في 1811 نجح محمد علي باشا في القضاء على ما أبقاه الدهر من خطر المملوكية القديمة، وكان قبل ذلك بعامين 1809 نجح في القضاء على نفوذ الحركة الشعبية المصرية البازغة، وخلت له الساحة ليؤسس المملوكية الجديدة التي أخذت لقب “الدولة الحديثة”، وقد استمرت هذه المملوكية الجديدة حتى الاحتلال البريطاني 1882، ثم عادت أكثر قوة بعد ثورة 23 يوليو 1952، واستمرت ستين عاما دون انقطاع حتى سقطت -بصورة مؤقتة- مع ثورة 25 يناير 2011، ثم عادت أقوى من كل ما سبق مع دولة مابعد 30 يونيو 2013 التي أخذت اسم “الجمهورية الجديدة ” بعد انتخابات الرئاسة الصورية والشكلية في عامي 2014 ثم 2018، وهذه باختصار مسيرة المملوكية الجديدة أو الدولة الحديثة من محمد علي باشا وورثته في الحكم إلى ورثتهم من ضباط الجيش منذ إعلان الجمهورية 1953 إلى وقت كتابة هذه السطور في خريف 2022.
المملوكية الجديدة أو حكم الرجل الواحد أو الدولة الحديثة أو الخديوية السياسية من محمد علي باشا 1811 إلى اليوم والغد أخذت عن المملوكية القديمة أمرين عظيمين وحافظت عليهما:
1 – الأمر الأول الذي أخذته المملوكية الجديدة عن المملوكية القديمة هو أن الحكم للقوة وليس للحق أو بالتعبير الموروث الحكم لمن غلب، الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري 1223- 1277 يتخلص من صديقة سيف الدين قطز 1221- 1261، ثم يجلس مكانه، علما أن الظاهر بيبرس يظل من أعظم من حكم مصر من المماليك ومن غير المماليك، كان عبقرية حرب وحكم وسياسة وإدارة نادرة في التاريخ الإنساني، في عصره كان يتفوق على أنبغ حكام أوروبا مثل لويس التاسع في فرنسا 1214- 1270 وكذلك يتفوق على إدوارد الأول ملك بريطانيا 1239 – 1307، لكنه يظل مؤسس المملوكية السياسية القديمة، كما هو ملهم المملوكية السياسية الحديثة، من زاويتين: كيفية الوصول للحكم بالقوة، ثم كيفية إضفاء شرعية صورية على هذا الاغتصاب.
محمد علي باشا غلب الحراك الشعبي بقيادة عمر مكرم، ثم غلب المماليك، ثم أحكم السيطرة على رجاله، ثم أحكم السيطرة على البلد، ثم وضع يده على موارد البلاد فهانت أمامه الصعاب ولان بين يديه كل عسير، وظل الآمر الناهي منفردا بلا منافس ولا منازع إلا من نجله الأكبر في سنواته الأخيرة وقد حكم مصر -بالقوة وحدها- قريبا من نصف قرن حتى بعد وصول مشروعه الإمبراطوري إلى حائط مسدود وبداية تفكيكه طوبة طوبة بعد 1940، وعلى العكس من الباشا الكبير فقد حفيده إسماعيل السيطرة على الأحداث ثم فقد السيطرة على رجاله ثم انفرط عقد البلد بين يديه فباعه من في الداخل لمن في الخارج فكان أول المماليك الجدد يفقد منصبه، وتحت الاحتلال كانت ذرية إسماعيل من توفيق إلى عباس حلمي الثاني إلى حسين كامل إلى فؤاد إلى فاروق مجرد أدوات في يد الاحتلال، وقد عزل الاحتلال عباس حلمي الثاني 1914 وعزل الضباط الأحرار فاروق 26 يوليو 1952.
ثم مع ثورة 23 يوليو 1952 عادت المملوكية الجديدة أقوى مما كانت، فقد نجح جمال عبد الناصر في التخلص من كل منافسيه داخل الجيش، ثم أحكم السيطرة على الجيش، كما تخلص من كل مناوئيه في المجتمع السياسي، ثم أحكم السيطرة على مؤسسات الحكم، ثم أحكم السيطرة المطلقة على مقادير البلاد، ثم حكم وحيدا منفردا يأمر وينهي فيُسمع ويُطاع في الخطأ قبل الصواب وفي الشيء ونقيضه معا، وقد ورث عنه كافة الحكام من الضباط هذه التكتيكات المحفوظة، فمثله فعل السادات، ومثله فعل مبارك، ومثله فعل السيسي.
