في العام 2018، أعلنت الجمعية العمومية بالشركة القومية للأسمنت التابعة للشركة القابضة للصناعات الكيماوية، إحدى شركات قطاع الأعمال العام، التصفية التي أرجعتها لعدم الجدوى الاقتصادية من استمرارها، وبسبب تآكل رأس المال لأكثر من 12 مرة، ما ضاعف الخسائر، التي وصلت إلى 861 مليون جنيه نهاية يونيو/ تموز من نفس العام.

قضى جمال محمد إبراهيم 20 عامًا عاملًا مؤقتًا داخل مصنع الشركة دون تثبيت، ورغم الوعود والعديد من الشكاوى التي لم تستجب لها الإدارة. وعند التصفية لم يحصل على أي تعويض، ومثله 150 آخرين من زملائه.

جمال والـ 150 الآخرين من زملائه كانوا يعملون بنظام “عمالة المقاول”، عبر شركات وسيطة تحصل على نصف راتب الراغب في العمل مقابل توفير فرصة بعقد مؤقت في أحد الشركات. وبناءً على ذلك لم تشمل هؤلاء الرعاية الطبية أو التأمين الاجتماعي، وعند تصفية “القومية للأسمنت” لم يحصلوا على أي تعويض. الأمر الذي زاد أعباء الحياة على كواهلهم بعد تسريحهم.

يقول جمال في حديثه لـ”مصر 360″: “ماذا أفعل بعد 20 عامًا من عمل داخل الشركة، لم تبق أمامي فرص حقيقية. أعمل حاليًا عتالًا بالأجرة في العاصمة الإدارية كي أوفر احتياجات أسرتي”.

صارت حياته أسوأ حاليًا. لكنها لم تكن أيضًا في أفضل حال طوال 20 عامًا مضت بقى فيها ضمن العمالة المؤقتة. يحكي “جمال”: “في إحدى السنوات تعرض ثلاثة من زملائي لإصابة عمل أحدثت عاهات مستديمة لهم بالأطراف، بينما توفي آخر سحبه السير. حينها رفضت الشركة منحهم أي تعويضات، ولم تنفعهم حتى السُبل القانونية، فهم عمالة مؤقتة يقعون تحت مسئولية الشركة الوسيطة التي تجبرهم على عقود عمل منزوعة الحقوق”.

نزيف الخصخصة

نزيف العمالة المدربة هذا عرفته مصر في تسعينيات القرن الماضي، مع شيوع مصطلح الخصخصة “Privatization”. وقد لجأت له العديد من الدول المتأخرة صناعيًا واقتصاديًا، مبررة تلك السياسة بالخسائر التي تتعرض لها الشركات الحكومية. بينما عادت لها الدولة مجددًا في السنوات الأخيرة تحت ضغوط شروط صندوق النقد.

وقد أعلنت الحكومة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، عن دراسة أعدها مركز معلومات مجلس الوزراء أوصت بـ«مجموعة من الآليات المقترحة لتمكين القطاع الخاص. منها تحديد القطاعات الرئيسية التي ستستمر بها الدولة، والقطاعات التي ستخرج منها، والقطاعات التي سيتم الخروج التدريجي منها. إلى جانب إعادة إصلاح القطاع العام من خلال الإبقاء على الشركات الكبرى في القطاعات الاستراتيجية والأكثر أولوية، والتخلي عن الشركات في القطاعات الأقل أولوية.

منذ 2018 وحتى الآن، تمت تصفية ثلاث شركات كبرى؛ هي: القومية للأسمنت، تلتها الحديد والصلب، وأخيرًا النصر للكوك. بينما تنتظر في الطريق العديد من الشركات الأخرى، منها الدلتا للأسمدة المتوقفة منذ عامين، والنصر للمطروقات التي يتم تجهيزها وفقًا لمصادر بشركة الكوك.

مئات العمالة المؤقتة عصفت بهم عملية التصفيات تلك، أقلهم أمضي 9 سنوات في الخدمة، أو خرج بعاهة مستديمة من العمل دون تعويض أو تأمين. ذلك في ظل انخفاض دخل مادي وتدني أوضاع اقتصادية، كانت هي العامل المشترك بين كل العمالة المسرحة بعد التصفية، ممن فشلوا فى الحصول على وظائف أخرى، في وقت لا يتقاضى فيه أغلبهم معاشًا لعدم استكمال المدة القانونية للحصول عليه (25 سنة)، وفقًا لقانون التأمينات والمعاشات رقم 148 لسنة 20019.

