تميزت قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي انعقدت في 14- 16 سبتمبر 2022 في مدينة سمرقند الأوزبكية، بالصخب في التصريحات والوعود وتوسيع العضوية. وذلك على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا والمواجهة الواضحة بين روسيا والولايات المتحدة. لكن توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الدول العربية من أجل التعاون مع المنظمة، كان لافتا. إذ أكد أن “منظمة شنغهاي للتعاون مهتمة بتوسيع التعاون مع الدول التي تطمح لإقامة علاقات تعاون مبنية على الاحترام المتبادل ومهتمة بالانضمام للعمل مع المنظمة”. ورحب بانضمام كل من السعودية ومصر وقطر إلى منظمة شنغهاي بصفتهم “شركاء حوار”، وكذلك ببدء عملية الحصول على صفة “شريك الحوار” لكل من الكويت والإمارات والبحرين وجزر المالديف وميانمار، مشيرا إلى أن المنظمة منفتحة للنظر في إمكانية انضمام أي دول أخرى ترغب في التعاون والعمل المشترك مع المنظمة.

اقرأ أيضا.. روسيا من الاشتراكية إلى التعددية القطبية

النقطة الثانية اللافتة هي مواصلة المبالغة في قدرات هذه المنظمة، حيث صرح بوتين بأن “منظمة شنغهاي للتعاون هي اليوم أكبر منظمة إقليمية في العالم، وهي تعمل على زيادة دورها في حل المشاكل الدولية والإقليمية”. وشدد على أن “أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في الدول الأعضاء فيها، ويتم إنشاء نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي، وتتركز إمكانات فكرية وتكنولوجية قوية، وجزء كبير من الموارد الطبيعية في العالم في دولها”. كما شدد أيضا على أن “منظمة شنغهاي لا تقف مكتوفة الأيدي وتواصل تطويرها تدريجيا، وزيادة دورها في حل المشاكل الدولية والإقليمية، والحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في جميع أنحاء منطقة أوراسيا الشاسعة”.

النقطة الثالثة المهمة والخطيرة، أنه في أثناء حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قوة المنظمة وقدراتها، كانت تدور حرب حقيقية ومعارك قتالية بين جيشي طاجيكستان وقيرغيزستان لليوم السابع على التوالي، وهما الدولتان العضوتان المؤسستان لهذه المنظمة وفي حضور رئيسيِّ الدولتين نفس هذه القمة. والأغرب أن القمة ضمت أيضا رئيسيِّ كل من أرمينيا وأذربيجان، وهما دولتان تتمتعان بصفة “شريك في الحوار” وتدور بينهما حرب ومعارك في نفس وقت انعقاد القمة، ووصلت أعداد الضحايا إلى أكثر من 300 شخص من الجانبين. هذا إضافة إلى أن أرمينيا عضو عامل بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا.

آخر اجتماع لأعضاء منظمة شنغهاي

تجدر الإشارة إلى أن منظمة شنغهاي للتعاون تأسست عام 2001، وتضم روسيا والهند وكازاخستان والصين وقرغيزستان وطاجيكستان وباكستان وأوزبكستان، ويجري حاليا وضوع الرتوش الأخيرة لانضمام إيران التي ستصبح بذلك العضو التاسع في المنظمة. كما تضم كلا من أفغانستان وبيلاروس ومنغوليا كدول مراقبة، وكلا من أذربيجان وأرمينيا وكمبوديا ونيبال وتركيا وسيريلانكا كدول شريكة في الحوار. هذا إضافة إلى منح مصر وقطر والمملكة العربية السعودية صفة شركاء الحوار كما أشرنا أعلاه. وفي هذا العام، تقدمت بيلاروس رسميا للانضمام إلى المنظمة كعضو كامل العضوية.

النقطة الرابعة كانت بخصوص استقطاب الصين ودق أكبر قدر من الأسافين بينها وبين الغرب. ففي لقائه بنظيره الصيني شي جين بينج، على هامش القمة، وجه بوتين إدانة لـ “استفزازات الولايات المتحدة والسياسة التي تنتهجها في علاقة بمضيق تايوان”. وفي الوقت نفسه أكد لنظيره الصيني أن “روسيا تثمن عاليا موقف الصين المتوازن بشأن الأزمة الأوكرانية”، موجها حديثه إلى الرئيس الصيني: “نحن ندافع بشكل مشترك عن تشكيل عالم عادل وديمقراطي ومتعدد الأقطاب على أساس القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وليس على بعض القواعد التي توصل إليها طرف ما ويحاول فرضها على الآخرين دون توضيح ماهيتها”. وأضاف أن “محاولات إنشاء عالم أحادي القطب اتخذت مؤخرا شكلا قبيحا وغير مقبول على الإطلاق بالنسبة للغالبية العظمى من الدول على هذا الكوكب”.