عبد الناصر بقي متمكنا رغم هزيمته 1956، ثم فشل مشروعه للوحدة العربية مع سوريا 1962، ثم رغم فشل حربه في اليمن 1962- 1967، ثم رغم هزيمته في 1967.. في حرب 1956 انسحب من سيناء ولم يقاتل وذهب يخطب في الجامع الأزهر وليس على جبهات القتال، ويقول ما لا يصدر عن قائد عسكري ولا عن مسؤول سياسي، يقول إن القوات انسحبت غرب القنال وسوف تقاتل مع الشعب جنبا إلى جنب من قرية إلى قرية ومن شارع إلى شارع، ولم يسأله أحد عن معنى أن يقاتل الجيش مع الشعب من قرية إلى قرية ومن شارع إلى شارع ، ثم خرج من هذه الهزيمة -التي سميت نصرا- لوحدة متعجلة غير مدروسة مع سوريا التي يصعب على مكوناتها أن تنصهر مع بعضها البعض في الداخل ناهيك عن أن تتوحد مع غيرها في الخارج، ومن قبله غزاها محمد علي باشا ونجله إبراهيم 1839 بسهولة بل وترحيب من كل شعوب الشام نكاية في العثمانيين ثم أخفق في الاحتفاظ بها لسببين: المعارضة له من داخلها ثم المعارضة الخارجية بالذات من بريطانيا والدولة العثمانية، ثم خرج من الوحدة الفاشلة مع سوريا إلى حرب أكثر فشلا في اليمن استنزف فيها موارد البلاد المالية والبشرية ومن قبله رفض محمد علي باشا التورط فيها رغم إدراكه لضرورتها الاستراتيجية والتجارية وظل يحوم حولها دون أن تنزلق قدماه في متاهتها، ثم خرج من حرب اليمن الفاشلة ليدخل -بمحض اختياره- حرب يونيو 1967 بعد أن كان قد استنزف طاقات البلد على مدى السنوات العشر السابقة على حرب، فكانت الهزيمة المحتومة صباح 5 يونيو 1967، ومثلما اكتفي عند هزيمة 1956 بخطبة في الجامع الأزهر، اكتفي في هزيمة 1967 أن يعترف بأن التقديرات التي بنى عليها قرار الحرب لم تكن سليمة.
لم يحدث في تاريخ المملوكية الجديدة أو الدولة الحديثة أن يغزو الأعداء مصر وينجحوا في السيطرة على كامل سيناء مرتين إلا في عهد عبد الناصر، ورغم التدمير الذاتي لمشروعه السياسي مثل التدمير الذاتي لمشروع محمد علي باشا إلا أن كلا الرجلين تمكن من البقاء في السلطة لسببين: السبب الأول استمرار السيطرة على موارد البلاد تحت يديه حنى بعد تفكك احتكار محمد علي باشا وحتى بعد رهن كل موارد البلاد لإعادة بناء الجيش في حالة جمال عبد الناصر، والسبب الثاني هو أن كلا الرجلين لم يفقد السيطرة على رجاله كما فقدها إسماعيل فتم عزله بتواطؤ الداخل مع الخارج، أو كما فقدها أنور السادات فتيسر اختراق العرض العسكري ثم اغتياله في ذكرى نصره العظيم، أو كما فقدها مبارك حين تخلى عنه أركان حكمه كما تخلى عنه حماته في الخارج حتى أذعن لنطالب الثوار بالرحيل.
رغم هزيمة مشروعيهما السياسي لم يفقد محمد علي باشا ولم يفقد جمال عبد الناصر السيطرة على موارد البلاد ولا السيطرة على رجالهما ومن ثم احتفظ الرجلان بالسيطرة على المؤسسات -الجيش والبيروقراطية الادارية- ومن ثم احتفظا -في أشد لحظات الضعف بالسيطرة الكاملة المطلقة على مقادير البلاد وأنفاس العباد حتى مماتهما. وهذا ما لم يتوفر بهذه الصورة في حالات إسماعيل والسادات ومبارك، الثلاثة فقدوا السيطرة على الموارد، ثم فقدوا السيطرة على رجالهم، ثم فقدوا السيطرة على المؤسسات، ثم فقدوا السيطرة على الأحداث، ثم انفرطت الأمور من بين أيديهم، ففقد إسماعيل عرشه، وفقد السادات حياته، وفقد مبارك منصبه، ثم كان أول حاكم – في المملوكية الجديدة- يتم اعتقاله وحبسه وسجنه ومحاكمته.
