مرت عدة أشهر منذ بدأت خطوات الإفراج عن السجناء السياسيين، حيث جاء ذلك تزامنا مع حفل إفطار الأسرة المصرية ودعوة الرئيس للحوار الوطني. رغم تباطؤ حركة إخلاء سبيل المحبوسين احتياطيا، واقتصار قرارات العفو على عدد محدود من المحكوم عليهم، إلا أن العجلة تدور وهو ما يهم الجميع، عاد الأمل يطرق أبواب الزنازين، الكل ينتظر دوره في الصف، رغم طول الطريق وصعوبة الانتظار، إلا أن الصف يتحرك وهو ما يعني قرب الوصول.
لا تزال آلية الإفراج غائبة، ويبدو للعيان أنها تخضع بشكل كبير للمساومات السياسية، فالقضاء غائب تماما عن المشهد رغم أن كل قرار حبس لا يتم إلا بتوقيع قاض، كذلك كل قرار بإخلاء السبيل، كنت أتمنى أن تكون هناك شفافية في معايير الإفراج عن السجناء، خصوصا المحبوسين احتياطيا، أن تتم تصفية القضايا المفتوحة أمام نيابة أمن الدولة، وأن تصدر قرارات بحفظ التحقيقات وإخلاء سبيل جميع المحبوسين على ذمتها، خاصة تلك القضايا المنظورة منذ سنوات ولم يصدر قرار بإحالتها لمحكمة الموضوع، ربما أعادت تلك الخطوات بعضا من الرصيد للقضاء المصري الذي فقد كثيرا من بريقه بسبب قراراته بحبس الآلاف احتياطيا لسنوات، ثم الإفراج عنهم دون وجود أدلة كافية لمحاكمتهم، ولكن الدولة أبت إلا أن تستخدم للإفراجات نفس الأسلوب الذي استخدمته أثناء حملات الاعتقال.
بدأت الدولة حملة الاعتقالات باعتبارها حلا لتخفيف الضغوط عنها، وحلا لأزمة تراجع شعبيتها، ولكن ما حدث فعليا هو العكس، تسببت الاعتقالات في تعزيز حالة الاحتقان الشعبي، وساهمت في زيادة الضغوط الدولية على النظام المصري، وربما كانت سببا في إخفاق النظام في تحقيق أهدافه إزاء عدد من الملفات الخارجية.
لازالت الطريقة التي تتم بها تصفية ملف السجناء السياسيين –إذا افترضنا أن الدولة ترغب فعليا في تصفية الملف بالكامل– تبدو عشوائية تماما، لا يزال الملف يتم التعامل معه باعتباره ميدانا للمساومات السياسية، تتم الإفراجات كثيرا بهدف المجاملة كما حدث مع صحفيي قناة الجزيرة تزامنا مع زيارة الرئيس للدوحة، وفي حالات إفراج أخرى تمت تزامنا مع زيارات دبلوماسيين غربيين للقاهرة.
ربما يطرب الكثيرون بالضغوط الدولية على مصر للإفراج عن السجناء، وتزداد نشوتهم إذا استجابت الدولة لتلك الضغوط، ولكن الأغلب يشعرون بالمرارة بمشاهدة الحكومات الأجنبية تبدو وكأنها أكثر حرصا على الإفراج عن السجناء من الحكومة المصرية، البعض يذهب أبعد من ذلك بالقول إن “الحكومة المصرية تحبسنا والأجانب يخرجونا”، وهو بالتأكيد مدعاة للخجل خاصة إذا تم تداول أخبار تتعلق بربط مصالح دولية مقابل الإفراج عن سجناء الرأي، كما فعلت حكومة الولايات المتحدة بربط جزء من المعونات العسكرية مقابل الإفراج عن قائمة تحتوي على ستة عشر اسما من السجناء السياسيين.
إصرار الدولة على تصفية ملف سجناء الرأي بطريقة المساومات السياسية، والتفاوض مع حكومات أجنبية للحصول على مقابل مادي أو سياسي للإفراج عن أسماء بعينها، هو شرعنة واضحة للتدخل الأجنبي وهو ما تدعي الحكومة دائما مواجهته، بالإضافة إلى انتقاص هيبة المؤسسات المصرية خاصة القضائية بعد أن تعاملت الدولة بفجاجة مع صورة العدالة المصرية وسلامة إجراءات التقاضي، وحق المتهم في الحصول على محاكمة عادلة.
الإفراج عن سجناء الرأي هو مجرد استرجاع لحقهم في الحرية، ولكنه لا يحقق عدلا، تحقيق العدل يتطلب خطوات أبعد من مجرد إخلاء سبيلهم بضمان محل الإقامة على ذمة القضايا التي كانوا محبوسين عليها، أو بصدور قرار عفو رئاسي عن باقي العقوبة. ربما ترغب الدولة في تصفية ملف سجناء الرأي بعد أن طال أمده، ولكن حتى الآن يبدو أنها لا ترغب في تحقيق العدل.
أتمنى أن تنتبه الدولة إلى خطورة تلك الخطوات، وأن تحاول معالجة ما تم خلال السنوات الماضية من إجراءات قمعية، عبر خطوات أكثر شفافية وآليات قانونية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة الدولة المصرية ومؤسساتها القانونية، وننفض التراب عن الدستور ليعود حصنا يحمي حقوق المواطنين.