أي تعويض ممكن؟

حتى العمالة المثبتة لم تنجح بضعة آلاف حصلت عليها كتعويض نظير الخروج المبكر من العمل، في تأمين مستقبلها، أو تحقيق عائد مادي مجز بادخارها في البنوك، يساعد في الإنفاق على الأسر وتدبير الاحتياجات الأساسية.

محمد قرني، أحد ضحايا تصفية الشركة القومية للأسمنت بحلوان، يبلغ من العمر 45 عامًا، وقد أمضى مدة خدمة في العمل تبلغ 13 عامًا، حصل على مبلغ 200 ألف جنيه تعويضًا عنها في 2019.

وقتها، تصور “قرني” أن المبلغ الذي تقاضاه قد يحقق عائدًا مقبولًا إذا ما استثمره كوديعة بالبنك. “كنت أقول لنفسي قد يكون العائد بديلًا جيدًا عن المرتب لتدبير تكاليف المعيشة. لكن خاب ظني. خاصة بعد خفض قيمة الفائدة”.

لقد أصبح إجمالي ما يحصل عليه “قرني” من عائد شهري عن الـ 200 ألف جنيه لا يتجاوز 1600 جنيه.

لم ينقذ “قرني” سوى أنه في منتصف الأربعينيات من عمره، وما يزال يتمتع بصحة جيدة، مكنته من الحصول على عمل آخر في إحدى الشركات الخاصة. يتقاضى مبلغ 2500 جنيه في الشهر.

يقول: “الحمد لله مستورة. لكنني فقدت الأمان الوظيفي، فلا تأمين اجتماعي يشملني في عملي الجديد ولا معاش عن عملي السابق يعينني حين لا أقدر على العمل”.

بحسب قانون التأمينات الاجتماعية، لا يحق لـ”قرني” الحصول على معاش، لأنه أمضى بـ”القومية للأسمنت” 13 عامًا فقط، وهي أقل من المدة القانونية المستحقة للمعاش (25 عامًا).

كانت “القومية للأسمنت” آخر الشركات العامة التابعة لقطاع الأعمال في إنتاج الأسمنت. وقد تأسست عام 1956 في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكانت تحقق مكاسب وفقًا للحكومة حتى سنة 2012، وبدأت الخسائر عام 2013 بإجمالي 138 مليون.

وفي 2018 مبررًا التصفية، قال محمد حسانين رضوان، رئيس مجلس إدارة الشركة، إنه كان من المفترض إيقاف تشغيل الأفران بالشركة بعد قرار تحرير سعر الصرف الأجنبي “التعويم” في 2016. مضيفًا أنه لو تم إيقاف تشغيل الشركة منذ عامين (2016) لاستطعنا إنقاذ الشركة من خسائر بقيمة 2 مليار جنيه.

تبلغ مساحة “القومية للأسمنت 300 فدان تقريبًا. وتقع بموقع متميز على الطريق الدائري الجديد بحلوان. وتم بيع جزء منها لشركة بترول لمد خط غاز يصل إلى العاصمة الإدارية الجديدة.

الدلتا للأسمدة.. أين الوعود؟

في 2020، توقفت شركة مصانع سماد طلخا الدلتا للأسمدة عن العمل. ذلك بسبب رفض الدولة تخفيض أسعار الطاقة لها، في الوقت الذي تستحوذ الدولة على كل إنتاج الشركة بسعر مخفض لدعم المزارعين ووزارة الزراعة، كما يقول توكل أبو السعود عضو اللجنة النقابية سابقًا بالشركة.

وقد أدى ذلك إلى خسائر كبيرة. يضيف أبو السعود: “رفع سعر الغاز للمليون وحدة حرارية من 2.5 دولار 4.5 دولار في سنة 2016 كان يؤدى إلى خسارة مبلغ 1600 جنيه في الطن، بإجمالي 45 مليون جنيه شهريًا. إضافة إلى أجور العمال 700 مليون في السنة”.

وقد استمرت أزمة الشركة، حتى أعلن في أغسطس/ آب الماضي، عن انتهاء الشركة القابضة للصناعات الكيماوية من توقيع عقد دراسة تطوير مع شركة (أودا) الألمانية لبحث تطوير الشركة.

ومنذ صدور قرار وقف العمل تلقى العمال وعودًا بتحويلهم إلى شركة النصر للأسمدة (السويس). الأمر الذي لم يحدث إلى الآن، وفق ، الذي أشار إلى توقعات بتوقف النصر للأسمدة في السويس أيضًا.

يحصل العاملون في مصانع سماد طلخا الدلتا للأسمدة على مرتباتهم حاليًا من الشركة القابضة للصناعات الكيماوية.

