نُشِرَ منذ أيام في الجارديان البريطانية مقال كتبه الاقتصادي الأمريكي الكبير “جوزيف ستيجليتز”. وهو واحد من أهم أقطاب مدرسة “ما بعد الكينزية” والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 وصاحب المؤلفات الهامة في نقد العولمة، والذي كان يشغل منصب رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون”. كتب “ستيجليتز” هذا المقال بالمشاركة مع أستاذ الاقتصاد الأمريكي المعروف “دين بيكر”. نُشِرَ المقال تحت عنوان مُثير: “يجب على الاحتياطي الفيدرالي إيقاف زيادات أسعار الفائدة مع تباطؤ التضخم في أمريكا“. وقد تألفت ديباجته من عبارة واحدة تشبه بيت القصيد لدى الشعراء. وقد جاءت هي الأخرى أكثر إثارة: “سيكون من غير المسئول خلق معدلات بطالة عالية، وهو ما سيدفع بالاقتصاد الأمريكي إلى هاوية الركود”.
في حين أن معظم المحللين الاقتصاديين يتوقعون زيادة جديدة في أسعار الفائدة يفرضها الاحتياطي الأمريكي باجتماع مجلسه المُقبل في 20-21 سبتمبر، أتى الكاتبان برأيهما الذي انعكس واضِحًا في صياغة عنوان المقال وديباجته، مُستندان إلى حجةٍ مؤداها أنه في أوقات الاضطرابات وأخذًا بالاعتبار درجة عدم اليقين الجيوسياسي والمالي والاقتصادي فيما يتعلق بالمسار المستقبلي لظاهرة التضخم الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون من الحكمة أن يوقف الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة بشكلٍ مؤقت إلى أن يصبح من الممكن إجراء تقييم أكثر موثوقية للموقف.
كان نقدُ الكاتبين لرؤية المحللين الاقتصاديين ممن توقعوا زيادة سعر الفائدة مبنيٌ على أن هؤلاء المحللين يقعون في مغالطة تتعلق بالخلط ما بين ارتباط العلاقة “Correlation” من ناحية مع السببية “Causation” من ناحية أخرى، فأوضحا أنه عندما يحدث حدثٌ قبل آخر على سبيل التَعَاقُب، فإن هذا لا يعنى أن الحدث الأخير قد وقع “بسبب” الحدث الأول أو كنتيجة حتمية له.
فند الكاتبان تهافت توقعات معظم المحللين الاقتصاديين بشأن اتخاذ الفيدرالي الأمريكي مزيدًا من التشدد برفع الفائدة على أرضية أن تلك التوقعات قد أُسِسَت بناءً على ما يسمى فى علم الاقتصاد بـ”مُنحنى فيليبس”. وهو منحنى طَوْرَهُ الاقتصادي النيوزيلاندي “ويليام فيليبس” فَنَشَرَه لأول مرة بورقة بحثية في العام 1958 عن العلاقة بين البطالة والتضخم ببريطانيا في الفترة ما بين 1861 و1957، حيث يتأسس هذا المنحنى على فرضية وجود علاقة عكسية مباشرة بين التضخم والبطالة، أي أنه كلما كان معدل البطالة منخفضًا، فإن التضخم يكون مرتفعًا.
أشار الكاتبان إلى أن الارتفاع الكبير في التضخم بالعام الماضي لم يكن راجعًا إلى الانخفاض المفاجئ في معدل البطالة، وبالتبعية، فإنه لا يجوز الآن تفسير التباطؤ الأخير في نمو الأجور والأسعار بارتفاع معدل البطالة.
وأشار الكاتبان كذلك إلى أن مستوى التضخم الحالى في أمريكا لم يحدث بتأثير من عوامل تتعلق بالسيطرة على الطلب، فالقيود التى فُرِضت على العرض هي التي تسببت بزيادة التضخم، وهي التي تدفع به (التضخم) الآن إلى الانخفاض الذي دللا عليه بأن مؤشر أسعار المستهلكين للبنزين انخفض بنسبة 7.7% في يوليو من هذا العام، كما أشارا إلى أن انخفاض مؤشر ضغط سلاسل التوريد العالمية لمستوى يقترب من مثيله قبل أزمة كورونا، وأوضحا أنه على الرغم من أن تكاليف الشحن لا تزال مرتفعة، إلا أنها قد انخفضت بنسبة 50% تقريبًا عن أعلى مستوياتها بالخريف الماضي، ومن المرجح أن تستمر في الانخفاض.
انتهى الكاتبان إلى أن كثيرًا من الاقتصاديين الأمريكيين ومنهم بعض أصحاب القرار بالاحتياطي الفيدرالي قد أخطأوا في توقعاتهم بشأن “سرعة” التغلب على إنقطاعات العرض بسبب الحرب الأوكرانية، ومن ثم فقد أخفقوا في تقدير “الفترة الزمنية” التي تعود فيها الأمور إلى الوضع الطبيعي، ليتسائلا ثلاث أسئلةٍ استنكارية شديدة البساطة وبالغة العمق: “من كان يتصور أن اقتصاد السوق الأمريكى الضخم سوف يفتقر إلى قدرة الصمود على هذا النحو؟ من كان يتوقع أن يعاني هذا السوق من نقص حاد في حليب الأطفال ومنتجات النظافة النسائية والمكونات اللازمة لإنتاج السيارات؟ أهي الولايات المتحدة الأمريكية أم الاتحاد السوفيتي في أيامه الغابرة؟”.
وجدت نفسي متفقًا إلى حدٍ كبير مع طرح الكاتبين الكبيرين بِحُكم تقديري واتباعي شخصيًا لنفس المنهج الذي أسسا رأيهما في ضوءه، فالتحليل العلمي ينبغي أن يكون مُستندًا لواقعٍ حَيَاتيٍ ملموس لا إلى تجارب ماضٍ حدثت في ظروف مختلفة. وهو أمر يقتضي فهم المُقدمات الحقيقية مع إدراكٍ للفارق بين “ارتباط العلاقة” و”السببية” بغرض معالجة الأزمة موضوعيًا، بما يتناسب مع طبيعتها، خصوصًا وأن أزمة التضخم الحالي لها تأثير مُتبادل على أزماتٍ أخرى يعاني منها الاقتصاد الأمريكي كالديون السيادية والاختلالات الهيكلية بالموازنة الفيدرالية والموازين التجارية، بما يفرض ضرورة دراستها بشكل متكاملٍ لا انفصال فيه.
تأتي كل هذه الأزمات في ظل معضلاتٍ كونية استثنائية كتداعيات المناخ واحتياجات الطاقة النظيفة، وتبدل موازين السياسة الدولية بإنحسار دور المنظمات الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وبزوغ نجم “منظمة شنجهاي للتعاون” التي نجحت الجهود الديبلوماسية الروسية والصينية في إعادة بث الروح فيها وإحياءها من جديد والخروج المُحتمل للاتحاد الأوروبي من دائرة التأثير الإيجابي على المستوى العالمي، حيث أتوقع -شخصيًا- أن تنكفئ أوروبا على نفسها لفترة لا تقل عن الخمس سنوات تعكف فيها على حل أزماتها المُتأصلة.
هل ينصت الفيدرالي الأمريكي لما طرحه “جوزيف ستيجليتز” و”دين بيكر” فيأخذ قسطًا من الراحة ويُريحنا معه؟ هذا ما سنعرفه خلال الساعات المقبلة.