“التعليم”.. باب الخروج الأول من أزمة مصر الراهنة (1 – 2)
الافتراض الثاني أن أزمة مصر الحالية هي أزمة اقتصادية بالأساس قبل أن تكون سياسية، وهنا أيضا فإن التاريخ يعلمنا أن التعليم هو باب الخروج الوحيد.
فمن اللافت في الخبرة التاريخية أن أكثر فترتين شهدتا اعتمادا على الذات وانخفاضا قياسيا في الديون الأجنبية كانتا فترتي حكم محمد علي وجمال عبد الناصر، اللتين شهدتا نهوضا تعليميا، بما يمكننا من الربط بيسر بين النمو الحقيقي وليس الريعي للاقتصاد المصري وبين زيادة قدرة وكفاءة الثروة البشرية من خلال التعليم.
في الحالة المعاصرة أدى تراجع دور الدولة في التعليم منذ السبعينات والتذبذب في نسبة الإنفاق عليه من الناتج الإجمالي للدخل القومي في اتجاه يتراجع وينحسر باستمرار إلى تدهور مستوى التعليم.
وأدى هذا التدهور إلى نتائج اقتصادية وخيمة ساهمت في الأزمة الحالية يكفي أن نذكر منها تدهور الإنتاجية وازدياد معدلات البطالة (التعليم غير الجيد لا يلبي احتياجات سوق العمل)، وزيادة الفوارق الاجتماعية مع تراجع قيمة التعليم كوسيلة للترقي والحراك الاجتماعي كوسيلة لتحسين توزيع الثروة في المجتمع.
وعلى المستوى الإقليمي كبنك للخبرات البشرية تراجعت جزئيا الميزة التفضيلية والتفوق النوعي الذي كانت تحتله الخبرات المصرية، وباتت في محل منافسة جدية سواء من الدول العربية الشقيقة في المشرق وشمال أفريقيا أو من الدول الآسيوية الناهضة.
وهنا ربما كان المكان والوقت المناسب للفت انتباه حكومتنا الرشيدة فندلها إلى ما هو أفضل -حتى بالمقاييس البراجماتية البحتة- من حلول البيع المتكرر المبدد للأصول العامة في المصانع والشركات المصرية إلى المستثمرين والصناديق السيادية لدول الخليج، ألا وهو أن تقوم الحكومة برفع نسبة الإنفاق على التعليم والاستثمار الكثيف جدا في مرحلته الجامعية وما قبل الجامعية.
إذ إن توقعات اقتصادية تقوم على أسس صلبة تشير إلى أن دول الخليج العربية النفطية مرشحة مع ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى ازدهار اقتصادي كبير خلال السنوات الأربع القادمة 2022- 2026 تجني فيه ما يقرب من تريليون ونصف تريليون دولار -هذا إذا لم تحدث أزمة عالمية كبرى مفاجئة أخرى- وسيزداد الإنفاق العام الخليجي مرة أخرى ويزداد معه الطلب على الوظائف.
وهنا يمكن أن يؤدي تكثيف الإنفاق على تحسين مستويات التعليم المصري وزيادة جودتها ومستوى تنافسيتها إلى إعادة تموضع العمالة المصرية المتعلمة إلى مركزها المتفوق المعهود فتفوز بالقسم الأكبر من كعكة فرص العمل القادمة في منطقة الخليج وليبيا والجزائر والعراق، وسيدر هذا على مصر موارد نقد أجنبية من تحويلات أبنائها في الخارج تزيد بكثير عن موارد بيع أصول إنتاجية وإهدار ثروة وطنية بالخصخصة يصعب حتما تعويضها.
أما إذا كانت الأزمة مجتمعية شاملة تتعلق بأزمة الانتماء والهوية الوطنية ومشكلات المواطنة وتزايد التمييز وعدم التسامح وانتشار أفكار التشدد وارتفاع معدلات العنف الاجتماعي والأسري والنمو الملحوظ للجريمة وزيادة مستويات الفساد واختفاء القدوة وانهيار الأخلاق وانتشار الغش والفهلوة وانحدار الفنون.. إلخ، فإن التعليم هنا وبامتياز ودون منازع هو باب الخروج الأول المجرب عندنا وعند غيرنا من الأمم.
خذ مثلا ما لحظه الخبراء التربويون من انتشار التطرف منذ سبعينات القرن الماضي، إنما بدأ مباشرة مع تراجع دور الدولة في التعليم وبدء خصخصتها له تدريجيا بالسماح بمدارس خاصة لـ الإخوان والسلفيين والمعاهد الدينية الخاصة في الريف، ما أدى إلى انتشار الفكر الوهابي وأفكار التكفير والتفجير والقتل والتي مثلت ولا تزال تهديدا للوحدة الوطنية والمواطنة الجامعة.
ومن دون عودة التعليم تحت مظلة الدولة بمناهج تنشر التسامح والمواطنة الحقة فستظل مهمة استئصال التطرف دون إنجاز، ومهمة تجديد الفكر الديني حائرة تدور في حلقة مفرغة بين أدعياء التنوير وغربان التشدد.
أزمة الانتماء التي نشكو منها أيضا مردها انسحاب الدولة من التعليم وعدم وجود نظام تعليم وطني واحد، في ظل الفوضى القائمة التي لا يكاد يعرفها بلد آخر في العالم من مدارس وجامعات أجنبية ودولية من الشرق والغرب الصالح منها والطالح وصفها العالم الراحل أحمد زويل مرة بالمهزلة.