لكن الرئيس الصيني أجاب في هدوء: “إننا في مواجهة التغيرات الهائلة في عصرنا، وغير المسبوقة، على استعداد مع زملائنا الروس لنضرب مثالا لقوة عالمية مسؤولة، قادرة أن تلعب دورا رائدا، لإحداث تغيير سريع في العالم من إجل إعادته إلى مسار التنمية المستدامة والإيجابية”. أي أن الرئيس الصيني بحكمة وذكاء غير مسار الحديث في اتجاه آخر تماما، نحو التنمية والتحديث والمسؤولية تجاه الشعوب.

النقطة الخامسة، هي أن القمة انتهت بـ “إعلان سمرقند” الذي تضمن حوالي 10 توصيات بارزة ولكنها فضفاضة للغاية، لم يذكر في أي منها أو في غيرها أي تصريحات حول “الأزمة الأوكرانية” أو “الغزو الروسي لأوكرانيا” ما يشير إلى عدم توافق الدول الأعضاء مع روسيا في هذا الشأن. واكتفى الرئيس الروسي باتخاذ القمة كمنبر للإدلاء بتصريحات جانبية حول الأزمة الأوكرانية وتوجيه إنذارات وتهديدات، وكأن أوكرانيا هي التي قامت بغزو روسيا.

كيف تنظر روسيا إلى العالم من خلال قمة “شنغهاي” في سمرقند!

الحرب الروسية الأوكرانية

من الصعب عزل رؤية روسيا لهذه القمة عن النقاط الخمس المذكورة أعلاه، وبالذات النقطة الثالثة. ولكن موسكو ترى أن لقاءات بوتين بقادة الصين والهند وإيران وتركيا ودول أخرى في إطار هذه القمة دليلا دامغا على عدم عزلة روسيا. كما أن وسائل الإعلام الروسية تكثف حملاتها لإثبات أن الصين تدعم روسيا، على الرغم من أن الزعيم الصيني يتحدث عن أمور أخرى تماما تتعلق بمصالح بلاده حصرا. لكن موسكو تحاول بشتى الطرق الدفع في كل المناسبات بموضوع تايوان ودق أكبر قدر من الأسافين ووصف الصين بأنها “فقدت ماء وجهها” أمام الولايات المتحدة والغرب كله. بل وتذهب إلى نتائج “مرعبة” بشأن “استعداد بكين للمواجهة مع واشنطن”، على الرغم من أن الصين لا تقول ذلك، ولا يوجد في تحركاتها العملية على الأرض أي توجهات لذلك. بل على العكس، ينمو حجم التبادل التجاري بينها وبين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

أما المثير للتساؤلات هو أن موسكو، خلال هذه القمة، تنظر إلى اندلاع القتال على طول الحدود بين طاجيكستان وقيرغيزستان (كل منهما تضم قواعد عسكرية روسية، واقتصاد البلدين في الحضيض) كتحصيل حاصل، وأنه جزء من التحولات العالمية التي تستلزم آليات معينة مرتبطة بما يجري في العالم كله. أي أن روسيا ليس لديها القدرة على التأثير على هذا النزاع، ولا حتى على النزاع الأرمني الأذربيجاني، وتفضل ترك الأمور على الحافة أو اللجوء لتجميد الصراع أو في أحسن الأحوال للتسويف حتى ظهور مفاجآت أو مصادفات أو تناقضات قد تخدمها.

إن موسكو كالعادة، تنظر إلى منظمة شنغهاي للتعاون ككيان غير متبلور سياسيا، ولا يفرض أي التزامات على أعضائه، لكنه من جهة أخرى يسمح لهم بالحصول على “القليل دون بذل الكثير من الجهد”. وفي الوقت نفسه ترى أنها “قد” تتوافق بشكل ما مع “حقبة الدول المتحاربة” المقبلة. غير أن هذه النظرة “العدمية” خطيرة للغاية. وتكمن خطورتها في أن روسيا تسعى لتشكيل أكبر قدر من هذه المنظمات عبر رؤية نظرية ترتكز إلى “الحرب والعسكرة”. وترى في هذا السياق أن هذه الصيغة هي الصيغة الوحيدة لمنظمات دولية مطلوبة، ومطلوب وجودها! ويعود ذلك إلى اعتقاد روسي غريب بعض الشيء يتمحور حول أن العالم يشهد ترديا لجميع المؤسسات الدولية التي تم إنشاؤها بنتيجة الحرب العالمية الثانية، وبنتيجة هزيمة الاتحاد السوفيتي لاحقا في الحرب الباردة وظهور ما تعتبره روسيا “العالم أحادي القطب”. وهي الرؤية التي يجري الترويج لها من أجل تكوين “تكتلات فقاعية” إقليمية ودولية بقيادة روسيا.