2 – الأمر الثاني الذي أخذته المملوكية الجديدة عن المملوكية القديمة هو الشرعية الصورية أو الشكلية التي تضفي الطابع القانوني والأخلاقي على اغتصاب السلطة، الظاهر بيبرس اغتصب السلطة من قطز، وقطز اغتصبها من الأيوبيين، الأيوبيون كانوا يحظون بشرعية الموافقة على حكمهم من الخليفة العباسي، والخليفة العباسي تم إعدامه، والخلافة العباسية نفسها انتهت إلى الأبد، فقد دمرها المغول بصفة حاسمة عند غزوهم بغداد 1258، وكان التقليد السياسي في ذاك الوقت أن أي حاكم إقليمي يلزمه الحصول على صك الشرعية من الخليفة العباسي، وبدون هذا الصك يكون الحاكم فاقدا للشرعية السياسية وفاقدا لحق الطاعة من الرعية ولا تصح قراراته ولا يستقر حكمه، هذا رغم أن الخلافة العباسية حتى قبل سقوطها على يد المغول كانت خالية المضمون فاقدة للنفوذ الفعلي، وكان الخليفة نفسه رهينة بين يدي الحراس والحاشية، لكنها ظلت لمدة خمسة قرون ذات قداسة شرعية لدى عموم المسلمين في كل المعمور آنذاك.
بعد زوال الخلافة ومقتل الخليفة ظهر في الشام من يزعم أنه من نسل الخليفة، وفي ص 151 وما بعدها من كتاب “أسد مصر: السلطان الظاهر بيبرس والشرق الأدنى” تأليف المؤرخ الألماني بيتر ثوراو وترجمة المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم، الصادر عن دار عين للدراسات والبحوث الاجتماعية والانسانية، الطبعة الأولى 2015، نقرأ ما يلي: “أمر بيبرس بمقابلة هذا الابن المزعوم للخليفة العباسي بأقصى قدر من الاحترام وأن ترافقه حامية عسكرية من الشام حيث ظهر إلى القاهرة. وعندما اقترب سليل العباسيين المزعوم من القاهرة، خرج بيبرس نفسه، ومعه الوزير، وكبار الأمراء وأعيان المدينة، واليهود والنصارى، لاستقباله، وفي يوم 9 يونيو 1261 دخل العباسي القاهرة وسط احتفال شعبي، وركب إلى القلعة حيث خصص له السلطان بيبرس مسكنا يليق به، وبعد أربعة أيام جمع بيبرس مجلسا يضم قضاة القضاة – أي قاضي قضاة المذهب الشافعي وقاضي قضاة المذهب الحنفي وهكذا – والشيوخ والفقهاء والأمراء وأعيان المدينة، وتم استجواب البدو الذين اصطحبوا نسل الخليفة من الشام إلى القاهرة ومعه أحد الخصيان من خدم العباسيين، وأعلنوا جميعا أن المزعوم هو فعلا ابن الخليفة العباسي، وعندما تم التثبت من هويته على هذا النحو، وقال قاضي القضاة أن شهادتهم شهادة عدل، حمل الخليفة الجديد لقب “الخليفة الإمام المنصور بالله”.
“هنا قام السلطان بيبرس وبايع الخليفة وأقسم على أن يحترم القرآن والسنة النبوية، وأن يأمر بالعدل وينهى عن المنكر، وأن يقوم بفريضة الجهاد، وأن يفرض الضرائب وينفقها جسب شرع الله ومقتضى العدل”.
“وبعد ذلك، خلع الخليفة العباسي على السلطان بيبرس وصف السلطان الوحيد وسلطان العالم الإسلامي كله، وليس سلطان مصر والشام فقط، وإنما هو سلطان كل الأراضي الإسلامية وما سيفتحه الله عليه من بلاد الكفار”.
“وعند ذلك، حلف الحاضرون جميعا للخليفة كل حسب رتبته، حتى وصل إلى الناس العاديين، وأُعلن في كافة أنحاء مصر والدولة المملوكية أنه ينبغي على الأعيان وموظفي الدولة مبايعة الخليفة وذكر اسمه في خطبة الجمعة، ومنذ ذلك الحين كانت العملة تسك وهي تحمل اسم الخليفة العباسي والسلطان بيبرس معا”.