لم يعد التعليم إذن يقوم بمهمته في التنشئة الوطنية الجامعة وتراجع الانتماء إلى الوطن وأصبحت الهجرة للغرب هي الأمل المرتجي وامتدت الطبقية الاجتماعية إلى التعليم وصار التعليم العام للفقراء والتعليم الأجنبي للأغنياء، وازداد عجز خريجي التعليم العام عن الحصول على وظيفة، وزادت البطالة، وزاد معها الجيش البشري المحبط الذي تنقض عليه ذئاب الجماعات المتطرفة لتجنيده واختطاف عقله وروحه.
هل يمكن أن ينقذ التعليم مصر بعد تغيير سياسات الخمسين سنة «اللا دولة»؟ نعم يستطيع بشرط رئيسي هو مواجهة الحكومة لنفسها بأنها السبب الأساسي لانهيار التعليم في النصف قرن الأخير عندما تراجع إنفاق الدولة عليه وعلى قطاع الصحة المرتبط به ارتباطا وثيقا. فإذا اعترفت وجعلت الإنفاق على التعليم له الأولوية متقدما على التشييد والبنية التحتية والاستيراد غير الضروري فقد تحققت ضربة البداية.
أما الحلول الأخرى وعلماء التربية أفضل في تحديدها وخططهم فيها معروفة وجاهزة تحتاج فقط إرادة سياسية، وقد أشار التربويون إلى بعض هذه الخطط ومنها:
-أن يوجه الإنفاق المأمول على التعليم إلى قلب عناصر العملية التعليمية وأهمها قاطبة المعلم، أولا بسد النقص المخيف في عدد المعلمين، خاصة في التعليم العام الذي يصل إلى ٣٢٠ ألف معلم. وثانيا برفع أجور المعلمين بحيث توفر للمدرس حياة كريمة تغنيه عن تسول أو ابتزاز الدروس الخصوصية. وثالثا برفع المستوى الثقافي والعلمي والتأهيلي للمعلم عبر برامج وخطط مدروسة وموجودة تنتظر التطبيق.
-الإنفاق على البنية الأساسية للتعليم من مدارس جديدة، وتجديد القديمة وإنهاء الكثافة المخيفة للفصول الدراسية.
-مناهج دراسية عقلانية تستند إلى التفكير النقدي وقيم التعدد والاختلاف وتحيي قيم المواطنة وحقوق الإنسان وعدم التمييز، وتعيد إصلاح الخلل القائم لغلبة التعليم العام على التعليم الفني والغلبة لخريجي كليات العلوم الإنسانية على كليات العلوم الطبيعية.
مناهج تربط بين التعليم واحتياجات سوق العمل خاصة مع التوجه العالمي نحو مجالات جديدة لاقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات والعمل عن بعد.. إلخ.
آن الأوان لكي تعيد الدولة المصرية هيبتها على نظام تعليمي (بزرميط)
تطرح بعض مناهجه سفارات أجنبية أو يعاني من ازدواجية المدني والديني وينخر فيها تعليم طائفي فيما مايسمي ضمنا بمدارس ذات طابع إسلامي أو مسيحي.
تعليم وطني، عقلاني، ديمقراطي، مدني حداثي، حقوقي، يحقق تنشئة وطنية جامعة في الوادي والدلتا، والحضر والبادية، يساوي في الفرص بين المواطنين ذكورا ونساء، فقراء وأغنياء، لا فضل لأحد منهم إلا بالتفوق والابتكار.
من دون تغيير سلم الأولويات الوطنية وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام وجعل التعليم على رأس جدول الإنفاق العام قبل الجميع لن تستطيع مصر حل أزمتها الاقتصادية بنشاط إنتاجي حقيقي وراسخ في الأرض وليس ريعيا متذبذبا تلهو به رياح الأزمات الخارجية والداخلية فهو طريقها الوحيد إلى قوى عاملة مدربة وكفؤة ينتجها تعليم جيد وعادل لا يتوافر بالقدر المطلوب حاليا. لن تستطيع مصر الحفاظ على أهم مورد للعملات الأجنبية (تحويلات المصريين في الخارج بلغت ٢٥٠ مليار دولار في عشر سنوات) مورد من عرق وجهد أولادها دون شروط سياسية واقتصادية قاسية تنال من أقوات وصبر العباد وتنال من دور البلد وقيمته.
لقد حصل قطاع مشروعات التشييد والبنية التحتية في الفترة الماضية على أولوية الإنفاق مع ما هو معروف من ضعف عائدها الاستثماري – ولقد أنجز فيها الكثير مما يستحق الإشارة إليه بالبنان – ولكن جاء الوقت لكي نعيد هذا القطاع إلى مرتبة متأخرة ونعطي أولوية مطلقة للقطاعات المولدة للثروة مثل التعليم والصناعة والزراعة.
ربما جاء الوقت أخيرا لكي تخرج مصر متمردة على سياسات صندوق النقد الدولي التي تدور فيها منذ السبعينيات في القرن الماضي دورانا سرمديا ليس له نهاية.
هذه السياسات التي تنحصر في هدفين وحيدين هما تحقيق التوازن المالي من جهة وإعطاء الإنفاق على البنية التحتية الأولوية من جهة أخرى. سياسات قادت إلى إهمال التعليم والقطاعات الإنتاجية السلعية الحقيقية. سياسات أبقت الأسواق المصرية سوقا لاستيراد بضائع الشركات متعددة الجنسية المهيمنة. جعلت بلدنا بلدا استيراده أكثر من تصديره، ومصروفاته أكبر من إيراداته، وتسد حكوماته المتعاقبة الفجوة بمزيد ثم مزيد من الديون.