الطروحات الروسية لعسكرة العالم

إن الرؤية الروسية تنطلق هنا من أوهام لتبرهن على وجود أوهام أخرى من قبيل أن “الولايات المتحدة وحلفاءها يسيطرون على تلك المؤسسات في كل مكان: هيئة الأمم المتحدة، ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، واللجنة الأولمبية الدولية”. بل وتذهب إلى أن الولايات المتحدة تعمل على تفكيك جميع المعاهدات الأمنية المقيدة “مع روسيا”، وتبذل جهودا لإصلاح الأمم المتحدة لإزالة حق النقض من روسيا!

وتتواصل الطروحات الروسية الخطيرة إلى عدم وجود آليات ونظام للمؤسسات الدولية في الوقت الراهن، وكل ما هنالك هو أن كل هذه المؤسسات مجرد أقسام فرعية للجهاز الإداري للولايات المتحدة. وتخلُص إلى نتيجة مفادها أن ذلك أدى إلى زيادة الطلب والحاجة إلى “إنشاء نظام جديد من المنظمات الدولية التي لا يسودها الإملاءات الأمريكية”.

هنا تصب الطروحات الروسية في أحد الأهداف المهمة بالنسبة للعقيدة الروسية “الأوراسية” التي تعتمدها النخبة الحاكمة الحالية في الكرملين كعقيدة سياسية وجيوسياسية بالنسبة لها. فموسكو ترى أنه لا يمكن تسمية منظمة شنغهاي للتعاون بالكتلة، لأنها تضم دولا في حالة تنافس وحروب وصراعات مع بعضها البعض، وتقفز إلى وصفها بأنها “نوع من الأمم المتحدة في قارة أوراسيا، ومنبر للحوار بين دول ذات سيادة، يمكن من خلالها تطوير حلول وسط.

وفي نفس الوقت، فإن وجود أطراف متحاربة (لكنها في الوقت نفسه متعاونة!) مثل الهند والصين، وروسيا وتركيا، وقرغيزستان وطاجيكستان، وأرمينيا وأذربيجان، يضمن غياب احتكار الرأي في اتخاذ القرارات”. هذا الطرح الملئ بالتناقضات الجوهرية يتضمن العديد من المغالطات التي تهدف في المقام الأول إلى تفكيك المشهد من أجل تجميعه وفق منطق معكوس تماما لتسييد نمط نظري- ذهني يجعل روسيا مركزا لقطب وهمي في مواجهة الغرب بكل مكوناته (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو). لكن الأخطر هو وضع الفكرة “الأوراسية” في قلب هذا المشهد النظري- الذهني، بينما كل الدول الموجودة في التكتلات والصيغ الروسية هي دول متحاربة ومتقاتلة، ولا تجمع بينها أي فكرة “أوراسية” لا نظريا ولا على أرض الواقع ولا جغرافيا.

العالم العربي وقمة شنغهاي وروسيا “الأوراسية”

عرض عسكري للجيش الروسي

إن موسكو تحاول الترويج لفكرة أن منظمة شنغهاي للتعاون هي الأمم المتحدة المستقبلية، أو على الأقل منظمة عالمية توحد “غالبية البشرية!” تحت راية روسيا “الأوراسية”. وبالتالي، فإن توسع المنظمة هو أمر حتمي، وينبغي أن يكون للدول العربية دورا ومكانا. هكذا تحاول موسكو توريط أكبر قدر من الدول العربية وتحويلها إلى بيادق في لعبتها الجيوسياسية “الأوراسية”، وتحويل جغرافيتها إلى ساحة للصراع مع الغرب.

في الحقيقة، لقد تمكنت الصين وروسيا من إقامة نظاميهما السياسيين ورؤيتهما للعالم، ومن ثم نهضتهما، في عصور ماضية كان لها ظروفها. لكن بناء أي نهضة أو تقدم أو منظومة حكم عقلانية في الوقت الراهن تراعي الحريات والتقدم العلمي- التقني لا يمكن أن تقوم إلا على مقومات ومعايير جديدة تتناقض تماما مع مبادئ البنية السياسية في كل من روسيا والصين. فالعالم يتجه إلى ذلك، ولا يمكن العودة إلى الوراء وبناء أنظمة سياسية- اقتصادية- اجتماعية بأثر رجعي على معايير وظروف قديمة وماضوية بالية.