“بعد ذلك بعدة أسابيع ذهب السلطان والخليفة، ومعهما الحاشية وكبار رجال الدولة، إلى حديقة فسيحة خارج القاهرة، وهناك تلقى بيبرس من الخليفة شعائر السلطنة وهي: عمامة الخلافة العباسية السوداء، وثوب من المُخمل بياقة ذهبية، وزوج من الأحذية الذهبية، وبعض السيوف تقلد السلطان بيبرس سيفا منها، ورايتان، وسهمان طويلان، ودرع”.
“ثم خلع الخليفة خلع التشريف على عدد من كبار رجال الدولة”.
ثم قام رئيس ديوان الإنشاء، ابن لقمان، واعتلى المنبر، وقرأ المرسوم الذي أصدره الخليفة للسلطان، وكان ابن لقمان نفسه هو الذي كتبه، المرسوم يبدأ -كالعادة- بحمد الله والثناء عليه، ثم المديح من الخليفة في السلطان ومناقبه وسجاياه، لأنه أعاد الخلافة العباسية واستعاد حقوقها إلى آخر المرسوم كما ورد في الكتاب”.
استفاد بيبرس ثلاثة أشياء من هذه الشرعية الصورية، أولها أن حكمه شرعي فليس قاتلا ولا مغتصبا، ثم هذا ينطبق على باقي من معه من مماليك والدولة المملوكية بكاملها فلم تعد مغتصبة للحكم من الأيوبيين، ثم أضق الشرعية المسبقة على حروب بيبرس المقبلة وتوسعاته وفتوحاته سواء ضد الكفار أو ضد منافسيه من الحكام المسلمين.
التراث السياسي المصري -في جوهره- تراث مملوكي من هاتين الزاويتين، زاوية أن الحكم للقوة أو بالتحديد لمن غلب، ثم الشرعية الصورية والشكلية تكفي وتؤدي الغرض منها، طالما بقي الحاكم قادرا على الاحتفاظ بالسلطة استنادا للقوة بما يكفي لردع من يلزم ردعه أو احتواء من يجب احتواؤه. ثم إن الظاهرة المملوكية حكمت بين 1250 – 1517، لكنها كانت قائمة قبل ذلك، وبقيت بعد ذلك، اختلفت أشكالها عبر التاريخ، لكن بقي الجوهر على قدر من المرونة والتكيف تضمن له الاستمرار والتسلل عبر الزمن.
عندما فتك محمد علي باشا بأطلال المماليك في 1811 كانوا قد خرجوا للتو من فتك أشد على يد نابليون بونابرت لدى غزوه مصر 1798 – 1801 ثم كانوا قد تكيفوا عبر ثلاثة قرون تحت سطوة الحكم العثماني الذي فتك بهم أشد الفتك 1517، ثم بالتدريج استعادوا بعضا من قوتهم مع اضمحلال السلطنة العثمانية حتى استقلوا بعض الوقت 1768- 1772 عنها استقلالا كاملا، لكنهم وهم يناوئون السلطنة العثمانية كانوا قد أصبحوا عثمانيين لحما ودما، مثلما كان محمد علي باشا وهو يناوئ العثمانيين عثمانيا لحما ودما، طبعهم الزمن بطابعه مثلما هم -بدورهم- طبعوا التاريخ بطابعهم، منذ أصبح أهم أركان الإسلام وهو ركن الجهاد يقوم به العبيد المجلوبين من القوقاز وبلاد الشركس وجورجيا وجنوب روسيا، حتى صاروا هم حماة الإسلام في وجه الصليبيين والمغول، أكملوا المهمة التاريخية للدولة الأيوبية، حتى تحررت بلاد الإسلام من الصليبيين، ثم حتى المغول أسلموا وتحولوا إلى رصيد لقوة الإسلام، ثم بعد أداء المهمتين التاريخيتين تعفنت المؤسسة السياسية المملوكية وتركت من القيم السياسية الكامنة في ثقافة المجتمع -في مصر والشام- إلى اليوم والغد.
