم قد بنوا صروحًا ديرية ضخمة بمزارع كبيرة وورش ودور نشر واستراحات في الساحل الشمالي. ومن ثم ليس للفلسفة دائمًا اليد العليا على الواقع. بل أحيانًا يحكم الواقع السلوك العملي حتى لو ناقض الفلسفة التي كان من المفترض أن تحكمه.
خطر على المؤسسة
مخالفًا لرأي فلبس، يقول بيشوي القمص إن انخراط الكنيسة في البيزنس يشكل خطرًا على المؤسسة ذاتها. ذلك لأنه يعرضها لحسابات الربح والخسارة ويخرجها من عالمها الروحي. ويضرب المثل بما حدث مع الأنبا دانييل أسقف الكنيسة القبطية بسيدني، الذي اشترى برجًا في وسط العاصمة الاسترالية بأموال الكنيسة وتعثر ماليًا فتسبب في أزمة مع الحكومة هناك، مازالت الإيبراشية تعاني منها حتى اليوم، بعدما خضعت لتحقيقات حكومية وبابوية وتصدرت صورته بعض الصحف الاسترالية.
ويشدد القمص: الاتجاه نحو الرأسمالية بهذا الشكل والسعي نحو كسب المال يتعارض مع قيم ومفاهيم الرهبنة التي يحكم آباؤها الكنيسة والمجمع المقدس، ما يشكل تناقضًا عصيًا على الفهم.
إلا أن فلبس يدافع عن “بيزنس الكنيسة”، فيقول إن امتلاك المال ليس خطيئة طالب الإنجيل بالتوبة عنها. بل الشهوة نحو الامتلاك من أجل المال ذاته لا من أجل خدمة الرب هو الخطر. ويعلق: ما أحلى أن يمتلك المسيحي المال ثم يضعه تحت أقدام الرسل كما كان في العصور الأولى. ما أجمل أن تمتلك الكنيسة المال الوفير وأن تحقق الثراء من مشروعات عملاقة حتى تضعها تحت أقدام الرب.
يعتبر مارك فلبس أن الثراء المادي للكنيسة ليس جريمة في حد ذاته. ويضيف: المال يلبي احتياجات فقراء الكنيسة بدلًا من اعتناق أفكار رومانسية عن حياة بلا احتياجات مادية أو سعي نحو توفير ما تواجه به الأزمات الاقتصادية الطاحنة كالتي نعيش أيامها الآن. مشددًا: كان النسك المسيحي ولا يزال هو النور الأخلاقي الذي تسير به الكنيسة في دروب العالم. ولكنه وإن كان يصلح لتهذيب الإنسان، لكنه لا يصلح لرعاية الكنيسة.
اقرأ أيضًا: نادي عيون مصر.. كيف تحولت مساعي إنهاء “الطائفية” لأزمة؟
ضرورة الرقابة
في حين يتفق القمص وفلبس على ضرورة الرقابة على أموال الكنيسة. فيقول بيشوي القمص: المجلس الملي هو المسئول عن الرقابة على أموال الكنيسة وإدارة شؤونها غير الروحية. ولكنه موقوف ولم يعاد انتخابه منذ عام 2011. ما يعني أن أموال الكنائس، والتي هي تبرعات للأقباط، بلا رقيب وتحت سلطة الأساقفة مباشرة دون محاسبة.
فيما يؤكد فلبس على ضرورة إنشاء ما يسميه “جهاز رقابي كنسي” يشرف على هذه الأموال. مضيفًا: من العظيم أن تكون الكنيسة ثرية، وأن يعكس وجودها المادي بهاء الرب وجلاله. لكن ليس أُبهة الأساقفة وبزخهم.
ووفقًا لفلبس، فإن إقامة مشروع ضخم ذي ربح مادي عال هو أمر “حسنٌ جدًا” بحسب تعبير سفر التكوين. ولكن أن يتجلى لنا هذا الربح في صورة سيارات الأساقفة واستراحات الكهنة أو أن يظهر في البذخ في الإنفاق فهو بكل تأكيد أمر يحتاج إلى إعادة نظر لكيفية إدارة أموال الكنيسة.