عملاق الحديد والصلب في المزادات

خضع عملاق صناعة الحديد والصلب بحلوان للتصفية في 2021، وتحول 6 آلاف عامل بجرة قلم إلى سائقي “توكتوك”، وعتالين و”تباعين” على سيارات نقل، وفقًا لعمرو عبد الرشيد هلال أحد العاملين السابقين بالشركة.

يضيف: “نسبة الشباب بين عمال الشركة من سن 35 إلى 40 عامًا حوالي 2800، حصلوا على مبالغ تعويضية تبلغ 200 ألف جنيه. أما العمال أقل من سن 57 سنة، استكملوا المدد القانونية لاستحقاق المعاش وحصلوا على تعويض بقيمة 450 ألف جنيه. حيث تم احتساب فارق بدل معاش عن كل سنة بقيمة 900 جنيه لحين بلوغه سن الستين لتقاضي المعاش”.

تخضع الشركة حاليا للمصفى العام، حيث تم تقسيمها لبيع كل جزء على حدا، بدأت ببيع الخردة. وقد أعلنت الشركة عن مزاد علني يوم ٢٨ سبتمبر/ أيلول الجاري لبيع خط إنتاج كامل تشكيل على البارد بمشتملاته. فيما كانت آخر المزادات التي عقدت على قطع الغيار وأسطول السيارات الأسبوع الماضي.

تبلغ مساحة شركة الحديد والصلب 250 فدانًا بمنطقة التبين بحلوان جنوبي القاهرة. كما تمتلك بعض الأراضي بالإسكندرية، منها شون للتصدير. وتضم الشركة 16 قطاعًا: الورش – المكينات – المسبك – ورش الكهرباء والصيانة، التي تعتمد عليها العديد من الشركات الكبرى في صيانة مواتيرها، مثل الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع وغيرها.

يقول هلال، لـ “مصر 360”: “كانت الحديد والصلب رائدة في صناعة الفلنكات وقضبان السكة الحديد. لو كانت هناك رؤية  مستقبلة مع التفرع الكبير والتوسع فى إنشاء خطوط المترو والقطار الكهربائي حاليًا ما تمت تصفيتها والاتجاه لاستيراد هذه الاحتياجات من الخارج بتكلفة تبلغ أضعاف إنتاجها محليًا”.

الكوك.. صناعة استراتيجية فقدنا خبراتها

في أغسطس/ آب الماضي، أعلن وزير قطاع الأعمال العام السابق هشام توفيق، أن قيمة التعويضات للعاملين بشركة النصر لفحم الكوك بعد التصفية ستكون موازية لعمال الحديد والصلب التي تعرضت للتصفية قبلها بعام. الأمر الذي استقبله العمال الذين استسلموا لقرار التصفية بالسخط. ذلك لتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار خلال الفترة الأخيرة. وقد طالبوا برفع قيمة التعويض.

في أوائل سيتمبر/ أيلول الجاري، قررت الجمعية العامة غير العادية لشركة النصر لصناعة الكوك، تصفية أعمال الشركة رسميًا بعد نحو 62 عامًا من تأسيسها. وحتى الآن لم تجر مفاوضات فعلية بين العمال والشركة حول قيمة التعويضات ومدة الحصول عليها.

يقول أحد مهندسي الشركة بقسم إنتاج أول كوك -تحفظ على ذكر اسمه- إن الشركة تمت تصفيتها لضم أرضها إلى شركة الحديد والصلب، بهدف الاستثمار العقاري. بينما يشير إلى مساعي لضم جارتهما الثالثة شركة النصر للمطروقات.

وتمتلك الشركة حاليًا 2000 ماتور قوة الواحد تبلغ 60 حصان، بقيمة المالية تتجاوز 80 ألف جنيه، من المقرر أن تباع خردة.

وقد تم فرض واقع متردي على الشركة لإظهار أنها خاسرة، رغم أن صناعة الكوك صناعة متكاملة. فالغاز المستخدم في الأفران ينتج من الكوك، ولا تحتاج الشركة إلى شراء الطاقة مثل باقي الشركات.

ويدخل الكوك مكونًا أساسيًا في صناعة مسابك النحاس، وإنتاج الصابون والأسمدة. كما أن غاز الكوك وحده يستخرج منه 22 منتج آخر، منها (الميثان – النفتلين – النترات والأمونيا – أول أكسيد الكربون – القطران).

وتستهلك مصر كميات سنوية من الكوك تُقدر بـ 150 مليون دولار، سوف تعتمد على استيرادها بالعملة الصعبة بعد وقف هذه الشركة.