مثلما صنع مؤسس المملوكية القديمة -الظاهر بيبرس- شرعيتهم كسلاطين وشرعية حكمهم كدولة نافذة الكلمة على رعاياها بخليفة مزعوم مصنوع بأيديهم كل مهمته إمضاء المراسيم وحفظ الصورة العامة أمام الرعية، كذلك فعل المؤسسون الكبار للملوكية الجديدة، محمد علي باشا يحكم بفرمانات شكلية تأتي كل عام من السلطان، وأحيانا كانت لا تأتي، بل وأحيانا كان السلطان يعزله ويعلن تولية غيره، لكن محمد علي باشا كان يعلم أن الشرعية للقوة، لسلاحه في ذراعه، ثم فيما يملكه من عبقرية الخداع والمناورة والمداورة التي جعلت منه واحدا من أعظم المستعمرين والمحاربين والفاتحين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، قضى على من قضى من المماليك القدامى، ثم عين من بقي منهم واحتواهم في خدمته، ثم أسس مدرسة مملوكية جديدة ربما تصل إلى خمسة آلاف مملوك كان هم أركان دولته، بعد أبنائه من صلبه، ثم بعد أقاربه وأصهاره وعائلته الكبيرة، هؤلاء المماليك مع الأبناء مع الأصهار كانوا هم القيادات العسكرية لجيوشه كما القيادات البيروقراطية والإدارية والمدنية لمشاريعه في الطرق والصناعة والضرائب والجمارك والموانئ والبريد والري والزراعة إلى آخره.
– الشائع عن محمد علي باشا أنه قضى على المماليك الأقدمين، لكن الصحيح أنه قضى عليهم، أو بالتحديد أكمل القضاء عليهم -بعد تدمير نابليون بونابرت لقواهم- ثم شرع في تأسيس مملوكية جديدة، دولة محمد علي باشا هي دولة مملوكية محضة، لدرجة أن أعظم مؤسسات هذه الدولة وهو الجيش لم يكن أكثر من تجمع عظيم للعبيد من كل شكل ولون، فالضباط مماليك بيض مجلوبون من القوقاز وبلاد الشركس وجورجيا، والجنود عبيد سود مجلوبون من أفريقيا، كان هؤلاء هم قوام مشروعه الإمبراطوري، يتقدمهم أبناؤه وأصهاره وأقاربه، ثم من بعدهم العناصر الأوروبية، ثم الأرمن، ثم اليونانيين، ثم الأقباط المصريين، وقد استعمل الأقباط ثم انقلب عليهم ثم صادر أموالهم ثم أوحى لابنه إبراهيم بقتل كبيرهم المعلم غالي.
ثم الشائع كذلك، أن محمد علي باشا شيد دولة مؤسسات، جيش على النمط الفرنسي، تعليم على النمط الفرنسي، قوانين تجارية ومدنية فرنسية، مصانع مدنية وحربية إلى آخره، وكل ذلك صحيح، لكن في الحكم لم ينشئ دولة مؤسسات، بل حكم فردي مطلق شديد المركزية، والأثر الباقي من تراث محمد علي باشا السياسي هو ديوان “المعية السنية” أي شخص الحاكم وأقرباؤه وأشد الموظفين قربا منه وولاءً له، هذا الديوان، ديوان المعية السنية، بغض النظر عن الاسم والشكل هو الحقيقة السياسية الثابتة في الدولة المملوكية الجديدة من عهده إلى اليوم، فكل حاكم سواء من ذرية الباشا أو من ضباط الجيش له دائرة مقربة قد تأخذ الشكل الرسمي أو لا تأخذه لكنها موجودة ومؤثرة وفي العهد الجمهوري كانت ملحوظة أكثر في عهدي السادات ثم مبارك حيث فاحت ريحتها.
– تتفق مملوكية محمد علي باشا مع المملوكيات القديمة في أن الحكم لمن غلب وأن الشرعية للسيف مع الغدر ثم يكفي مرسوم من خليفة عباسي مصنوع أو فرمان من سلطان عثماني آيل للسقوط، ولكن المملوكية القديمة تختلف عن المملوكيات الجديدة في:
أ – مركزية السلطة وواحديتها فلا مجال للتنافس ولا للتنازع على رأس السلطة وقمتها، هو حاكم شرعي واحد فقط، مهما كان مصدر الشرعية، حدث ذلك من 1811 إلى وقت كتابة هذه السطور في خريف 2022.
ب – نشأة مؤسسات بيروقراطية مدنية منتظمة تدير كافة المرافق العامة حتى في حالات فراغ السلطة وغياب الحكم المركزي بصورة مؤقتة لأي سبب من الأسباب.
ج – توفر شبكة قمع قانوني منتظمة وتغطى كافة أنحاء القطر.
د – لم يعد سقوط الحاكم يعني سقوط الدولة.
المرسوم الذي كان يحتاجه بيبرس من الخليفة العباسي المصنوع، والفرمان الذي كان يحتاجه محمد علي باشا وذريته من السلطان العثماني أو من الملك البريطاني بعد 1914، أصبح هو الاستفتاء الشكلي أو الانتخابات الصورية التي يحتاجها الحكام من ضباط الجيش بعد ثورة 23 يوليو 1952 حتى اليوم والغد.