إن روسيا تسعى إلى إسقاط كل ما يجري حاليا في العالم على نموذج نظري ماضوي قديم، لكسب تأييد دولي على الرغم من معرفتها الجيدة بأن العالم تغير، وأن المعايير والمبادئ التي تحكم التقدم البشري صارت محكومة بظروف مغايرة تماما. ولذلك فإن النماذج النظرية التي تطرحها روسيا ما هي إلا إسقاطات تاريخية في محاولة لإبعاد العديد من الدول عن طريق التقدم بمعاييره الجديدة والمستقبلية وإعادته إلى نماذج متهالكة ومتضعضة. وفي الوقت نفسه تحافظ روسيا والصين على قدر من الارتباط بالمعايير الجديدة للتقدم، وعلى رأسها المجالات العلمية التقنية. والخاسر الوحيد في هذه المعادلة هو تلك الدول التي تستسهل الأمور وتؤجل مصالحها الحيوية ومصالح شعوبها تحت شعارات الحياد وعدم الانحياز والنأي بالنفس أو التعاطف المضمر مع طرف ما.

كما أن روسيا تستخدم كل نقاط الخلاف والتناقض لدق الأسافين بين الصين والغرب، وبين المنطقة العربية والغرب لا لإفشال الغرب أو تدمير أي منظومة دولية مستقبلية، وإنما لتمييع الحدود، وفي نفس الوقت الحفاظ لنفسها فقط على مساحة للمناورة للاتفاق فيما بعد مع نفس هذا الغرب للتوافق والتعاون وتقسيم النفوذ. وربما تكون الصين هي الدولة الوحيدة الواعية لذلك. والتي تحافظ أيضا على مساحة للمناورة مع كل من روسيا والغرب.

إن غالبية الدول التي تحاول روسيا ضمها إلى تكتلات ومعاهدات، بينها وبين بعضها حروب حقيقية يقع فيها ضحايا ويحدث فيها تدمير للبنى التحتية. وهذا ينطبق أيضا على مجموعة “بريكس” الأساسية، أو على مجموعة “بريكس+” الافتراضية التي من المخطط أن تضم دولا متصارعة ومتحاربة. كما ينطبق أيضا على الدول الخمس في منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ومن الواضح أن هذه التكتلات والمنظمات غير مؤثرة إلا على المستوى النظري وحسابات وسائل الإعلام المتعلقة بقواها الاقتصادية وعدد سكانها وقدراتها الافتراضية. لكن لا هياكل حقيقية وواقعية يمكنها تحويل هذا العصف النظري إلى قوى مادية قادرة على مواجهة الغرب. بل يمكن أن نلاحظ أن العديد من دول تلك الهياكل تضع قدما في هذه الهياكل والتكتلات وقدما أخرى في الهياكل والمنظمات الغربية، وتنسج علاقات مهمة وفعالة وواقعية ومؤثرة مع الدول الغربية، سواء كان ذلك على حدة أو ضمن صيغ متعددة.

يبدو أن تحركات وانحيازات الدول العربية إما خاطئة أو غير دقيقة، أو في أحسن الأحوال تأتي متأخرة بعد أن تكون كل الفرص الممكنة لتحقيق المصالح قد انتهت وأغلقت أبوابها. فأثناء الحرب الباردة استفادت الهند وباكستان مع الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية، وتمكنتا من بناء قواهما النووية بكل ما يتفرع عنها من مجالات علمية تقنية وبحثية، بينما انقسمت الدول العربية وحاربت طواحين الهواء وانشغلت بتفاصيل هامشية. بل وأهملت فرص التقدم العلمي التقني، وأجلت كل طموحاتها العلمية والتكنولوجية، ومعها ملفات التعليم والصحة والحريات. والآن تتكرر المأساة مجددا بالتأرجح بين “الحياد” و”عدم الانحياز” و”النأي بالنفس” و”التضامن المضمر” والسير خلف الصور والنماذج النظرية والذهنية التي تطرحها روسيا. وبالتالي، ستتأجل ملفات مهمة مثل بناء دولة القانون والحريات، وسيتم تأجيل ملفات التقدم العلمي التقني- الرقمي، والعودة مجددا إلى نموذجي روسيا والصين المبنيين أساسا إما على بيع الخامات وموارد الطاقة أو على المعايير والاستثمارات والقدرات الغربية، بل وهناك جزء كبير من هذين النموذجين يعتمد اعتمادا كليا أو جزئيا على القدرات الغربية فيما يعرف بالتقنيات الدقيقة والأصول وحقوق الملكية.